loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

مآلات التحديث في الشعر والحياة

breakLine

 

 

عبدالزهرة زكي / شاعر عراقي

 

 

في العدد الخامس من السنة السابعة لمجلة لغة العرب لصاحبها الأب انستاس الكرملي، وهو عدد صدر ببغداد في الأول من حزيران/ مايو عام ألف وتسع مئة وتسعة وعشرين، نصادف مقالا مقتضباً للكاتب رشيد الشعرباف وقد جاء تحت عنوان (الشعر المنثور).
حاولتُ فأخفقت في الحصول على معلومات تكفي للتعريف بالسيد الشعرباف، مقاله يُختم بالاشارة إلى مدينة الشطرة كمكان سكن الكاتب عند كتابة مقاله، لكن تعريفاً ورد في موقع إلكتروني مغمور يشير إلى أن السيد رشيد الشعرباف كان قائممقام الشطرة، ومن عائلة الشعرباف عرفت أنه كان عم الدكتور حكمت الشعرباف أحد أكبر أطباء العراق في القرن العشرين.
الإشارة إلى الشطرة كمكان مدني صغير وناءٍ حينها في تخوم أرياف الجنوب هي إشارة لازمة في سياق فكرة هذه الورقة.
لكن ما هو أهم من كل هذا أن مقال (لغة العرب) ينشغل باهتمام أساسي يحاول فيه الكاتب تحرّي أصولٍ دينية وثقافية شرقية لما سماه حينها بـ (الشعر المنثور)، ساعياً إلى التأكيد على أن (الكتاب المقدس) يعبّر عن بدايات أولى لهذا النمط الشعري، ويرى أن هذه البدايات وجدت ما يناظرها في نثر العرب ما قبل الإسلام ثم في نثرهم التالي، ما بعد الإسلام، مشيراً بهذا التأصيل إلى نثر أبي الطيب المتنبي في أوائل ادعائه النبوّة ثم في نثر أبي العلاء المعري، وكلاهما، نثر المتنبي ثم المعري، يراهما الشعرباف (شعراً منثوراً). 
تغيب الاستشهادات في المقال المقتضب فتحضر، بدلاً عنها، الحماسةُ للرأي، بحيث لا يمكن الركون إلى جدّية المقال، لكن يمكن الانتباه إلى ماهو جدير بالاعتبار فيه؛ الحرص على التأصيل لجنس شعري لم يكن قد رسخ عربياً بعد في ذلك الحين، حيث يظل الكاتب يؤكد أن الشرقيين من عرب وغيرهم سبقوا الغربيين إلى الشعر المنثور، فيما هو في جانب آخر يحرص على توكيد أن هذا الشعر المنثور ليس بديلاً عن الشعر بطبيعته الوزنية المعهودة، إنه، أي الشعر المنثور، قسيمُ ذلك الشعر في الطبيعة الشعرية، وتعبير (قسيم) هو لرشيد الشعرباف، وليس لي.
في ذلك الحين، في عشرينيات وثلاثينيات بغداد القرن العشرين كان يجري الحديث، نظرياً، عن شعر آخر، شعر جديد على تقاليد الشعر العربي، ولم يكن هذا الشعر قد ولد بعد. ولعل حرصنا على الاشارة إلى مكان كتابة مقال الشعرباف يأتي بجانب أساسي منه من تأكيد أن نزعة التجديد لم تكن حكراً على المدن الكبرى في العراق، كبغداد أو البصرة أو الموصل أو النجف وسواها من مدن الثقافة العراقية، ففي الشطرة، تلك المدينة الصغيرة الأقرب إلى الريف كان يحيا ويدير المسؤولية الحكومية فيها شاب ينشغل بقضايا التجديد والتحديث الشعري.
لقد كان التفكير بالتجديد يسبق القدرة عليه، على التجديد حينها.
بالتأكيد كانت هنالك تجارب ونماذج (نُظمت) حينها، بعضها للزهاوي الذي يؤكد الأب الكرملي في العدد نفسه من مجلته أن أول من كتب هذا الشعر هو" الأستاذ الكبير والفيلسوف الشهير جميل صدقي الزهاوي"، لكن المفهوم كان قد سبق نضج تلك التجارب التي لم تتخل تماما عن تفاعيل وبحور الشعر التقليدية، كان رشيد الشعرباف يرى الشعر المنثور بمقاله على أن (هذا النوع من الشعر لا يُشترط فيه أن يأتي من وزن واحد وقافية واحدة، بل أن يأتي من مختلف الأوزان)، بمعنى أوضح سيكون الشعرُ المنثور بموجب ذلك التصور قصيدةً تنتظم على بحورٍ وتفاعيلَ مختلفةٍ، أو متغيرة، وبقافية متغيرة أو من دونها.
المفهوم هنا يسبق التجربة، وربما كان هذا من دواعي إنتاج تجارب لا يعتد بها قدر ما كانت في أحسن أحوالها تجارب في النظم، لكن كلا الحالين، ظهور المفهوم، وانتاج التجارب المتواضعة، كانا تعبيراً عن حاجة إلى التغيير. وهذه حاجة بقيت قاصرة، لم تجد سبيلها إلى النضج إلا بعد سنوات مع ظهور الشعر الحر أواخر الأربعينيات من القرن العشرين، وكان هذا ظهوراً تكفل بإنضاجه ظهورُ مواهب تعي ما تريد وقد تأهلت شعرياً وفكرياً لتجسيد فهمها وتصورها بنصوص شعرية رصينة، هي ليست بالضرورة أولى قصائد نازك الملائكة ولا أولى تجارب بدر شاكر السياب في الشعر الحر.
السياب والملائكة كانا رائدي هذه المغامرة، ثم كانا بعد هذه الريادة المغامِرة مجسّدَين لمثالِ الشعر الجديد، وذلك بما ابتكرا خلال الخمسينيات من نصوصٍ رسّخت تماماً صورة هذا المثال.
الحاجة إلى التحديث الشعري، ومن ثم النهوض به، لم يكونا يجدان أثرهما في مختلف المدن، شراكة السياب ونازك تعبير عن تكافؤ جدير بالاعتبار ما بين النساء والرجال في ظرف تاريخي لا يتوقع فيه هذا التكافؤ.
وهذه نتيجة تتعارض مع فكرة الكاتبة الاسترالية جيرمين غرير حين تتحدث عن صلة المرأة بالشعر فتشير إلى عمى هوميروس وملتن، لتتساءل" ما إذا كانت (صفة الأنوثة)، عند تأليف الشعر من قبل امرأة، أشد عوقاً من العمى". 
وجيرمين غرير تحظى بمكانة متميزة ما بين المختصات بقضايا النسوية ( Feminism)، وقد منحها كتابها الأكثر إثارةً ومن ثمّ شهرةً ورواجاً (الأنثى الخصية) اهتماماً استثنائياً في إطار حركات النسوية.إذ لم تكن غرير مؤمنة بإمكانية أن تؤلف المرأة الشعرَ، وكانت تعزو هذا إلى عجز بفعل إعاقة لها صلة بالجندر، وهي إعاقة، بمنظور غرير، أتعس من إعاقة العمى التي لم تحل دون إبداع هوميروس وملتن (وفي ثقافتنا العربية يحضر أمامنا نموذجا بشار بن برد وأبي العلاء المعري، فهما الأشهر). كانت جيرمين غرير بهذا التساؤل تريد التذكير بمفهوم يقرن الشعر بالذكورة، وهو تصوّر يجد له مقابلات في كثير من الثقافات، ومنها الثقافة العربية التي تربط الشعر بالفحولة.
نازك الملائكة تكسر هذا التصور وهي تعلن عن أسبقيتها التاريخية بتحرير الشعر.
لكن في الشعر تتضاءل وتتراجع مع تقادم الزمن القيمةُ التاريخية للنصوص وحتى لريادة التجربة، أية تجربة. ما هو مهم وما هو أبقى هو القيمة الداخلية للنصوص، قيمتها وقدرتها على البقاء كشعر حي وليس كقيمة تاريخية في مجال التجربة. 
ما هو أبقى من شعر نازك والسياب هو الآتي من بين ما أنتجاه ما بعد (الكوليرا) لنازك الملائكة و(هل كان حباً) للسياب، وبالتحديد ما أنتجاه في سنواتهما بخمسينيات القرن العشرين.
لم تكن الخمسينيات مهمة فقط لتجربتي نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، لم يرسخ ذلك العقد تجارب الملائكة والسياب ولا سواهما من الشعراء، من مجايليهما، البياتي والبريكان وبلند الحيدري، وممن جاؤوا بعدهم بسنوات قليلة، سعدي يوسف مثلاً، وإنما كانت (أي الخمسينيات) عقداً لاكتمال ظهور ملامح حديثة لبلد كان على وشك فتح عينيه على حياة جديدة.

لا أدلَّ على هذه الملامح من ظهور سيدة شاعرة كان دورها جذرياً في تغيير الشعر العربي، وإذ كان جهدها الشعري أثناء شبابها المبكر في الأربعينيات منصباً على محاولات تخليق وسائل التغيير، فإن جهدها في الخمسينيات تواصل عبر مضيّها قدماً في التعبير بالشعر عن جدوى الوسائل المبتكرة، وبما أسهم في ترسيخ التحديث في الشعر العربي.
إن التأمل في سعي الشاعرة إلى تنمية معارفها واهتمامتها الأخرى، في غير الشعر، في حقول اللغات والأدب والفكر والموسيقى يعبّر عن حيوية عقلية وجدت طريقها إلى موهبتها الشعرية وإلى طبيعة الموضوعات التي شكلت العالم الشعري للشاعرة، وهو عالم كان يوحي بسعي دؤوب من أجل الانفتاح في الشعر على ما هو ذهني وتأملي، وهذا بخلاف التصور النقدي الذي شاء أن يثبّت مقارباته عند تصور رومانسي وذلك كلما كانت نصوص نازك الملائكة في مشاغل نقد الشعر.
لقد كانت نازك عبر شعرها المنجز في الخمسينيات، خصوصاً في ديوانها (قرارة الموجة) معبّراً عن اهتمام في الموضوعات وقلق في الحياة والتفكير ما كان ليجد له من أثر في شعرنا القديم. لنأخذ هذا المثال الشعري الذي أنجزته الملائكة في أواخر الأربعينيات مطلع الخمسينيات، إنه مثال من قصيدتها (صلاة الأشباح):
تململت الساعةُ الباردهْ
على البرج، في الظلمة الخامدهْ
ومدّتْ يداً من نُحاسْ
يداً كالأساطير بوذا يحرّكُها في احتراسْ
يدَ الرَّجل المنتصبْ.
على ساعة البرج، في صمته السرمديّ
يحدّقُ في وجْمة المكتئبْ
وتقذفُ عيناهُ سيلَ الظلامِ الدَّجِيّ
على القلعة الراقدهْ
على الميّتين الذينَ عيونُهُمُ لا تموت
تظَلّ تحدَّقُ، ينطقُ فيها السكوتْ
وقالتْ يد الرَّجُلِ المنتصِب:
"صلاةٌ، صلاهْ!"
**
ودبّتْ حياهْ
هناكَ على البُرْج، في الحَرَس المُتْعَبينْ
فساروا يجرّونَ فوق الثَّرَى في أناهْ
ظلالَهُمُ الحانيات التي عَقَفَتْها السنينْ
ظلالَهُمُ في الظلام العميقِ الحزينْ
وعادتْ يدُ الرجل المنتصِبْ
تُشير: "صلاةٌ، صلاهْ!"
فيمتزجُ الصوتُ بالضجّة الداويهْ،
صدى موكبِ الحَرَسِ المقتربْ
يدُقّ على كلّ بابٍ ويصرخُ بالنائمينْ
فيبرُزُ من كلّ بابٍ شَبَحْ
هزيلٌ شَحِبْ،
يَجُرّ رَمَادَ السنينْ،
يكاد الدُّجى ينتحبْ
على وَجْهِهِ الجُمْجُمِيّ الحزينْ.

إذا عدنا إلى مقال رشيد الشعرباف المنشور في حزيران/ مايو عام ألف وتسع مئة وتسعة وعشرين، أي قبل ما يزيد على العشرين عاماً على هذه القصيدة فسنجد أن القصيدة لا تستجيب للمواصفات الوزنية التي وضعها الشعرباف لما سماه الشعرباف الشعر المنثور، وهي تسمية أقرب بصيغة ما إلى نموذج الشعر الحر منه إلى قصيدة النثر. لقد استقر الشعر الحر على اعتماد تفاعيل البحور الصافية، لا المركبة، فيما كانت رؤية المقال العشريني تذهب إلى إمكانية تعدد البحور في القصيدة الواحدة والتخلي عن القافية، أو الإبقاء عليها مع إمكانية تغيّرها في النص الشعري الواحد. كان ذلك تصوراً نظرياً لم تسعفه التطبيقات، وأساساً كان ينبغي انتظار ما يجترحه الشعرُ نفسُه من حلول تساعد في تحقق إرادة تحديث الشعر، الشعر، لا التمنيات المجردة، هو ما يأتي بحلول لأزماته. لكن مقال رشيد الشعرباف المنشور في (لغة العرب) يجد منه صدىً ما في هذه القصيدة التي تنشغل بوجدان طقوسي وروحي قد نصادف ما يضارعه في بعض شعر المتصوفة، إنما بتقنيات ولغة ورؤى لا تمت بأية صلة إلى ذلك الموروث الصوفي. جاء في مقال الشعرباف أن الشعر لا ينبغي له" أن يكتفي بجمال التنغيمات الشعرية فقط بل بكمال جماله وروعة حسنه بوجود الفلسفة العالية وحقائق الحياة فيه". 
يمكن القول إن شعر نازك الملائكة في الخمسينيات كان يؤسس لوجدان ذهني شعري بقي محدوداً في اهتمامات الشعر العربي بأطواره القديمة المختلفة، ويمكن القول إنه في غمرة تراجعات كثيرة، نظرية وشعرية، وجدت الشاعرةُ نفسَها وشعرها ينحازان إليها ما بعد الخمسينيات هو ما حال دون تطوير وإنضاج رؤاها الشعرية الذهنية، وهي رؤى وجدت مثالها الأنضج والأرسخ في الشعر العراقي الحديث من خلال تجارب محمود البريكان ثم عبدالرحمن طهمازي.
إن أثراً واضحاً من سيلفيا بلاث وإيملي ديكنسون في تجربة نازك الملائكة وشعرها الخمسيني. البعد الذهني والعقلي الفلسفي لديكنسون يجد صداه في نصوص نازك، بينما طموح بلاث يعبر بصيغة ما عن طموحات الرائدة العراقية، فقد كانت بلاث سعيدة بما تنتج؛" كتبتُ شعراً يؤهلني لأكون شاعرة أمريكا"، تقول ذلك، لتعبّر بعده باغتباطها باعتراف الصحافة الثقافية بها،" إنني أول شاعرة ينظر إليها نظرة جادة منذ ديكنسون".
ربما لم تتح نازك نفسها لتجربتها أن تتواصل في سعيها الشعري بتلك الآفاق التي تطلعت إليها ثم كفت عنها مع الستينيات، وهو عقد شهد ارتباكا وتراجعا في التصورات والمنجز ليس في تجربة الشاعرة وحدها وإنما حصل التراجع ذاته في تجربة زميلها السياب.
في ذلك العقد عاد كلاهما بذهن شعري ممزق ما بين بدايات تأسيسية تجديدية راسخة وما بين الكف عن مواصلة الجهد التحديثي والعودة منه إلى شعر تقليدي لا قيمة له سواء بمقارنته مع منجزهما في الشعر الحر أو من خلال وضعه في سياق تطور شعر العمود بجانبه الإحيائي والإصلاحي خلال القرن العشرين.
لقد اندفعت نازك في الستينيات نحو تكريس صورة محافظة لها ليس في مجال التأليف الشعري حسب وإنما أيضا في رؤاها النظرية كما قدمها كتابها (قضايا الشعر المعاصر)، فيما ذهب السياب بعيداً في أنفاق وضعه الصحي والسياسي والاجتماعي مستجيبا للآثار المدمرة لتلك الأنفاق على شعره.
في ضوء هذه التراجعات لم يترفع الشعر، معبَّراً عنه بتجربتي شاعرين رائدين واستثنائيين في تاريخ الشعر العربي، على انحطاط السياسة المدمر خلال الستينيات وما صار يخلفه هذا الانحطاط من تداعيات على مختلف مجالات الحياة، بل كان صدى خاضعاً للدمار الذي أودى بحياة دولة لم تكمل طور نضجها الخمسيني وتقدمها بعد.

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي