loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

الذات والآخر والمكان في شعر نجاح إبراهيم وصوره الفنية

breakLine
2024-09-03

 


مؤيد عليوي/ناقد عراقي


دمشق المكان بكل تفاصيل حياة الناس فيها، فالمدن هي الناس وحركتها اليومية، بل أن الناس هي الروح التي تتحرك في جسد المدينة، في إزقتها وحاراتها وشوارعها، والساحات العامة وحدائقها، وفي داخل البيوت الافقية والعمارات السكنية العمودية، وفي سيارة التكسي والباص الكبير.. والياسمين الدمشقي في المنازل وعلاقة نقائه الابيض بقلوب الناس وأن لم تكن ثمة حديقة منزلية فالسندانة المفخورة من طين ريف دمشق تفي بالغرض، ثم الحياة على جبل قاسيون في الليل المُضاء بسهر الشباب والشابات على صوت الاغاني الصادر من داخل سيارة واقفة مفتوحة الابواب مشرعة للقلوب بالمرح واللهفة لنسمة هواء باردة في الصيف من أعالي قاسيون، وفي سوق الحميدية نهارا وسط حركة السيّاح فيه والشوارع والازقة النابعة بالناس منه مثل شرايين القلب الى الشوارع المتصلة به والى الجامع الاموي، والناس في باب توما والمزة، ومقاهي العراقيين ومحالهم في حي السيدة زينب حيث مرقدها أو مقامها –ع - وحركة زوّارها من كل بلد الى دمشق... فجميع هذه الاماكن وغيرها التي تحتضن الناس نهارا وليلا هي دمشق المدينة والعاصمة، لذا لن نقف عند عتبة آلاف السنين منذ وُجدت دمشق مع أقدم مدن العالم، فالتاريخ غير معني ها هنا، ولا نظرة شعرية الحداثة الاولى للمكان في النص الشعري، معنية في هذا أيضا، إذ المكان/ دمشق المدينة من النص الشعري، مكان تتفاعل معه أو فيه الذات مع الآخر بحسب ما يبوح النص من ذاك التفاعل، كما أن دمشق في النص معادل موضوعي لدى الشاعرة السورية نجاح إبراهيم، إذ ستتكون هذه الدراسة في بنيته التأليفية من دراسة النصوص الشعرية الدمشقية منسقة ومتسلسلة في بنائية تكوينية بحسب لوسيان غولدمان، بما يمنح النصوص الشعرية حياةً جديدةً أو تصير نصا جديدا واحدا فيه تتفاعل الذات والآخر في صور فنية جديدة، ليكن نصا واحد خاص بدمشق المكان الشعري فيما سينتجه البحث أبان دارسته للشعر وصوره الفنية، فالشاعرة تحلم أن تبني مدنها الشعرية على غرار مدينة دمشق مثل حياة مجتمعها ومثل ناسها وشوارعها في توظيف للغة اليوميات مرة وللرمز التاريخي مرة أخرى، إذ المكان الأدبي له فاعلية ( ليس باعتباره عنصرا من عناصر البناء الفني، لكـن لإمتلاكـه بعداً فلسفيا قلمّا تنبه له المبدعون، فالمكان  يعني فيما يعنيه، الحيّز الذي تجري فيه الاحداث – لا عليه لذلك يقال والقول كما اعتقد للنفري "المكان مؤنث"، فمادام الحدث يجري فيه فهو مؤنث، بمعنى أنّه مُوِلدٌ لفاعلية فكرية يوازي فعل الطبيعة، ويحمل أراداتِ الناس وتوجهاتهم، في ضوء ذلك لا يصبح المكان إلا رؤية مادية لتشكيل جسد القصيدة أو القصة، بل هو يشد أوصالهما ويرسي فنهما على شيء من الاصول الفلسفية )، من خلال فنية وجماليات الاسطورة الشعرية التي انتجها نص نجاح ابراهيم، ففي  نص "مدائن"  من ديوان "شهقة البرق"

( كنتُ.. 
أخططُ لرسم مدائنَ جديدة
أرتديها عطراً
وترتديني غمامةً
تصبّ دنانَ خمرِها
في دمي 
فأسقي العطاش
من شراييني
مدائنَ!! / ...
وشوارعُها يمطرُها 
ياسمينُ الشام 
اليشبه قلبكَ الحنون
أناسُها أنصافُ آلهة/... )

في انحياز اللغة الشعرية الى "اللغة الشعبية" التداولية مع بناء معرفي (فالشعر لغة داخل لغة) على حدّ تعبير الفرنسي جان كوهين، حيث نجد المقطع برمته صورة فنية أسطورية أنتجها النص الشعري، فيها علاقة الذات مع الآخر لتكون مدن الشاعرة حلمها الجميل مثل مدينة دمشق أو الشام - كما يحب السوريين تسميتها أحيانا في يومياتهم المألوفة -  لتعبر الشاعرة من خلال تقنية الذات والآخر والمكان في سرد الشعر إذ (ياسمين الشام) أو (ياسمين دمشق) يمطر عطرها شوارع المدينة لأن أناسها أنصاف آلهة في علاقة سببية بين طيبة القلوب ونقائها وعطر وبياض الياسمين وبريق خضرة أوراقه، حيث الآخر هو واحد من تلك الناس فـ(ياسمين الشام/ اليشبه قلبكَ الحنون ) مدلول بياض ونقاء قلب الآخر المحب أو الحبيب الذي هو مثل باقي الناس في شوارع دمشق كما أنه مثلهم من حيث الصورة الاسطورية للناس أنصاف الآلهة التي أنتجها النص، وقد اخرج سياقُ (أنصاف آلهة) من مفهوم الاسطورة القديم أو توظفيه شعريا لهذا الغرض في الحداثة الاولى للشعر العربي، الذي يعني القوة فقط والخاص بالبنى الفوقية من مثل كلكامش، الى مفهوم عام لكل الناس والذي يعني الطيبة ونقاء القلوب، ولا يخلو من القوة أيضا، من مثل المتداول الشعبي عندما يمتدح بعض العرب شعبا أو فئة من الناس، فيقولون أنهم ملائكة تمشي على الارض ويقصدون الخير والطيبة والنقاء، فالشاعرة تريد لمدنها الحلم أن تكون مثل دمشق، ومن زاوية ثانية للضوء على الصورة الفنية الاسطورية، نجد أن المجتمع السوري بسبب تسلط (داعش) صار هامشا مقهورا، فكان لابد للشعب السوري ومنه الشاعرة، لابد من خيال الاسطورة ولغتها الخاصة "اللغة شعبية" في انتاج النص الشعري ومن خلال تقنية الذات والآخر والمكان دمشق، بما يشبه البدايات في أنتاج الاسطورة على يد صيادي السمك في اليونان سنة  534 قبل الميلاد، فلا صمود ولا بقاء لأية حضارة دون الاسطورة تماما مثل بناء تلك الحضارة إذ (ما من حضارة يمكن أن تتحقق دون أن تختبر وتستشعر السمة الفضائحية للخطاب الاسطوري) ، فكانت الشاعرة نجاح ابراهيم تفضح افعال (داعش) وسطوته القهرية بإسم الدين، من خلال خطابها الاسطوري بقيم معرفية كلها جمال وحق وحب والفلسفة وخير... ولغة تداولية خارج سياق لغته ومفاهيمه، ومن تلك اللغة في مخاطبة الذات للآخر المُحب أو الحبيب من المقطع الشعري السابق بـ(اليشبه قلبكَ الحنون) فهو خارج سياق القواعد اللغوية، حيث ادخلت الشاعرة (ال) التعريف على الفعل (يشبه)، فالمهمش أو الهامش الاجتماعي عبر التاريخ ينتج لغته الخاصة به دائما كما لكل عمل اخلاقياته يتخلق بها صاحبه على حد قول ابن خلدون في مقدمته، ولكل عمل لغته ومفرداته اليومية المتداولة على لسان العاملين.. 
أما في إهداء ديوان "عاصفة الجمال"

( إليكَ..
لطالَما هناكَ صلةُ قرَابةٍ 
بين ذُرى قاسيونَ
وكتفيكَ )

فالآخر تربطه صلة قرابة مع شموخ جبل قاسيون في دمشق، إلا أنه من هو الآخر ربما حبيب أو صديق أو الشعب والوطن في كبرياء جرحه. لتراه الذات بهذا الشموخ الشاهق لأعلى قمة جبل يطلّ برأسه من السماء على مدينة دمشق، ضمن لغتها الشعبية في (صلة قرابة، وكتيفيك) فهي من اللغة المألوفة غير المعجمية من لغة التعبير عن الشموخ في اليوميات الدمشقية، وقد وظفتها الشاعرة للتعبير عن تفاعل الذات والاخر مع المكان/ جبل قاسيون، فجاءت في متخيل شعري اسطوري، لتكن الصورة الفنية تعبيرا عن الذات التي لا ترى الآخر إلا شامخا عزيزا أبيا، حيث تتساوى كتفيه مع أكتاف جبل قاسيون.
وفي نص "عاصفة الجمال" من ديوان "عاصفة الجمال"،

( مَنْ سِوَاكَ
يُحْدِثُ عاصفةَ الجَمال
في دمَشق
ويختزلُ في مدينةٍ
مَدى؟
ومَن سواي
تُروّضها، لتمشي
عن يميني )

فتبدأ الشاعرة بأسلوب الاستفهام لتعبر عن مشاعرها  القارة والمستقرة من خلال تقنية الذات والآخر، فالذات تستشعر بأن لا شيء يبعث الجمال ويحرك احساسها في دمشق سوى الآخر قد يكون الحبيب أو الوطن كما جاء في إهداء الديوان، لكنه يمشي معها هذه المرة في شوارع دمشق وكتفيه تقارب كتفي جبل قاسيون وهذا يجعل الذات قريبة من ألآخر عندما يمشي معها عن يمينها فهي تحبه وهو يحبها، الى درجة قبولها بترويضه إياها، ليصبح الشارع في دمشق شارع عشق وتفاعل مغرم بين الذات والآخر فيه شموخ العاشقينَ، فالذات لا تقلّ عن الآخر شموخا وعزا، حين جعلته يمشي معها في نسبته لها (لتمشي عن يمني) وفي الشارع أمام أنظار الناس في الهواء الطلق، وسط حركة الناس انصاف الآلهة كما في نص "مدائن" ، في متخيل الشعري انتجه الخيال الاسطوري، معادلا موضوعيا . 
الى هذه النقطة ومن خلال السطور السابقة نكون قد خلقنا أجواء النص الجديد  أو فضاء النص الدمشقي عبر البنائية التكوينية، حيث نص "المدائن" في البداية يكشف مدى تعلق الشاعرة بدمشق المدنية المكان من خلال تفاعل الذات والآخر كما تقدم، فهي تريد مدن أحلامها مثل دمشق، كما كان الاهداء المتقدم ثم نص "جمال العاصفة"، والى هنا سينتقل النقد بحثا ودراسة في تسلسل وترتيب بقصدية الكتابة بما يواصل بناء النص الجديد من خلال النقد الادبي، فهذه الكلمات  ضرورة هامة لتذكير المتلقي بما جاء في بداية هذا الفصل الثاني، وليتحرك المتلقي بحرية في دمشق النص من سرديته الشعرية في البنية التأليفية له هاهنا، إذ قصة الذات والآخر وتفاعلهما في دمشق/ المكان النص الجديد معادل الموضوعي لدى الشاعرة نجاح ابراهيم. 
ومن نص " تناص" في  ديوان "عاصفة الجمال"

( قبل أن أوفيكَ 
ألقاباً في السّمو
يا قاسيون!
لك شبيهٌ في العلو! )  

ومازالت الذات في الشارع الدمشقي والآخر الحبيب مازال يشبه شموخ جبل قاسيون، في اسلوب اخباري  دون ذكر للآخر لأنه معها في الشارع فلا حاجة لذكره في هذا المقطع بما يجعل الذات تعيش حالة المنولوج الداخلي فتتكلم مع جبل قاسيون في نفسها وهي ناظرة له، وتمشي مع الآخر في احد شوارع دمشق، ليسجد جبل قاسيون الخارج المادي مكانا بوصفه جبل يطلّ على المدينة وليس هو في داخلها فيما يكون الشارع الدمشقي الداخل المكاني وصف الداخل والخارج المكاني عند باشلار، إلا أن الداخل النفسي للآخر ظل غامضا اتجاه الذات التي يمشي معها وكذلك اتجاه جبل قاسيون المكان المادي خارج المدينة بينما داخل الذات النفسي كان يتفاعل بقوة مع الآخر والجبل، إذ في نقطة التحول والاحساس النفسي والتفكير العقلي، بين الداخل والخارج تختلف التفاعل من شخص الى ثان فـ(لا يلتقيان بنفس الطريقة للنعوت للمميزة لمقاييس ولائنا، كما أننا لا نعيش النعوت المميزة المتصلة بالداخل والخارج على نحو متماثل)، ثم تنتقل الذات والآخر الى "باب توما" من مدينة دمشق في نص " أسَمّيكَ غرناطة" من ديوان "عاصفة الجمال"

(من بابِ توما
أطلّت غرناطةُ، تُحاصرُنا كالهَواء
بفتوحاتِ الرّائحة
مَبهوراً تنظرُ إلى أميرةٍ دِمَشقية
مبتلة بمطرٍ أندلسيّ
تلامسُ أصَابعُك الجدرانَ المعشّقة بالأزَل
فتدارُ الكؤوس  التي كانتْ فارغة
بخمرِ بوحِكَ
وكامرأة وَفّرتْ حبَّها لزمنِ النّخلِ في دمكَ
رفعتْ صلاةً بين سحرٍ يُغوي قديسة
وخاطئة زمناً، عن سجّادة بهائِكَ
أسمّيكَ غرناطة 
فيرقصُ المكانُ عُصفوراً 
للتوّ طارَ مِنْ صَدري؛
ليَشْهدَ بين يديّ الزّقاق قيامتي.)
 
ثم يكون الحوار بين الذات والآخر في "باب توما" وازقتها حيث الزقاق له نكهة المحبة والالفة بين الناس كأن بيوت الزقاق بيت واحد، مع حركة الحياة لمَن في الزقاق، بينما يختلف الاسلوب السردي في هذا النص خلال توظيف الصدمة في  السرد الشعري حيث يتحول السرد (من بابِ توما/ أطلّت غرناطةُ...) من لغة الاخبار عن الغائب المؤنث الى الحاضر المذكر (مَبهوراً تنظرُ إلى أميرةٍ دِمَشقية) ثم تفصح الشاعرة نجاح ابراهيم عن الذات بالمرأة  في صدمة جديدة وعودة للمؤنث (وكإمرأة وَفّرتْ حبَّها...) لتكن المرأة قد أدخرت مشاعر حبها فيما يكون الآخر غادرها كأنه ضوءا بعد بوحه لها  في(أسمّيكَ غرناطة/ فيرقصُ المكانُ عُصفوراً/ للتوّ طارَ مِنْ صَدري؛ /ليَشْهدَ بين يديّ الزّقاق قيامتي) .
 

 

 

 

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي