loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

الثقافة العراقية وتبدل وظائفها

breakLine

 

فاطمة المحسن || كاتبة عراقية

هل أتيحت للمثقفين العراقيين فرصة نقد مجتمعهم؟ وهل لنا أن نتخيل إن ثقافتنا جديرة بهذه المهمة. هذه الاسئلة التي تثار بين آن واخر، تقتضي تحديد مفهوم النقد، فباحث مثل علي الوردي قام قبل أزيد من خمسة عقود بتسليط الضوء على أنماط من التفكير والسلوكيات و العادات المهيمنة. بيد ان الذي يشغل القارئ العصري هو ما للثقافة من قدرة على برمجة أدوات معرفتها، وطرق تفكيرها كي تتعدى الإدانة والنقد، لتتجه إلى وظيفة جديدة على المستوى الانطولوجي، وظيفة بين مقترحاتها تحويل الظاهرات الاجتماعية ذاتها إلى موضوعات متجددة للمعرفة. 

من الصعب أنْ نبدأ من حيث انتهت إليه الثقافة الغربية وهي تقطف ثمار  منجزها العلمي، ولكن ربما تساعدنا تلك المنجزات النظر إلى مواضيع "معرفتنا " على انها موضوعات للوعي . وكي لا نقع في اسار اللغة الجاهزة التي يمكن أنْ يقال فيها أي كلام من منطلق الأمنيات، نقول  الذي يشغل أكثر المثقفين العراقيين اليوم هو الإحساس بضجيج العالم المتحرك الذي لا يكف عن نصب فخاخه للحياة، فالمثقف الآن في زمن معلّق، عصبي ومستفز. هذا الزمن الذي تعلن فيه الثقافة العراقية تسليمها بالعجز أمام مرحلة مضت، عليها الاعتراف بأنها كانت جزءا من وعيها. وكي تدخل كلاعب للنظر بإشكالياتها، فمن باب أولى أن تبحث في ذاكرتها هي، وفي لغة هذه الذاكرة التي شكّلت نمط التجربة الكتابية التي نتجت عنها. 

ليس المهم إدانة قصيدة تقدم بها شاعر إلى طاغية وكسب منها قصراً أو ضحك فيها على نفسه، على أهمية تلك المراجعة إنسانيا. بل المهم معرفة ما هو المكبوت في الثقافة السائدة، وما هو المضمر من العواطف والأهواء التي تحرك تصور تلك الثقافة عن نفسها، وعن نوع القارئ الذي تتوجه إليه.

لعلنا أمام مأزق ذاكرة ولغة وخيال، وإن سلّمنا بأن الخيال معرفة، وهي كلمة تقتضي استئنافات كثيرة، فان تلك المعرفة لا تُكتسب بالقراءة والتعلّم وحسب، بل بما للجماعة من موهبة إنتاج كاتب يعي تجربتها على نحو موضوعي، ويدخل في سياقها، أي يستخدمها في تنشيط خياله، وفي ابتكار وسائل نقده لها.

في هذا الوقت الذي ترتبك فيه الكتابة، لأنها تخاف التحول إلى دعاوى وخطاب تعليمي، يصبح من الأجدى تلمس أية خطيئة يرتكبها الكاتب عندما يرى إلى نفسه على انه أداة تغيير، تلك الكلمات الرنانة التي رددها المثقفون من دون الالتفات إلى خطورة ان تصبح المعرفة مطية الأقوال النفاجة.

والحق ان تلك الديباجات أتت بالضرر على الثقافة ذاتها، لأنها بعد أن سلبتها قدرة المشاركة في التأثير، حولّتها  أداة سُخرة وتوظيف.  ومن عجائب هذه المعادلة أن  المثقف العراقي  لم يتردد يوما في التخيل بأنه يقوم بمهمة البناء الاجتماعي، أو أنه يقدم "خدمة نبيلة" إلى مجتمعه. 

لقد مضى ذلك الزمن الذي كان فيه المثقف مجرد "برغي" في ماكنة الحزب، حسب أقوال لينين في كتابه “الأدب والفن”، مثلما مضى زمن المثقف الرائي والمستبطن والسابر لأغوار الكون، حسب اشراقات الفرنساويين. ولكن داخل كل مثقف عراقي في أي مكان حل، يقبع الضدان، ولعل التوتر بينهما يسم طبيعة النتاج الثقافي، لا بتحولات أغراضه، بل بالصراع بين شكلانية ورطانة في توظيف المصطلحات، وفي تمجيد الذات والإيغال في الاستماع إلى هذيانات تعاليها، وبين تلك المخيلة اللصيقة بالحياة اليومية، والتي لا تملك فكرة عن تشكيل صورة فنية لهذه الحياة، صورة قادرة على نقضها، او اكتشاف هشاشة عواطفها وعطوب مجسات حساسياتها. 

للثقافة العالمية اليوم ملامح شديدة الحراك، وهي تبدأ بكتب الجيب وأفلام المغامرات والواقع الافتراضي، ولا تنتهي بالروايات التي تطيح بالخيال الى وهاد الفلسفة والعلم والأساطير، وليس بين هذه وتلك من حدود واضحة سوى كونها  حصيلة تجارب تتفاعل مع قارئ متطَلب وملول، مع حرية لا تحدها حدود ولا تسورها معرفة مقيدة بأثقال مهمتها. 

الطابع المتحرك للثقافة العالمية وقدرتها على نقض مسلماتها ونفي قناعاتها، يعتمد على برمجة ذاكرتها ولغتها، وخلق منافذ  جديدة للاختبارات تفضي إلى تبّدل في وظائف المعرفة ذاتها. فلم تشفع لعصر الانوار كل منجزاته العظيمة حيث نشأت تحت ظلال عقلانيته حضارة الغرب بأكملها، فتعرض إلى حملات نقد  لم تكف عن إستهدافه إلى يومنا هذا، مثلما لم يشفع لهيغل ما أشاد من نظام معرفي استهدت به عقول كبار المفكرين والفلاسفة، فسخر منه فيلسوف معاصر في كتاب توّج حملات النقد والنقد المضاد التي تعرضت الى منجزه. وهكذا يكون بمقدور الثقافة تحريك الماء في طاحونتها لو ملكت حرية تغيير وقلب نظمها المعرفية، وتجاوز طواطمها وايقوناتها.   

 لقد تحولت الهيمنة الشعرية في الثقافة العراقية إلى مشكلة لا يقر المثقفون بوجودها، وبما تسببه من عجز في ميادين كثيرة، بما فيها البحث والرواية. وهذه الهيمنة لا تساعد على تطوير صيغ الاستجابة إلى الواقع، وطرق التفكير به على نحو عقلاني، لأنها  تموضع الذات العارفة في موقع قد يتبدل من عصر إلى آخر، ولكنه لا يتغير من حيث الجوهر.  وفي قراءة التاريخ الثقافي العراقي، سنجد لسدنة اللغة الذين جلدوا الناس ب"قل ولا تقل"، مكانة لا تنافسها سوى مكانة الشاعر الذي يبحث في ثنايا القواميس عن مفردة مهجورة كي ينتزع التصفيق من جمهوره الأمي.  هؤلاء الأبطال حلّوا في ذاكرة تشكو من فراغ الإبداع، ومن عجز الكتابة عن  تخطي الصيغ النمطية للإدراك والتصورات. فالعربية بسبب قداستها في عُرف الاكاديمية ،،تحولت في فترات كثيرة  إلى عائق امام تطوير المخيلة وتنشيط الذاكرة. وهي في بلد مثل العراق كانت أشد خطورة منها على ثقافة بلدان عربية اخرى مثل المغرب أو مصر مثلا. فنزعة الهيمنة الاجتماعية في العراق، وسيطرة المراكز التي طبعت المجتمع حتى مجتمع الافندية والتجديدين بطابعها، جعلت التبدّلات في صيغة استخدام اللغة شكلانية، مثلما شجرت معارك منذ مطلع القرن العشرين حول اللغة وليس حول مواضيع أهم منها. فالاعتراف الاجتماعي بالثقافة يتقّصد أن يجعل من الثقافة مرآة لمظاهره، لأنها تنتمي إليه وتسايره، فهي أضعف من ان تتمرد عليه او تنفصل عنه.

 لعل مكانة باحث نادر مثل جواد علي لا توازي في تقليدنا الثقافي، سواء كان شعبيا او نخبويا، مكانة شاعر مثل الجواهري او السياب او البياتي، وتلك مشكلة لا نعي أبعادها، ونحن نعيش داخل تلك المنظومة المعرفية التي جعلت من الثقافة إبحارا في اللغة، وهذا الإبحار لا يتأمل في اللغة على أنها وعي يتركب على مناهج للاستقراء، بل بما تقدمه الشعرية الرعوية من تجليات مشتتة تأخذ بجماع القلوب. لهذا نبحث في كتب الشعر عن قضايا التغيير الاجتماعي التي تناولها الشعراء، لنستكمل أهميتها في الأعراف الاكاديمية.

من الصعب القول ان أزمنة المعرفة في العراق متشابهة، ولكن زمان الهيمنة الشعرية امتد الى يومنا فأبرز كتابنا شعراء، وهم أمراء الكلام حسب ما يقول شاعرهم. ومع ان الجيل الجديد قد هجر الشعر الى القصة او الرواية، بيد ان تقاليد الكتابة في الاجناس غير الشعرية لم تزل تعاني من تبعات المرحلة الشعرية، وهي تحتاج الى إشباع في منجزها كي يصبح لها جمهورها.

منذ الثمانينات وظفت القصة والرواية  لأغراض سياسية، وأقتحم عالمها القادة والعسكريون، وأعمال هؤلاء على علاتها، تشخص في الثقافة العراقية مادة ثرة لقراءة التاريخ. لعل في روايات صدام حسين و الضباط والعرفاء والجنود الذين شاركوا في الحروب، وروايات مدوني أخباره وسيرته، ما يساعد على فتح سجلات عالم متنوع فيه الكثير من الشواهد التي لا تمحى من طرائق للتفكير، وأساليب توظيف المعلومات، والحكايات الشعبية والأساطير، وهي كلها تفعل في الذاكرة العراقية بما يوازي فعل الكورس في كواليس عالم الثقافة الأخرى التي تتحرك تحت ظلال تلك الأشباح. لعلها مدونات تساعد القارئ على الاقتراب من سوسولوجيا المعرفة زمن القمع. فالشعراء الشعبيون وأغاني الغجر والبادية ومناحات الأرياف وعواطف الأغاني البغدادية التي شكّلت"تراثنا الشعبي" وأدمن عليها الشارع، هي التجلي الممكن لزمن الحروب وتردي التعليم والتفكك الاجتماعي والقيمي. وكلها قد لا تشتغل على نحو مباشر في الثقافة قدر ما تتداخل في الذاكرة اليومية لها. الحاجة إلى تفكيك منظومتها وقراءتها على نحو موضوعي، يتطلب الوقوف من مفهوم العنف والقمع في العراق على نحو لا ينحصر بمهمة إدانته، و التعالي عليه، بل بالدخول فيه من أزمنة مختلفة للثقافة ذاتها.    ولعل هذا المدخل بين مقترحات ربما تفضي طبيعة التفكير فيها إلى تبدل وظائف المعرفة التي تحتاجها عدة النقد الحديث.

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي