loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

زيد النار : تقنيّة السّرد ومنولوج نسخ الإشارة

breakLine

 


حامد عبدالحسين حميدي / كاتب عراقي

 

 

حينما تحاول أن تقرأ قصة ما ، تشدّك العنونة الى فحوصات أخرى ، تحاول أن تبحث عنها ، وكلما مارست حقك في المغامرة بقراءتها مرات عدّة ، أحالتك الى النظر في ما تثيره من جدلية القراءة الفاحصة ، القاصّ مغامر لكن المغامرات تختلف ، والقارئ الفاعل .. تتاح له فرصة المغامرة ايضاً ، فهي تدعوه وتحثّه على القيام بذلك ، هنا / نجد تفاعل القارئ ومدى قدرة القاصّ على جذبه من خلال مرتكزات قصصية ، تفتح أفقها أمامه ، فما الخزين والرصيد الثقافي الذي يمتلكه القاصّ والروائي ( جابر خليفة جابر ) ؟ معاً نقف عند جملة من الأمور :- 
• ذاكرة ( جابر خليفة جابر ) ذاكرة رصينة .. تمتاز بموروثٍ تأريخي ، ينزّ بالإحداث الشيّقة ، حيث استطاع أن يحرك ويفعّل القارئ بها ، يزجّه في أتونها ، يراوغه وحسب معطيات القصّة . 
• لغة القاصّ التي تحدّث بها ومستوياتها الدلالية التي يحاول أن يسوقها الى القارئ  ، فيها من القوة والرصانة والسهولة التي تجذب القارئ حدّ الافراط في الرغبة الكاملة بالعودة الى القراءة الثانية أو الثالثة دون الشعور بالملل والرتابة ، لذا / استطاع ( جابر خليفة جابر ) أن يتحكم بلغة قصصه ما بين اللغة الفصيحة الشيّقة واللهجة العاميّة المتناثرة هنا وهناك وبقلّة واضحة ، أضف الى ذلك تضمينه للغة الانكليزية والكردية وفي مواضع عدّة ، لأنه وجد في حضورها المتناسب ما يوحي للمتلقي والقارئ كون شخصياته تتطلب منه أن ينوّه اليها بالترابطية التي تحمل سمة المفاعلة السردية .
• خطابات قصصه عبارة عن رسالات متواصلة البثّ والاتصال ، فيها اشارات واضحة عمّا يرغب أن يطرحه من مضامين وطنية وقضايا مجتمعية وانسانية ، إنه يعيد صياغة احياء الماضي بصورة الحاضر لكن بتناظرية تدلّ على براعته وتمكنه من أدواته ، ليرينا أنّ التاريخ ينسخ الأحداث بالتوالد ، حتى وإن تغيّرت الامكنة والأزمنة ، الا أنها تبقى تسير بخطوط بيانية ذات منحى تأريخيّ جاذب للحدث . 
• وفّق القاصّ في تحفيز مكامن التقنيات التأريخية التي اعتمدها ، و تفعيل مستويات المنولوج من حيث توافر مداخلات ما تقوم به شخصياته على أرض الواقع ، شخصيات جمعت ما كان ويكون وسيكون ، ما بين الاسطورة والخيال والواقع .
• اعتمد القاصّ على رصد تحركات وتصرفات وأحاسيس شخصياته الواقعية ، ضمن مديات مخطّط لها مسبقاً ، فهو يتعامل بحرفية في توظيف الصور وتفاعلها مع حدثية الافعال والأزمنة ، إكسابها صبغة انسانية كبرى ، لأنّ قصصه جاءت لأجل هذا الأمر .

( زيد النّار )  للقاصّ ( جابر خليفة جابر )  برؤية جديدة ، وأسلوب شيّق ، اعتمد على المقارنة والتضادات الواقعية التي تنشّط فينا رؤية محفزة من أجل الاثارة والتحفيز الداخلي ، حيث ضمّن في كلّ قصة له ، رسالة ذات ابعاد تعبوية وأهداف مرسومة ، ومحسوبة ضمن فكرة التوصيل الهادف .

تقنيّة الصراع النفسي في .. ساعة آمنة

فيما يحاول القاصّ أن يعقد مقابلة بين مكانين وشخصيتين ، كان لهما الحضور الكبير في تنشيط الحركة التجارية في الاسواق ، بمجازفة حيث : ( .. ، كنت في سوق حنا الشيخ ، اشتريت نظارة للقراءة ، وأشياء خفيفة أخرى ، عريق هذا السوق ، استحضرت تاريخه ، وكيف جازف أحد ابناء هذه الاسرة العراقية وشيّده بعيداً عن حركة المارة ، على الضفة الاخرى لنهر العشار ، ليقابل سوق الهنود المزدحم ويزاحمه، بالتفاتة رجل اعمال بارع اعفى الباعة والتجار من الايجار لثلاثة اشهر فاستدرجهم ، عبر بعضهم الجسر الصغير ، ونقلوا بضائعهم الى متاجره الجديدة ، عرضوها باسعار اقل من بضائع سوق الهنود ، وشارع الكويت فجذبوا الناس ، ومنذ تلك المغامرة وحتى اللحظة ، وسوق حنا الشيخ عامر بالتجارة ، وبالمارة والمتسوقين . )  ، ثمّ : ( ..، وبمغامرة ظلت حديث لندن لسنوات ، قرّر هاري سلفريدج ان يشتري أرضاً بسعر رخيص ، ويبني عليها متجره ، حيث المكان خاليا من المارة والمتسوقين ، وحيث الروائح الكريهة تملأ الجو ، ولكي يتفادى الاسطبلات وما تنشره في فضاء المكان من روائح ، تفتق خياله عن ابتداع إجراء مثير هزّ الاوساط اللندنية المحافظة حينها ، إذ أقدم على جعل جناح العطور في مقدمة المتجر ، وهذا ما لم يقم به أحد في ذاك الوقت ... ) (  )  ، بهذا الأفق المفتوح تتوائم لدى القاصّ مقابلات متعددة ، تنوّعت حسب رؤية خاصّة ، تميّزت بالتكثيف الذي جعلها الأقرب الى ذائقة القارئ .
هي ( آمنة ) بنت القاصّ نفسه ، التي هيّأها القاصّ - فكرة - لهدف خاص ، يحاول أن يستدرجه الينا عبر سؤالاتية مثلت جذوة انتفاضة ، عما يدور حولها .. القاصّ : مولع بالتدوير و الربط بين الاشياء المختلفة ، باستخدام المتضادات والمتناقضات ، لكن هذه المتناقضات لها حيزها المؤثر الذي تعمل وتتحرك ضمن نطاق دائرة مفتوحة  . 
وما اصرار القاصّ على ترديد عبارة : ( قصتنا ، أنا وأبي والشاي ، لا تنتهي )، على لسان ابنته ( آمنة ) إلا تأكيد على الصراع النفسيّ الحاد ، الذي يحيلنا الى قراءة ثانية لهذا الواقع المأساوي ، هذه الثلاثية المتخمة بالضغط المنبسط ، الذي قد يشعر بها القارئ الفاعل ، اذا ما تنبّه اليها ، إلا دليل تقنية براعة القاصّ في تحديدات خطابية مرسلة : ( أعادتني ساعة آمنة الى اجواء لندن حيث اشتريتها من اكسفورد ستريت ، متجر سلفريدج تحديداً ، ماركة عالمية طبعاً ، صنع في انكلترا ، اتذكر هذا بوضوح ... )  

ليبدأ القاصّ في سرد ما يريد ، فما حوله في لندن أو أي دولة غربية ، له تأريخ خاصّ وحكاية ، وهو يصرّ على أن ( الساعة ) لها مدار ثابت في قصته هذه :
( وقتها ( 1886 ) وتحت ظل تمثال الحرية المطل على خليج نيويورك .... ) وقوله : ( ... ، سحب هاري سلسة ساعته الفضية التي غنمها جده لأمه في حرب الاستقلال من جندي انكليزي قتيل ، اخرج هاري سلفريدج ساعته ، نظر الى ارقامها بتركيز قرأ الوقت ، وربما قرأ معه سنوات كثر مقبلات ، .... )  

لم يجد بدّاً من ان يستعرض هذه الحادثة التي وقعت ، كونها تشكل حركة توصيلية في طرح اسئلة عما يجري ، لماذا هذا السرد القاتل فيما يخصّ الساعة بوصفها ، حدثاً فاعلاً في القصة ؟ وما وجه الترابط فيما يجري معنا ؟  
ينتقل القاصّ ( جابر خليفة جابر ) وحسب تداعيات ، ومسوغات تحفيزية الى ( بغداد ) ليجري مقارنة مع ما ذكر آنفاً : ( والى بغداد هاجر عمار يوما ما سنة ( 1999 ) بعد أن وقف عند ظل بيته المهدم ، وقف لدقائق ، وكان الوقت ظهراً ، - قرأ الوقت في ساعة يده ، ولعله قرأ ايضا سنواته القادمة – كان الموقف خطيراً ، قد يعتقل في اية لحظة ، ربما في أقل من دقيقة ، كما قيل لي ، ...  )

القاصّ في حالة مقارنة ، بين اختلاف السّنوات والأمكنة والشخصيات والأحداث ، هذا الفارق الكبير ، أتاح لنا أنّ : " هاري الامريكي في سنة 1889 وتحت ظل تمثال الحرية والوقت لديه في تغيير وتحرّر نحو الافضل روحاً وفكراً / بينما عمار العراقي ( العقدة الاساسية في القصة ) في سنة 1999 ، عند ظلّ بيته المهدّم ، والوقت هو اعتقال ومداهمة ،.. " هذا الشعور يحلينا الى الاحباط والانكسار واليأس ، لما نعانيه من ظلم الانظمة الديكتاتورية ، يحلنا الى مدّ النظر الى الطرف الآخر ، كيف يجد نفسه في ضوء فضاءات رحبة واسعة ، فالحريّة الشخصية وضياعها لها ابعادها المميزة ، والتي تغنيك عن اشياء كثيرة ، وكما أن استشهاد ( عمار ) على يد الجنود الانكليز الذين احتلوا وطنه ، شكّل شحنة من العاطفة المتّقدة وصلت الى ذروة الحدث الذي غصّ باختناقات عارمة : ( ... لا أرى الا قميص عمار كأنه الآن طريّ بدمه ، تحتضنه كفّا أمّه ، بقلبها تحتضنه ، تضمّه الى صدرها ، تشمّه وتبكي .. )   .

بهذه اللوعة والتوجّع في تصعيد الموقف السّردي ، يمضي القاصّ .. لكن ( آمنة ) كثيرة الاسئلة والفضول ، تحاول أن تحظى بإجابة تشفي غليلها ، لذا نجد ( جابر خليفة  ) حريصاً في تنشيط هذا السؤال : ( قلت لنفسي ما فائدة كلّ هذا مع هذه البنت ، تسألني عن الحاضر المرّ ، وسأضطر للقول : أن العراق الان ، كل العراق يا آمنة مكتوب على خريطته : صنع في الخارج ! 
كدت أن اجيبها بهذا ، لكني سكتُّ وتشاغلت بالكتابة مردداً جملتها ثانية : قصتنا أنا وأبي والشاي لا تنتهي !  )  . 
بهذا الاسلوب استطاع القاصّ أن يفرّ ويتخلص من حرجية السؤال ، لأنه يعلم يقينا ً أن الامس كان فيه حضور للصناعة وفي الحاضر انعدمت ، ولأسباب معروفة ، هي سياسة تجهيل البلد من التطوّر والصناعة ، ومحاولة شدّه في أتون الحروب والخراب والضياع والتهجير ، التي اصبحت مفردات يومية نتعايش معها ، لكنها قاسية جداً على عقولنا وأفكارنا وأجسادنا ، لما تركته من انطباعات مأساوية على سيكولوجية نفسية الانسان العراقي ، إنها مخلفات سياسة خاطئة ، ليصل بنا القاصّ من خلال هذا السؤال :
( ، .. لكن لا وجود لعبارة صنع في العراق طبعاً ، لا هنا ولا هناك ، ولا في أي مكان في لندن ، ضحكت في سرّي عن أي صناعة أتحدث ؟ حتى في العراق ذاته لا وجود لعبارة صنع في العراق ، ليس للساعات وحدها ، بل لكل شيء ، كل شيء مستورد ، لذا حين سألتني آمنة : هل توجد ساعة منقوش عليها صنع في العراق ؟ سكتُّ ، لكنها لم تنس سؤالها ... ) .

مثلما قلنا : أنّ القاصّ هيّأ ( آمنة ) لاعتبارات مستقبلية ، لأنها رمز الغد المغيّب في مجاهيل الحاضر ، وهو يجرّ اذيال سؤالها البريء البسيط جداً ، لكنه لا يعثر على بصمة كي يتكأ عليها ، هكذا صوّر لنا ( جابر خليفة جابر ) أن الصناعة في العراق ، لا وجود لها وكأني به ، يجرّ حسرات ومكابدات ، بل يلفظ انفاسه بصعوبة ، لأن سؤال ( ابنته ) ايقظ فيه حقيقة الخيبة والخذلان ، حقيقة لا يمكن أن يكون لها حيز على أرض الوطن : ( فقلت : عمّار ، عمّار صنع في العراق ، وسكتنا معاً ، كادت تبكي ، لاحظت دمعتها ، وانتبهتُ للشاي ، اختطفته من يدها المرتعشة ولأغيّر الاجواء ، ارتشفته وأنا اردد ما كتبته لي على الواتساب قبل قليل بصوت مضحك : قصتنا أنا وبابا والشاي لا تنتهي.. )  .
كاليري ماريا .. حكائية أزمة مشاهد

من ديترويت ، ينطلق القاصّ في سرد قصته عن ( آرام )عراقي كرديّ لاجئ ، حمل بين طياته ذكريات ساخنة وبحوارية متناغمة مع ( ماريا ) ، التي كان لها الأثر الكبير في جسّ مكامن الالم والحزن ، لتحاول أن تعيد صياغة جديدة لفهم الاحداث التي مرّ بها هذا العراقي اللاجئ : (  أبكتني صورة السيدة العذراء وابنها لأنها ذكرتني بأمي وهي تهرب منهم ، تضم أخي الرضيع آزاد الى صدرها وتركض ، تركض وتتعثر وكنت أركض معها ، لكنهم أمسكونا وعادوا بنا ضربا وسحلا حشرونا في الشاحنات لساعات طويلة ، يوم أو اكثر لا أدري ، كان أخي الرضيع داميا وساكنا على صدر أمي ، كلنا سكوت وحدها الشاحنات تتحرك ، و... ثم دفنونا في بر السماوة . )

هذه الاحداث ، أحداث واقعية مارسها النظام الديكتاتوري ، وضمن اسلوب قمعي فاحش ضد الشعب العراقي ، لم تكن معاناة فرد واحد بل معاناة عائلة كاملة حتى الطفل الرضيع لم يسلم من التعذيب وسطوة الضرب ، كانت صورة العذراء نقطة تحفيز متكاملة في التنفيس عن المسكوت عنه والمكبوت ، القاصّ كان موفقاً في نقل هذه الاجواء القاتمة عن مجريات ما تعرض له هذا الشاب الكردي ، ليهيئ لنا صورة أخرى عن مدى العلاقة الوشيجة بين ابناء الشمال والجنوب ، حينما انقذته امرأة تدعى ( أم حمد ) من عرب السماوة ، لتداوي جراحه وتسهر خوفاً عليه ، لتبعده عنه الأنظار : 
( أخرج صورة امرأة عراقية عجوز مجللة بالسواد – ظنت ماريا أن الاسود لون مفضل عند العراقيين – فسألته :
- هذه أمك ؟
- نعم لكنها أمى الاخرى ، ام حمد ، من عرب السماوة ، هي التي انقذتني وحمتني وداوت جراحي ، كانت تسهر عليّ الليل كله وأخفتني عن انظارهم ، كانت أمي بل أكثر . )

اللون الأسود الذي هيّأه القاصّ لنا ، ترميز للحزن والألم وظلامية الحياة وقسوتها ، وكأن هذه المرأة العراقية العجوز ، قد لفّ عمرها السوادُ ،  الامر الذي يحيلنا أن ( جابر ) يوحّد المعاناة في أزمة شعب ، وما اصرار ( آرام ) على أن ( أم حمد ) أمه الأخرى إلا دليل أنها منحته الحياة بعد ما تعرضه له من الموت المحتوم .
هكذا التقطت ( ماريا ) بخيالها الخصب ، اذ حوّلت هذه الحكائية الى مشاهد ورسومات ( 6 ) وضمن تتابعية مختلفة ، تنمّ عن رغبة في الكشف عمّا يدور في خلدها من تخريجات لهذا اللاجئ وما يحمل من آثار مأساوية ، في المشهد ( 4 ) تحديداً : يبني القاصّ صوراً مترابطة ما بين آزاد الرضيع واحتضان أمه له بقوة ، وبين ( عاشوراء ) الجريمة الانسانية التي تعرّض لها الامام الحسين ( ع ) وعائلته وأطفاله ،  وبين صورة مريم العذراء وطفلها المسيح ( ع ) : 
( توقفت عن التخطيط وهي تتذكر حكاية آرام عن بكاء الناس في السماوة وحزنهم الشديد كل عام في ايام تسمى عاشوراء ، وكيف كان يستمع خلالها – بعد ان تعلم العربية بسرعة – لقصص الجرائم الوحشية التي ارتكبت ضد الامام الحسين وعائلته وأطفاله .. ). 
لينقلنا القاصّ بعدها بتراتبية ، أن سقوط طاغية بغداد ، كان مسوغاً للعودة الى العراق ، والتحضير للمشاركة في طقوس زيارة الاربعين مع ( ماريا ) التي اصبحت أداة ناقلة للأحداث بحيادية تامّة ، وهي ترتدي ( الشال الاسود ) كحجاب ، والحشود الماشية التي تشكلت : ( كان ازدحام المشاة الى الحسين شديداً وتدفقهم لا ينقطع ، الالاف يمشون ، دون توقف يمشون ، يمشون ، يمشون ، .... ) (  ) . 
أليست هذه اللوحة ، تستحق منّا أن نطيل النظر اليها ، علّنا نحظى بروح التجانس الرافض للديكتاتورية المقيتة .

البريد الالكتروني تذكرة الكابتن مشاري

ما دوّنه المستشرق الروسي عن النسّاخين في مكتبات القاهرة : ( لعل هؤلاء الذين اراهم في مكتبات القاهرة ينسخون الكتب والمخطوطات بأيديهم مقابل اجرة هم اخر ما تبقى من اجيال مهنة النسّاخين ...
انهم ثمالة الجيل الاخير )  

وبين قلق وانزعاج نسّاخي الكتب من هذا الطارئ ، كونه علّة طارئة ، يهدد مصدر رزقهم ، لما يمتلكه من ( آلة طابعة ) ، هذا القلق والانزعاج الذي - زمنياً -  وقف أمام التطور النوعيّ والكمّي في عالم التقنيات الحديثة ، عصر الرقائق الالكترونية ، عصر الكمبيوتر والانترنت والاختصارات العجيبة ، والمفردات والتراكيب الغريبة الطارئة ، التي أدت الى تراجع ملحوظ في عالم الورق والكتب : ( .. ، أما الآن في عصر السرعة والعزلة والقلق هذا عصر الكمبيوتر والانترنت فإن الانكشاف أمام الاخرين يرعبني ، قراصنة الانترنت ، الهايكرز ، الفايروسات ، كل شيء مقلق و مقرف ، أين هذه من متعة الورق وأمانته وديمومته . ) 
هذه الديباجة التي رسمت لنا نقطة انطلاق القاصّ في سرد بناء قصته هذه ، والتي تضمنت وصول رسالة اليه عن طريق البريد الالكتروني الخاص به ، تتحدث عن ( الكابتن مشاري ) وهو صديق بحار قديم له ، وفيها تذكير بطريقة ارسال رسائل البحارة قديماً : ( ، سأبعثها لك وكما يفعل البحارة القدماء سأكتبها أيضا في ورقة واضعها في قنينة زجاجية وارمي بها في البحر ، هذه الطريقة في ارسال الرسائل شائعة بين البحارة وسكان السواحل ، ... )  

كانت هذه الرسالة سبباً في بثّ لواعج اشتياق الصديق لصديقه ، والإحساس بالفرقة والابتعاد عن الوطن والأهل والأحبة ، استخدم القاص ّ مفردة ( النوخذة ) والتي كرّرها ( 13 ) مرة في القصّة ، رغبة منه التأكيد على الارتباط الروحي والنفسي بفضاءات البحر والسفن والرحلات ، وكي يعرف القارئ المعاصر بهذه المفردة التأريخية ، ( و النوخذة هي مصطلح خليجي قديم يُطلق على صاحب سفينة الصيد والتجارة وقبطانها. غالباً ما يكون النوخذة قبطاناً على مركب طواشة أو اصطياد السمك أو الرحلات البحرية التجارية. قائد السفينة أو قبطان المركب ، الذي يرجع إليه جميع البحارة لاتخاذ القرارات . ) 
شاءت الأقدار أن البريد الالكتروني كان سبباً في وصول رسالة مشاري لكن عن طريق ( مدام شاري ) الهندية التي وجدها حفيدها في زجاجة على الشاطئ ، وهي تحمل عنوانه : ( وجد حفيدي شاندرا هذه الرسالة في شيشة جام عند الشاطئ ومنها عرفت عنوانك فبعثت اليك .. )  ، الى أن تقول : ( آمل أنا حققت أمنية صديقك البحار الذي سمعت في أخبار TV قبل اشهر ان سفينة هو غرقت وهي تحمل مهاجر عراقيين الى استراليا ، أنا علمت ان كابتن سفينة ، صديق أنت .. )   
فالقارئ الحاذق يجد أن القاصّ يسوق الينا على لسان المرأة الهندية لغة عربية ضعيفة وركيكة في : ( شيشة جام / اعرف عربية زين شويه / سفينة هو غرقت / تحمل مهاجر عراقيين / صديق أنت / أهل بصرة كثير طيب ... ) .

الهولندي الطائر .. وتوظيف حدث الأسطورة

يحاول القاص جابر خليفة جابر بإيماجية صورية ، تتخذ وضعية المدّ والجزر ، تحويلات مكانية زمانية ، تراتبية سردية متفرّدة ، استرسالية تدور مثل حرى حول قطب ثابت ، نشعر به احيانا ً يجذبنا اليه للقراءة ، وثانية : يجعلنا نعيد القراءة وثالثة : يهيئ لنا ربط الأحداث ربطاً محكماً ، فما بين الهولندي الطائر ( لاعب كرة القدم ) وبين الهولندي الطائر ( البّحار ) ، مسافات بعيدة جداً ، تغوص في ذاكرته التي ارتكزت على نقطة التلاعب بذهنية القارئ ، هو قادر على توصيل ما يريده ، قادر على التأثير بنا ، هو يجسّ نبضاتنا ، فيجعلنا نتأثر بما يريد ، دون ان نشعر بذلك : ( .. لكني كنت مختلفاً عنهم ، شجعت الفريق الالماني كلما اشادوا بكرويف ، كنت أكرهه ، اكثرت الانتقاد والسخرية منه من اسلوب لعبه ، لا أحب رقمه ( لا اتذكره الآن ) حتى اللون البرتقالي المعروف للمنتخب الهولندي كنت اشمئز منه ، مع اني في سري كنت معجبا بمهارات كرويف وطريقته الرائعة في اللعب وتسجيل الاهداف ، ... ) . 
لقد شدّنا الى معه الى أن نكره اللاعب ونكثر الانتقاد معه ولا نحبّ رقمه ولا نحبّ اللون البرتقالي ، حتى وصلنا معه الى درجة الاشمئزاز ، ثم جعلنا نلملم اعجابنا - سرّاً - بمهاراته وطريقة لعبه .. هذا هو ما نبتغي اليه ، حينما يكون القاص ّ قادراً على ابراز قدرته السردية ببراعة تامّة في توصيلية التناغم السردي مع القارئ .
يتبادر الى اذهاننا : ما مسوغ توظيف القاص لأسطورة قصة الهولندي الطائر ؟ : ( ولم أكن قد سمعت بأسطورة ( الهولندي الطائر ) التي تتحدث عن قبطان أعجب بسفينته وتحدى الارادة الالهية ، فحكمت عليه بالتيه في البحار ، ... ) 
هل تشابه الالقاب كان سببا ً ؟ أم حركة وقفزة اللاعب الهولندي ، ارتبطت - تخيلاً - بقفزة البحّار الهولندي البهلوانية ؟ هل يحاول القاصّ ان يثير فينا شيئاً ما ؟ ليجعل هذه الاسطورة تحاكي عقولنا التي ما تزال طفولية ونحن نتتبع سرّ هذه الحكاية ، لماذا نعشق الخرافة والأسطورة ، وقصص الخيال ،  يا ترى ؟ وهل المنظور الذي استطاع من خلاله القاص ( جابر خليفة جابر ) أن يحدد زواياه ، ضمن حدود خارطة تأريخية ، تمتد مع اخبار البحر والقراصنة ، سبباً كافياً ؟
هل شخصية ( أبي راشد ) لها تأثير في ترك انطباعات في ذاكرة تعيش في ماضٍ هدأ عند شط العرب والفاو والبصرة ؟
هل ما بين البحار الهولندي الطائر وبين أبي راشد ، خطوط بيانية : بين الالحاد والإيمان ، بين الخيال والحقيقة ، بين التهور والاتزان ؟

انتظار المنقذ الحقيقي في .. زيد النار

التأريخ يعيدُ نفسه ، هكذا أراد ( جابر خليفة جابر ) أن يقول للقارئ ، الاحداث هي الاحداث نفسها تتكرّر ، لتوقظ فينا جذوة من الاسى والألم والحزن ، يمتلك القاصّ قدرة التنقل السريع بين الاماكن بين الماضي والحاضر ، يمتلك محركات تدور ضمن عجلة التأريخ وبسرّية ، لا نشعر إلا ونحن في مكان آخر وزمن آخر ، إنه مولع بهذا الاسلوب السرديّ المراوغ : ( أدوسها بحذائي وأهبط نازلاً الى قصر البركة ، سامراء فوقي تتصاعد درجة ، درجة ، وأنا اهبط وطه معي . وكما لو أن رسالة وردتني منه ، من حفر الباطن أو ... أهبط ، ويهبط قلبي . رأيت أنني اغادر بريد العشّار ، ...... ) 
هذه الخطابية السردية المائزة ، بألوان التدرّجات الفعلية الضاجّة ، ببوحٍ يغرينا على مواصلة القراءة ، ليست القراءة فحسب ، بل إنه يريد أن نقرأ ما أخفاه بين الأسطر : ( تتحرك الاسرار ، تحيا وتتنابض ، تتداور ، وتتماوج حول نقطة لحرف ما ، فيها يكمن السرّ البسيط ، سرّ الرسالة وجوهرها ... فأنتبه وتأمل .. باء البسملة أم باء البصرة ؟ ) 
فالأفعال : " تتحرك ، تحيا ، تتنابض ، تتداور ، تتماوج .. " عبارة عن حزم ٍ وتنقلات تحدّث ما حولها ، فبمجرد ما أن يضعنا في مكان إلا ووجدنا أنفسنا في مكان ثانٍ .. وهكذا ، بعدها يعقد - القاصّ -  رابطاً ما بين ( البسملة والبصرة ) تأكيداً لما يحمله حرف ( الباء ) من موروث ديني مقدّس لدينا ، ومن وشائج روحية تآصرية . 
( جابر خليفة جابر ) ينقل للقارئ معاناة انسانية كبرى ، معاناة ما زالت تأكل أجسادنا وأجساد أطفالنا : الجوع ، والحزن ، والاغتراب ، والأسر ، والخوف ، والظلمة ، وحفر الباطن ، ومخيمات رفحا ، والمعسكرات والجنود والمجندات والبدو .
( تهبط الأرض الى ما تحتها ، على درجات السلم العباسي تهبط ، تتذكر البصرة ، زيد النار يحرّق بيوت العباسيين ، تشتعل البصرة تتمناه ، تتمنى زيداً ... ) 
ثم يعود بنا الى الزمن العباسي ، وثورة ( زيد النار) ، وإحراقه لبيوت العباسيين ، فالكلّ ينتظر الثورات والانتفاضات بشغف وهوس ، والكلّ ينتظر المنقذ الحقيقي : ( وأصبر ، أنظر اليك ، تختضّ وترتعد ، وجودك مغيب ، وهيأتك حضور ، ... ) 
هذه الرؤية المتكاملة ، المتوالدة عند ( جابر خليفة جابر ) هي تنمّ عن تجربة وثقافة رصينة ، ودراية في كيفية تطويع الأحداث التأريخية وربطها ربطاً حيّاً مع ما يحدث و سيحدث ، إنه يعرف هذا كله .
ما بقي من قصص ( زيد النار ) ، أتركها للقارئ لكي يتفاعل معها ، كونها أخذت منحى آخر في تشظّيات الشخصيات التي تستحق أن نقف عندها ، ( جابر خليفة جابر ) قاصّ وروائي متمكّن في نواح ٍ عدة ، وفّق في نقلنا الى ذاكرته ، أن نتعايش مع قصصه بروح ٍ الفاعل / الذي أخذ دوره في قلب الحدث .

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي