loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

"أيرلنديةُ ييتس"

breakLine

 


عدنان فليح دخيل || كاتب عراقي


كرّست مجلّة "الفلسفة الآن" Philosophy Now عددها الأخير Issue 160 February/ March 2024 للفلسفة الأيرلندية، وقد افتتح تيم ماديغان مدير برنامج الدراسة في الخارج في جامعة أيرلندا الوطنية "غالواي" الملفّ بدراسةٍ عن توماس دودي، أستاذ الفلسفة في الجامعة السابقة، ومؤلّف كتاب "تاريخ الفكر الأيرلنديّ"، الذي تجنّب فيه المفاهيم القومية أو الطائفية الضيّقة لما سمّاه "الأيرلندية Irishness".

في بداية المقال، اعترف الكاتب بأنّ كتاب دودي أتاح له فرصة استكشاف العديد من "المفكّرين الأيرلنديين المفعمين بالحيوية من العصور الوسطى وإلى يومنا هذا"، ومن ثمّ أجاب بالإيجابِ عن سؤاله العامّ: هل يوجد شيء اسمه الفكر الأيرلنديّ؟! والحال أنّ دودي أكّد بشدّةٍ على وجود ذلك، فدعا إلى استيعاب أولئك الذين بقوا في أيرلندا، إلى جانب الذين تمّ نفيهم منها "إما بمرسومٍ أو باختيارهم"، والسماح بالاختلاف والتأثيرات الأجنبية، حيثُ استعار أطروحة الفيلسوف الأيرلنديّ المعاصر وليام ديزموند الذي أكّد أنّ الفكر الأيرلندي هو "وجود بين"؛ حالة من الازدهار بين مجموعات مختلفة من الأطراف، فهو على استعداد لقبول التناقض والغموض من دون الشعور بوجوبِ حلّهما أو دمجهما بطريقة ما في تركيبةٍ هيغلية (نسبة إلى هيغل).

ما يهمّني هنا هو زعم تيم ماديغان بأنّ الشخصية الرئيسة في كتاب دودي هو الشاعر وليم بتلر ييتس، الذي كانت أيرلنديّته تتطوّر باستمرارٍ ويصعب تحديدها، حتّى بات الشخصية المحورية في استكشافه للفكرِ الأيرلنديّ، والحقيقة أنّ ييتس كان متصوّفاً، ومحيياً لأساطيرِ ما قبل المسيحية، وشاعراً، وكاتباً مسرحياً، وسياسياً، ومحرّضاً a provocateur، لكنّه، قبل كلّ شيء، مفكّر أيرلنديّ بامتياز.  

لإثباتِ دعوته، يقدّم دودي فحصاً دقيقاً لقصيدةِ ييتس "بين أطفال المدارس"، التي كتبها سنة 1925، عندما أصبح عضواً في مجلس الشيوخ الأيرلنديّ، وكان سعيداً لأنّ جمهورية أيرلندا استقلّت أخيراً عن بريطانيا العظمى، مع ذلك كان قلقاً من التركيز الكاثوليكيّ المتزايد على الحكومة. تبدأ القصيدة بزيارتِهِ لأحدِ الفصولِ الدراسيةِ بصفتِهِ عضواً في مجلس الشيوخ يبلغ من العمر ستّين عاماً، فيلاحظ أنّ عيون التلاميذ الصغيرة التي تحدّق به تتساءل عن سبب وجود هذا الرجل العجوز في فصلهم الدراسيّ.

في تلك اللحظة راودت ييتس رؤىً عن نفسه وهو في مثل سنّهم، كذلك رؤىً عن المرأة التي أحبّها عندما كانت طفلة، بعد ذلك فكّر مليّاً في آراء مفكّرين مثل أفلاطون وأرسطو وفيثاغورس حول طبيعة الروح وعلاقتها بالجسد؛ إذ إنّ الأشياء المادية تنتهي وتموت، بينما الصور تبقى، ثمّ تخيّل ييتس نفسه طفلاً بين ذراعي أمّه، فرأى أمّه شابّة تحمله وهو رجل مبتسم ومشهور في الستّين، تساءل حينئذ: هل ستكون فخورة به أم مرعوبة وحزينة لرؤيتِهِ؟:

يا لها من أمّ شابّة في حضنها ذلك المخلوق
(...)
سأفكّر في ابنها، هل فعلت غير أن ترى ذلك المخلوق،
وعلى رأسها ستّون شتاء أو أكثر،
عوضاً عن عذاب ولادته،
أو عن عدم اليقين من أيّامه القادمة؟

لقد تجلّى التعبير الدقيق عن الاشتياق وخيبة الأمل معاً في سطور القصيدة الختامية، حيثُ يلجأ الشاعر إلى شيء حيّ، لكنّه في الوقت نفسه موضوعيّ ودامغ. إنّ شجرة الكستناء، على الرغم من كونها كائناً حياً، إلا أنّها واحدة في كينونتها لدرجةِ أنّها، وهي تزدهر وترقص، لا يمكن للمرء أن يعرف الراقص من الرقصة:

الكدّ يزدهر أو يرقص
حيث لا يلتقي الجسد بابتهاج الروح
ولا يولد الجمال من يأسه
ولا الحكمة غائرة العينين من زيت منتصف الليل
يا شجرة الكستناء، المزهرة وعظيمة الجذور، 
هل أنت الورقة أم الزهرة أم الجذع؟
آه أيها الجسد المتمايل للموسيقى، أيتها النظرة المشرقة
كيف لنا أن نميّز الرقصة من الراقص؟

يعلّق دودي بالقولِ إنّ ييتس يكشف في هذه القصيدة عن بعض القضايا التي فكّر بها الفلاسفة لقرونٍ عدّةٍ، وهو في تأمّلاته الاستكشافية حول مفاهيم الذات ومعاداتها يكون في أقصى حالاته الفلسفية؛ فالشخصية العامّة (المشهورة) هي شيء يُنتزع من الخارج، شيء يطلبه منّا المجتمع، بينما معاداة الذات تتشكّل من الداخل، وربّما ضدّ ما يطلبه المجتمع أو يتوقّعه، حيثُ يمكن للمرءِ أن يرى كيف ينشأ "الوجود بين" داخلنا جميعاً ونحن نسعى إلى صياغة هويّاتنا من ذواتنا المتناقضة.

في خاتمة تداعيات تيم ماديغان فإنّه غير متفاجئ من تقديم دودي لهذه القراءة الحسّاسة لقصيدةِ ييتس؛ ذلك أنّه هو نفسه كان شاعراً مشهوراً، ولئن ركّزت كتاباته الفلسفية على فلسفة العقل والدفاع عن الديكارتية الجديدة، فقد نشر رواية أيضاً، وله مجموعتان شعريّتان نال عنهما جائزتين. والحال أنّ اختيارات دودي لا تخرج عن كونها اختيارات أيرلندية بامتيازٍ؛ فعندما كان شابّاً، وجب عليه أن يختار بين أن يصبح فيلسوفاً محترفاً أو أن يكرّس حياته للشعرِ، وتجسيداً لمفهومِهِ الخاصّ عن الفكر الأيرلنديّ (الوجود بين)، اختار القيام بالأمرينِ معاً.
 

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي