مقالات ادبية واجتماعية وفنية
حيدر عبد السادة جودة | كاتب عراقي
صدر حديثاً عن دار قناديل كتابٌ مُلهِمٌ للأكاديمي العراقي قاسم جمعة, يحمل عنوان:(خارج أسوار الأكاديمية-الفلسفة والسؤال الثقافي), وهو كتاب فريد ونادر من نوعه, كونه يمارس فيه المؤلف وسيلته المعهودة في النقد المُتفرّد على السلك التعليمي والتربوي, الأمر الذي قد تحاشاه الجميع, فبقي يجترُّ الأفكار مكرراً ما قاله السلف الفلسفي أو السيكولوجي أو الأنثروبولوجي وغيره من العلوم. وفي هذا الكتاب لا ترى تمرداً عبثياً, بل هو تمرد أكاديمي موزون ومنضبط, وهو أعلى درجات النقد الحقيقي الفعّال والمُنتِج. هنا وفي هذا الكتاب, تجد التمرد الأكاديمي على السياج الأكاديمي, وهي ممارسة معقدة, من دون قدحٍ أو جرح, وهو أشبه بنورس الكاتب(ريتشارد باخ) (جونثان), مع دعائي بعدم اعادة المشهد الـ(جونوثاني) وإسقاطه على الدكتور قاسم جمعة. فنحن نعلم كيف تُلاقى الاجتهادات التي تتحرك خارج عباءة السرب.!!
يبدأ الكتاب بالتساؤل الآتي: لماذا خارج أسوار الأكاديمية؟ وهل بالإمكان الخروج عن جدرانها؟. ومع كونه يشير إلى أنه ليس بصدد مغادرة الأجواء الأكاديمية, بقدر ما يُحاول أن يلفت النظر إلى قصوره وعقم موضوعاته, على اعتبارها لا تغادر المناطق البحثية التي أعدتها المؤسسات الرسمية مسبقاً. وهذا ما تمارسه (جمعيات الخطاب) كما يرى (ميشيل فوكو), حيث تُنجز وظيفتها بشكل مختلف جزئياً, وتكمن وظيفتها في الحفاظ على الخطابات أو انتاجها, لكنها تفعل ذلك لكي تجعل هذه الخطابات تتداول في مجدال مغلق, ولئلا توزعها إلّا وفق قواعد مضبوطة.
فالساسة ومنظوماتهم التربوية والتعليمية تأبى شق عصا الطاعة وثقافتها المرسومة بيداغوجياً, ونحن عموماً رهن الخارج اللامتوقع, فعلينا بلغةٍ بعيدةٍ عن أفعال الكلام, أن نخرج من أسر الأسوار ونجترح موضوعاتٍ تمسُّ الداخل؛ فالأوامر تصدر والتعليمات تقتل أيُّ أفقٍ للتغيير. ومن ثمَّ فأكداس الأوامر والإرباك الموجود في إصدارها وتفعيل أساطير جديدة.
مع ما تقدم, لم يكن الهمّ الرئيس للمؤلف أن يكون كتابه مهتماً بتسليط الضوء على مؤسسة التعليم باعتبارها مؤسسة سياسية ومحاصصاتية, بل انصب جلّ اهتمامه في طبيعة علاقتها السلبية في إنتاج الدرس الفلسفي اللائق بالفلسفة, فالفلسفة لا تملك اليوم صوتاً وسط صياح الديكة, وما علينا إلا أن نسجل بياناً نرفض فيه تجهيل العلم وربط مصيره بعقلٍ يدّعي التطوير الأعرج.
ويتمثل هذا التطوير الذي قصده المؤلف بتفعيل خاصية المنصات الإلكترونية, باعتبارها سبلاً كفيلةً بإنتاج رؤى جديدة وتقنيات حديثة ومتطورة, لكن المؤلف يضعها في ميزان النقد فيقول: ربما أصبح الجهل هو أعدل شيءٍ يجمعهم نحو منصة الغباء الإلكتروني, الذي يعتمد كلياً على عكازاتٍ تقنيةٍ, والتي تؤدي بالدرس الأكاديمي عموماً, والفلسفي على وجه الخصوص, إلى أن يكون عبارةً عن مقررات مؤدلجة وشعارات مبسطة, إذ يصبح الأكاديمي أسيراً للبرامج الإلكترونية, ويغيب عنهم كل استقلال عقلي إبداعي حر.
وبعد قلب طاولة المؤسسةِ الأم, يعرّج المؤلف على دور الابن في مزاولة عمله داخل نطاق تلك المؤسسة, ونقصد بيه المدرس للفلسفة, لينتهي في كشف العلاقة ما بين الاستاذ والتلميذ إلى القول الآتي: إن العلاقة بين استاذ الفلسفة ومريدها, إنما هي علاقة تسلطية عمودية, مشحونة بالعنف الرمزي, فالنظام التعليمي يتمركز حول القهر والعقوبة... لكن سرعان ما يعود المؤلف إلى أن العقبة الأكبر تكمن في المؤسسة, لدرجة أن مدرس الفلسفة بات يشعر بأن مجال عمله يشبه عمل الشرطي أو الجندي, فهو مُحاصر بمنهج مُعد من قبل سلطة التعليم والتربية من جهة, وضغوط تحيزه الإيديولوجي من جهةٍ أخرى.
فالدرس الفلسفي بالأخير, لا يشغل باله كثيراً إلا بما يُرسم له رسمياً, فهو لا يليق به ولا يصلح أن يخوض غمار البحث في نفسه, لكن يبقى الأهم كيفية تعزيز مباحث الفلسفة بمياه وجودية تحيي السؤال الفلسفي, من خلال إيلاء الأهمية لموضوعات راهنة, كما الحال مثلاً مع البيئة والحرب والميديا وثقافة الصورة وثقافة الجمهور. وهذا الأخير, من أروع المباحث التي ناقشها المؤلف, والذي ينتهي فيه إلى أن الانتصار الجماهيري في البعد الثقافي, هو المسؤل الحقيقي والفعّال في تشكيل خطاب ما بعد التنوير والحداثة.
مثل هذه الكتب يجب أن نقتني, بل يجب أن نحتفي أيضاً, فهي محاولة لإعادة النظر في ملف التعليم الذي بات يعاني من السبات القهري, والذي لا يمكن له أن يرى نوراً إلا بمثل هذه الرؤى النقدية الفاحصة, والتي تنشد, أولاً وآخراً, تطوير تقنيات العلاقة بين المؤسسة الراعية ودوائرها التعليمية من جهة, والاستاذ والمريد من جهةٍ أخرى.
...........................
الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-
او تحميل تطبيق نخيل
للأندرويد على الرابط التالي
لاجهزة الايفون
او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي