loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

الـنَّـصُّ وانـفـتـاحُ الـمَـعـنـىٰ

breakLine

 

 

د . علي حسين يوسف || كاتب وناقد عراقي


كانَ النَصُّ سابقاً موضوعاً للبحثِ عنْ مَعْنىٰ مُحدّدٍ ينشدهُ القارئ , إلّا أنّ الأمرَ لمْ يعدْ كذلكَ بعد الانتباهة الذّكيّة لحقيقة العلاقة بين الدّالّ والمدلول معَ شيوع فلْسفةِ النقدِ المُعاصر, فقدْ تحوَّلَ النّصُّ الى محطّةِ عبورٍ نحو معانٍ متكثّرة لا حصرَ لها , فلم يَعُدْ للمعنىٰ المركزيّ الجاهز قبليّاً وجودٌ أصلاً , لقد تلاشىٰ في خضم الانزياحات والتّشظي الدّلالي ، وهنا أصبحت القراءة تعني البحثَ والمغايرةَ والاختلافَ المستمر .


إنَّ التحوّلَ الكبيرَ في مسارِ العلاقةِ بينَ النصِّ والمعنى يندرجُ ضمنَ حركةٍ عالميّة بدأت بالشّعورِ الجارفِ لمجاوزة سطوة السّرديّات الكبرىٰ بعدّ أنْ مارست تلك السّرديات حجباً فضيعاً للمعاني من أجلِ تبريرِ مقولاتِها .


فالنّصوصُ في ضوءِ الفلسفةِ النقديّةِ المعاصرةِ ــ أيّاً كانتْ ــ تمثّل في حقيقة الأمر نسيجاً من الاستعاراتِ والتّشبيهاتِ , فهي شفراتُ مفاهيمٍ مفتاحيّة وليستْ بمفاهيم ، وتراكماتٌ مجازيّةٌ وليستٌ بحقائق , كما يرى نيتشه , لذلك يُعَدُّ النصُّ قولاً خادعاً إنْ هو حُمّل بما لا يَحتمل أو قُصر على ما يوافق السّائد الآيديولوجي فقط ، لأنّهُ حينذاك سوف يبدو متَستّراً على ما لا يقولهُ ، والواقع أنّ ما يسكتُ عنه النصُّ هو الذي يفترض أنْ يدفعنا للتفكيرِ به وليس ما أُعدَّ حولهُ مسبقاً في الذهنِ ، وهذا كفيل بأن يجعله غرضاً للاستكشاف المستمرّ وإعادةِ البناء الدائم , وحسب هيدجر أنَّ فلسفته كانت تصبّ في هذه النقطة بالذّات .


إنَّ النّصَّ ــ بعدَ ذلكَ كلّه ــ موضوعُ لذةٍ واشتهاء , فهو كالجسدِ عندَ بارت ؛ يفتحُ الشّهيةَ للقراءةِ المتجدّدةِ , والنصُّ الذي لا يتّصفُ بذلك فهو ليسَ بنصٍ أصلاً . 


نستخلصُ مما تقدمَ إنّ النصّ يـتأسّسُ على اللا معنىٰ المعدّ سلفاً , إذ أنَّ المعاني الجاهزة المُعدّة مسبقاً تضادُ تماماً فكرةَ النصّ في أصلِ وضعِه إذا ما أدركنا أنَّ النصّ عابرٌ للمعاني المحدّدة , وهو يضادّ العملَ الأدبيّ , فالعملُ الأدبيُّ يمكن عدّه وحسابه , أمّا النصَّ فمــجاله منهجيّ ، والعمل الأدبيّ ـ أيضاً ـ يمكن الإمساك به .. إنّه في أيدينا , أما النصُّ فهو ما يوجد في اللغة وقت الإنتاج كما يشير إلى ذلك معجم المصطلحات الأدبيّة الحديثة , إذ يرى بارت أنّ النصَّ شيءٌ لا يمكن الإمساك به , فلا يمكنه أن يشغل حيّزاً مثل الكتاب , أو أن يوضع في مكتبة , أو أن يُحمل باليد , أو يوضع على رفّ ، ذلك أنّ مجاله إجرائيّ بحت , لا يمكن تحديده , وبذلك فهو عكس العمل الذي يمكن أن يُضمّن في كتاب أو يوضع في مكتبة , وقد يفهم من هذا الكلام أنَّ النصَّ يمثّل سيرورة في طور التّكوين دائماً بدليل قول بارت في مقالته من العملِ إلى النصِّ : (( ليسَ النصّ مقترن الوجود بالمعنى ولكن بمروره وعبوره )), وهذا يعني أنّ النصّ شأنٌ من شؤون القارئ ، لذلك فهو أوّلاً : شيء غير مكتمل دائماً ، ثُمّ أنّه تبعاً لذلك شيء في حوزة القارئ ، فلا مؤلّف له ، أمّا دريدا فقد ذهب مذهباً آخر في أمر النّصّ حينما وجد بأنّه لا وجود لشيء خارج النّصّ , وهو يريد بالنّصّ الكتابة التي تمثّل عنده المقام الأوّل الذي عن طريقه نظلّ نبحث عن الأثر الذي لا يمكن أن يوجد في يوم ما (( لأنّ مجيء اللغة هو مجيء اللعبة ، وترتدّ اللعبة اليوم ذاتها فتمحو الحدّ الذي تصوّرنا أن بمقدورنا , تنظيم حركة مرور العلامات انطلاقا منه , وتأخذ في غمارها كلّ المدلولات الباعثة على الاطمئنان , وتقلّص كلّ الأماكن الحصينة وجميع المناطق التي كانت تحرس حقل اللغة خارج اللعب ، وهذا يعني بكلّ صراحة تدمير مفهوم العلامة وكلّ المنطق المرتبط به)) بحسب ما ذكره دريدا في كتابه المهمّ في علم الكتابة .


وفي أبيات تنسب لطرفة بن العبد البكري المتوفي حوالي سنة ٦٨ قبل الإسلام يبدو لنا على سبيل المقاربة للوهلة الأولىٰ أنّها تتضمّن موضوعة واحدة تظهر لنا بارزة طالما أكّد عليها الشّعراء في العصر الجاهليّ والعصور التي تلته أيضاً ، تتمثّل بما سمي بـ (لوم العاذلة) ، لكنّ القراءة المتأمّلة تظهر خلاف ذلك فمع الإقرار بموضوعة العاذلة وحضوره بوصفها إحدى لَبنات تفكير الشّاعر فهو يمثّل مدخلاً جيّداً لبسط المعاني المتعدّدة والأفكار والرّؤىٖ الوجوديّة التي يؤمن بها الشّاعر من خلال معارضة العاذلة التي غالباً ما تكون الزّوجة لكنّه يخفي وبالأهمية ذاتها دلالات ومعانٍ كثيرة  .
وهنا نجد طَرَفة يلوم عاذلته لأنّها تحثّه على جمع المال والبخل به حين تظنّ أن الغنىٰ هو الخلود الحقيقي للإنسان لكنّ الواقع الذي يراه الشّاعرُ خلاف ذلك تماماً فالعاذلة نسيت أنّ الثّراء مصيره الزّوال ولا يمكن أنْ يخلّد الإنسان إنْ لم يصحبه موقف نبيل يتمثّل في الكرم ومشاركة الآخرين ، نجد الأبيات قد جمعت أكثر من معنىٰ فقد أكّدت أولاً على فضيلتين مهمتين من خلال معارضة العاذلة وهما : الكرم والحكمة فقد اظهرهما الشّاعر بوضوح إذ أنّ النّسق الاجتماعيّ اعتاد ابرازهما ، ثمّ أنّ الأبيات تضّمنت اصرار الشّاعر على اثبات الذّات من خلال الانوجاد في الزّمن المستقبل مستخدماً المعارضة لطرفٍ ربما لا وجود له أصلاً مّما أتاح لرأي الشّاعر أن يبقى دون معارضة وتفنيد  .


وهذه النّظرة الوجوديّة التي انماز بها طَرَفة من بين سائر شعراء عصره طالما تمثّلت لنا في حكمة الموت وضرورة التبصّر في الحياة ، فالإنسان لابدّ أن يزول يوماً لكنّ الفعل النبيل يبقى أثره لا يزول فضلاً على وفرة المعاني الدّالة علىٰ الأمل في الخلود وامتداد الأنا عبر الزّمان والاعتداد برجاحة العقل والظهور بمظهر الحكيم وغيرها  .
قال طَرَفة بن العبد :


وَتَقولُ عاذِلَتي وَلَيسَ لَها        بِغَدٍ وَلا ما بَعدَهُ عِلمُ
إِنَّ الثَراءَ هُوَ الخُلودُ وَإِنَّ    المَرءَ يُكرِبُ يَومَهُ العُدمُ
وَلَئِن بَنيتُ إِلى المُشَقَّرِ في  هَضبٍ تُقَصِّرُ دونَهُ العُصمُ
لَتُنَقِّبَن عَنّي المَنِيَّةُ إِنَّ           اللَهَ لَيسَ لِحُكمِهِ حُكمُ


فالنصُّ ـ كما نلحظ ـ مليء بالفراغاتِ والزلّاتِ الملازمةِ لهُ , وهذه هي طبيعته البنيويّة وهذا أيضاً ما يسمحُ لنا نحن القرّاء أنْ نضيفَ رؤيتَنا داخل هذهِ الفراغات . 


ومعنىٰ ما تقدّم : أنَّ النصُّ يمارسُ حَجْباً على الحقيقةِ التي نظنّها موجودة بين ثناياه لذلك يقومُ بإجراءاتِ منعٍ واستبداد لما لمْ يقلْهُ فيبدو حينها ظنينا بما تصورناه ، لذلكَ يظهر في موضع شبهةٍ وعدَمِ ثقةٍ والواقع أنّهُ نسقٌ من العلاقاتِ النسبية الرجراجةِ ، والمعنى فيه يفترض أن لا يدلُّ على ذاتهِ بلْ يدلّ على موقعهِ ونسبتهِ واختلافهِ معَ غيرهِ ، كما لاحظُ  ديلوز ذلك قبل سنوات , وهو كذلك يفترض أن يكون ساحةُ تبايناتٍ ، واختلافاتٍ وولاداتٍ مستمرةٍ للمعاني غيرِ المكتملةِ ، فالمعاني لا تكتمل أبداً وهي تدور بمدار السّياق والذات وقد انتبه دريدا لذلك بفطنته وألحّ عليه .

 

 

 

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي