loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

القاهرة وأقمارها التي لا تصدأ

breakLine

 

 

علي جعفر العلاق | شاعر وناقد عراقي


كنت في مطار القاهرة قادماً من بيروت. كان معي شيئان ثمينان فرحي بمجموعتي الأولى، ونسخة من مجلة مواقف. هذا كل ما كنت أحمله. المجلة مرسلة من أدونيس إلى الشاعر محمد عفيفي مطر. وكنت فرحاً، آنذاك، بصدور أول مجموعة شعرية لي (لا شيء يحدث.. لا أحد يجيء) عن دار العودة في بيروت عام 1973.

التقيت بعدد من كتاب مصر الذين توطدت علاقتي ببعضهم خلال مهرجان المربد، الذي بدأ حيوياً وجديداً في بداية السبعينات في البصرة. تعرفت في تلك الزيارة على كمال ممدوح حمدي، وفاروق شوشة، وإبراهيم أصلان، وفؤاد بدوي وسامي خشبة ويحيى الطاهر عبد الله، ومحمد إبراهيم أبو سنة. وما زلت أذكر تلك الندوة الإذاعية المميزة التي قدمت حول مجموعتي الأولى. كان سامي خشبة وكمال ممدوح حمدي من أبرز المشاركين فيها. وظللت فترة من الزمن أتذكر، باعتزاز كبير، عبارة ثمينة لسامي خشبة يصف فيها قصائدي بأنها، مثل منحوتات جياكوميتي: صافية، ملمومة، لا زوائد فيها. كان يصف ملمحاً، في شعري، مازلت أحنو عليه، وأعيه، وأحاول تنميته باستمرار، ولهذا السبب، ربما، ظلت تلك العبارة راسخة في الذاكرة.


كم كنت محتاجاً إلى تلك الزيارة؛ لقد شحنتني بحيوية أدبية عالية وكانت رغم قصرها، بداية لصلة حميمة بالجو الثقافي هناك نقاداً ومبدعين ومجلات ومؤسسات ثقافية كانت تلك العلاقة قد بدأت الستينات سنوات الأحلام الكبرى في الإبداع والثقافة والسياسة والحياة. تمتلي، مكتبات بغداد بما تصدره بيروت والقاهرة من كتب ومجلات ودواوين شعرية كانت مجلات الطليعة والمجلة والشعر والقصة والكاتب تمثل بالإضافة إلى مجلات بيروت زاداً ثقافياً لا غنى لي عنه. ومع أنني بدأت النشر عربيا في عام 1964 في مجلة الأديب البيروتية وفي مجلة الشعر المصرية، حين كان يرأس تحريرها د. عبد القادر القط، إلا أن قراءتي للمجلات القاهرية ترجع إلى فترة مبكرة.

كانت الستينات مشهداً ثقافياً وإبداعياً بالغ الغنى والحيوية. وكنا أبناء ذلك الجيل، متعطشين إلى القراءة بشكل عصي على الوصف. كتابات طه حسين، ومحمد مندور، ومحمد غنيمي هلال، ومحمد النويهي تشدني أكثر من سواها؛ فقد كانت تشكل أفقاً ألامس من خلاله ما تبتكره مخيلة العالم، وعقله. ثم لحق بصف هؤلاء العمالقة جيل لا يقل تميزاً عنهم، ومن أعمقهم نبرة: عز الدين إسماعيل، وغالي شكري، ومحيي الدين محمد، ثم جابر عصفور، وصلاح فضل، ومحمد عبد المطلب الذين يمثلون اندفاعة جريئة قربت النص العربي من ضوء المناهج الجديدة ومقتربات التحليل غير المألوفة.

كان محيي الدين محمد من النقاد الصاعدين إلى مستقبل نقدي استثنائي ذا لغة مميزة كثيفة، وبعيدة عما يشوب لغة بعض النقاد من جفاف أو تقليدية لغة جديدة ومقاربات لا عهد لي بها، في الكشف عن مكونات القصيدة الحديثة واشتراطاتها الفنية والجمالية الشيء الصادم والمحزن في حياة هءا الناقد انطفاؤه المفاجئ، ربما لظروف اجتماعية غربته كما تناهى الي من أصدقائه الذين عايشوه في الخليج، عن وعي الكتابة وما تتطلبه من أثمان قاسية.


لا يمكن لأي منا أن يذهب إلى القاهرة بذاكرة بيضاء كيف يمكنه ذلك وهو يتوجه صوب مدينة فريدة من نوعها شديدة البساطة وشديدة العقيد؟ كنت أعرف هذه المدينة العريقة كما يعرفها الكثيرون معرفة قلية وروحية وثقافية قبل أن أراها لأن المدن الموغلة عميقا في الماء والتاريخ وتراب الحضارات لا تكمن ملامحها في مظهرها الخارجي وحده، بل في بعدها الآخر الخفي، والراسخ في الأعماق. حين تزور للمرة الأولى، مدينة كالقاهرة، أو بغداد، أو دمشق أو بيروت، أو صنعاء أو مراكش مثلاً، فإن زيارتك لها لن تكون الأولى إلا بالمعنى المكاني فقط أي الانتقال الحسي إليها عبر صلادة المكان لا غير. أما بالمعنى الوجداني والمعرفي فإن زيارتك هذه ليست إلا رصيداً آخر يُضاف إلى عوامل ارتباطك بتلك المدينة والتحامك الروحي والثقافي بها. وهذا ماحصل لي، فعلاً، مع القاهرة، في زيارتي الأولى تلك.

أول ما يوجهك في القاهرة شعرية الحياة وهي تطفح من أحاديث الناس، وتفوح من سلوكهم المفعم بالبساطة والشفافية. ثمة في لهجة أهلها، سحر لا يمكن مقاومته، فهي لهجة هذبها الاستعمال، وشذبتها الحضارة، فارتفعت إلى مستوى رفيع من الأداء، الحي، الذي يفيض باللطف والبشاشة والإيقاع وهي لهجة تكاد لفرط رهافتها، أن تذوب على الشفاه، حتى يخيل لي أنها معزولة عن الغرض والاستخدام النفعي لها، أي أن التحدّث بهذه اللهجة هو انغمار لذيذ فيها، أو هو، إن شئت متعة لا تضاهى. كما أن الإصغاء إليها، يرقى إلى هذا المستوى من التلذذ الأخاذ.

لا شك أن للكثير من لهجاتنا العربية تميزها وفتنتها، غير أنني أميل إلى الظن أن في لهجة القاهرة خصائص لا تحظى بها لهجة أخرى. فهي عامرة بالحيوية والليونة إلى حد بعيد، وكأن أقداحها طافحة بالشعر والتورية والالتفاتات البارعة، والمرح السيّال والإيجاز المشحون بالإثارة.

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي