مقالات ادبية واجتماعية وفنية
هادي ياسين || كاتب وباحث عراقي
هذه رسائلٌ كان الروائيُّ و المفكرُ الفرنسي " البير كامو " ( 1913 ـ 1960 ) قد كتبها خلال فترة الإحتلال النازي لفرنسا ، و هي مهداةٌ بمجملها الى روح شاعرٍ و كاتبٍ فرنسي إسمُهُ " رينيه لينو " ، الذي كان ناشطاً في المقاومة الفرنسية ضد الإحتلال فألقى النازيون القبض عليه و أعدموه . و تأتي رسائل ” كامو“ هذه بمثابة تكريم لذلك الشاعر المقاوم الراحل ، و كان قد كرّمَهُ من قبلُ بكتابة مقدمةٍ لمجموعتِهِ الشعريةِ التي نُشرت بعد موته .
ولكنّ الغريبَ هو أن هذه الرسائل ، المُهداة الى روح فرنسيٍ مقاوِم ، قد حملت عنوان ( رسائل الى صديق آلماني ) ، و هو عنوان قد يبدو محيّراً للوهلة الأولى ، ولكن تفحّص متون الرسائل قد يوصلنا الى استنتاج أن هذا ( الصديق الآلماني ) قد يكون شخصيةً تخيُلية ، أو شخصية حقيقية لم يشأ " كامو" أن يُفصح عنها ، ولكن المهم هو مضمون هذه الرسائل ، و هو المضمون المتوافق مع الغاية من إهدائها الى شاعٍر فرنسيٍ مقاومٍ قدّم روحَهُ فداءً لوطنه ، فهذه الرسائلُ تحمل خطاباً من الضمير الوطني للشعب الفرنسي الى الآلمان الذين أذلوا هذا الشعب و أهانوا تاريخَه الإنسانيَ العريق .
ولد " البير كامو " عام 1913 في قرية ( الذرعان ) التابعة لولاية ( الطارف ) في الجزائر ، أي في فترة الإستعمار الفرنسي للبلاد ، لأم إسبانيةٍ صماء و أبٍ فرنسيٍ قُتل ــ بعد عام من ولادة ابنه ــ مع إندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914 . و وَسْطَ الفَقرِ و الشقاء أكمل " كامو " دراستَهُ ليلتحقَ بالجامعة .. دارساً للفلسفة .
و أثناء الإحتلال النازي لفرنسا ــ خلال الحرب العالمية الثانية ــ التحق بالمقاومة الفرنسية شأنَ مُعظم أدباء و فناني و فلاسفة فرنسا . وأسهم في إصدار نشرةٍ بإسم ( الكفاح ) ، تيمناً بإسم خليته في المقاومة ، و هي النشرةُ التي تحولت الى صحيفةٍ يوميةٍ لاحقاً ، و ظل " كامو " رئيسَ تحريرها حتى تَركِهِ لها عام 1947 عندما نَحَتْ منحىً تجارياً . و كان في العام 1942 قد أنهى روايتيه ( الغريب ) و ( أسطورة سيزيف ) ، و في العام اللاحق التقى بالفيلسوف " جان بول سارتر " أثناء عرض مسرحية ( الذباب ) لـ ” سارتر ” و انعقدت بينهما صداقة عميقة بسبب توافق أفكارهما ، و كان أحدهما معجباً بالآخر عن طريق الكتب . و بسب طروحاته الفلسفية بات " كامو " الإسم الثاني في فكر ( الوجودية ) في المشهد الفرنسي بعد " سارتر " .
في العام 1951 ، أصدر " البير كامو " كتابه ( التمرد ) و فيه أعلن تمردَهُ الصريحَ على الشيوعيين ، و تلك كانت النقطة التي عُدّ فيها " كامو " فوضوياً ، فعاداه الشيوعيون ، و انقطع عنه حتى " سارتر " .. فحصلت بينهما القطيعة . و في العام 1957 فاز " كامو " بجائزة نوبل للآداب ، و هو في الرابعة و الأربعين من عمره ، فكان ثاني أصغر أديب ينالها بعد الكاتب الإنجليزي " روديارد كبلنغ " الذي نالها عام 1907 و عمره 42 عاماً ، ولكن مناوئي " كامو " يستسيغون فكرة أنه لم ينل الجائزة عن كتابه ( السقطة ) الصادر عام 1956 أو عن مجموع أعماله ، بل عن سلسلة مقالاته حول عقوبة الإعدام .
في 4 يونيو / حزيران 1960 قضى " البير كامو " في حادث سير . ولكنه مات جسداً ، فيما بقيت شخصيته ، و نصوصُه ، تثير الجدلَ الذي يتجدد بين فترة و أخرى في الأوساط الثقافية داخل الجزائر و فرنسا ، بل حتى في الأوساط السياسية الجزائرية و الفرنسية ، ففي الوقت الذي يحسم الفرنسيون أمرهم بأن " كامو " فرنسيٌ خالص صادف أنه ولد في الجزائر ، ينقسم الجزائريون حول هويته : البعض منهم يرى أنه كان يُحب الجزائر و لذلك كان يعتبرها ( أرض الشمس ) ، فيما يرى آخرون أن هذا الحب ينطوي على نزعة كولونيالية تنظر الى الجزائر باعتبارها قطعةً من فرنسا ، و أنه لم يتخلص من النظرة الإستعمارية المتعالية ، لذلك أسقط صفة ( الطاعون ) على عرب الجزائر ( و هو إسم إحدى رواياته الشهيرة ) ، و يؤخذ عليه أيضاً أنه على الرغم من رفضه للإستعمار إلا أنه كان يحمل في ذهنه فكرةَ الحكم الذاتي للجزائر و ليس الإستقلال .
و من هذه الزاوية ، في الذكرى الخمسين لرحيله اجتمع مثقفون و سياسيون فرنسيون و جزائريون على فكرة تنظيم قافلة تجوب الساحل الجزائري ، ولكنّ فريقاً آخرَ حضَّ على الغائها فأُلغيت بدافعٍ سياسي ، بل أن روائياً جزائرياً معروفاً مثل " رشيد بوجدرة " دعى الدولةَ و الجهاتِ ( الثورية ) الى منع نصب تمثالٍ لـ ( البير كامو ) في مسقط رأسه شرقَ الجزائر . غير أن نخبةً من جيل المثقفين الجزائريين الجديد ترى في هذه السجالات فشلاً لدى الطبقتين الثقافية و السياسية على حدٍ سواء و أن نصوصَ و طروحاتِ " كامو " يجب أن تُقرأ ضمنَ سياقِها الإنسانيِّ و التاريخي بعيداً عن اسقاطاتِ الماضي ، و استشرافاً لمستقبلٍ سليم .
على الضفة المقابلة من البحر الأبيض المتوسط ، فإن إسم " كامو " مازال يثير الجدلَ لدى النخبة الفرنسية ، ففي الوقت الذي ليست لديها حساسيةٌ تجاه هويتِهِ الفرنسيةِ المحسومة ، فإن الحساسيةَ الأيديولوجية مازالت قائمة ، و تعود الى الواجهة في الذكرى المئوية للكاتب في كل مرة ، فعلى الرغم من أن " كامو " التحق بالحزب الشيوعي الفرنسي عام 1934 إلا أن الشيوعيين يأخذون عليه أن إنتماءه لم يكن إيماناً بالعقيدة الشيوعية بل من أجل مساندة الجمهوريين الاسبان في الحرب الأهلية ، مثلما أخذوا عليه مواقفه من الشيوعيين و انتقاداته للحكم الشمولي الستاليني .. فنعتوه بـ ( التروتسكية ) . و تأخذ عليه هذه النخبة مناهضتَهُ ُالإستعمارَ الفرنسيَ و قمعَ الشعب الجزائري من جهة و لكن عدم إيمانه بحق هذا الشعب في العدالة و الإستقلال ، على نقيض ما كان عليه الحالُ لدى " سارتر " و " فرانز فانون " من جهة أخرى . مثلما يؤخذ عليه عملُه في صحيفة ( ألجي ريبوبليكان ) اليسارية المناهضة للإستعمار من جهة و وصفه لـ ( جبهة التحرير الجزائرية ) بـ ( الإرهابية ) من جهة أخرى . ولكن هذه السجالات التي لا تنقطع في المناسبات و غير المناسبات دلالة على خلود الكاتب لدى الأجيال المتعاقبة ، و مهما أختلف المختلفون حول " البير كامو " فإنهم يبصمون جميعاً على أنه ترك أعمالاً خالدة و ترك بصمته على أدب و فكر القرن العشرين لتكون تلك الأعمال مصدر إلهام للأجيال اللاحقة .
في هذه الرسائل يؤكد " كامو " فرنسيته ، و يقدم تصوّراً عميقاً و شفافاً عن معنى ( الوطن ) و ( الوطنية ) .
...........................
الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-
او تحميل تطبيق نخيل
للأندرويد على الرابط التالي
لاجهزة الايفون
او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي