مقالات ادبية واجتماعية وفنية
ناصر أبوعون / ناقد مصري
وقعت عيني مصادفة على نص (أُرتبُ لكِ الأيام) للشاعر العراقي حسين السياب وأدهشتني براعته اللاشعورية في محو السذاجة اللغوية بـ(إسقاط أدوات الربط) فتتشابك المعاني، وتتضفّر في المفردات التي تنزاح في موجات متتالية فتحقق لُحْمَةً عضوية تسري في إيقاعات داخلية متسارعة، وتتسرب في نفس القاريء، وتحقنها أفعال متلاحقة في وريد القصيدة، وتستنبت بلازما حيوية تنطبع على جدار الصور الشعرية الغائرة، لتكشف عن فوضى العالم. (لا تكبُرْ أيُّها الشقيُّ/أقسمتُ عليكَ بطينِ الأمهاتِ الجنوبيات.. ألّا تكبرْ/أيُّها الطفلُ المشاكسُ في روضةِ الأحلام.. أقمْ فيَّ ذاكَ الجدار الذي سقطَ).
وفي القصيدة نلحظ ثمة رؤية ذاتوية دفعت حسين السياب لامتطاء صهوة الانزياح اللغويّ، لكنه أعرض وأشاح بوجه القصيدة عن إثارة فضول القاريء، وهذه تقنية تعمّد الشاعر إتيانها، وتأويل ذلك ربّما يعود لشعور السيّاب برغبة عارمة في الطواف حول الذات، والانفلات خارج المدارات التقليدية التي أسرت شعراء الموجات السابقة من قصيدة النثر، وثمة أسباب أخرى تقف وراء هذا التمرد الذي يمارسه الشعراء على (المعيار والقاعدة والعادة)، والتي تسكنها لهفة عارمة في كسر التابوهات، واختراق حواجز المألوف والمعتاد الذي درج عليها القراء، فتوَلّد عنها انكسارات حادة سكنت النص، وهي في الحقيقة ظلال وارتدادات للسهام التي تكسرت على مرايا الروح وذات الشاعر. (ولا تسابق الأيامَ التي تركضُ..بزلالِ الشوقِ/ارتشف الصبرَ/ولا توقظ الليلَ المحفوفَ بالشعر)..
في هذا النص لم يشتغل حسين السياب على (ثيمة التغميض) التي انطلق منها جُلّ فرسان القصيدة القديمة، بل يوغل في الوضوح، ويتقصّد إضاءة جميع المناطق المظلمة، وينفتح على الأكثر وضوحا، ويعرضه على مرآة روحه الصافية رغم انكساراتها، ولا يختبيء خلف أصبعه مثل الشعراء الأوائل والآباء المؤسسين لقصيدة النثر العربيّة، ولا يُدْخِل القاريء في متاهة اللغة المَشهدية ولا يُوظف قاموس الحياة اليومية بحجة تفجير اللغة. (أيِّ متسعٍ يرضي غرورَك المرتهّن؟/ أية ذكرى تحمِلُك لنخبِ الحياة/وذكريات الروح المصلوبةِ على لوحِ الحانةِ المظلمةِ../ سامرْ طيفَ امرأةٍ تسكنُ قربَ صفصافِ النهر/كأمنيةٍ تتوارى تحتَ ظلالِ الخجل...)
وفي قصيدة حسين السيّاب يتبدى التكثيف، والاقتصاد المتعمّد في حشد المفردات، ويسير على حواف القاموس العربيّ، وينتبه حتى لا تزلق قدمه في لجّة الشرح التي تتولد في سياقاتها تفاصيل كثيرة تشبه زغب الريش المنفِّرة على جسد القصيدة، وتجر الشاعر إلى وهاد الإسهاب. بل يركز على بؤرة الشعور والعاطفة والإحساس بالشعر، ويرسل عبر نظام إشاريّ شعريّ ومضات مثيرة، والتلميحات الخاطفة (وتخالجني النفسُ إليكِ/كمن يشتهي الأجوبةَ المملحةَ بشغفِ الأسئلةِ البريئة/ رغمَ أنّي إلى الآن أُلقِنُ الصمتَ عذبَ الكلام...).
وفي الأخير فإن الشاعر حسين السيّاب يبث في القاريء لغة شعرية كاشفة ومضيئة، تخترق جدار صمته وتنفتح على مسارات لا متناهية من التأويل، رغم بساطتها، و"تجرد المتلقي من سلطة اللغة التداولية ذات المعنى الأوحد" (ألقِ بصدركِ عليَّ/لأغفوَ خالياً من الهمِ/أتسمعين صهيلَ الأزهارِ في فناءِ روحي؟/فذاك الموجُ فيّ، يضربُ جدارَ القلبِ
كوقعِ السياط...)
( النص )
أُرتبُ لكِ الأيام..
لا تكبُرْ أيُّها الشقيُّ
أقسمتُ عليكَ بطينِ الأمهاتِ
الجنوبيات.. ألّا تكبرْ
أيُّها الطفلُ المشاكسُ في روضةِ الأحلام..
أقمْ فيّ ذاكَ الجدار الذي سقطَ
ولا تسابق الأيامَ التي تركضُ..
بزلالِ الشوقِ
ارتشف الصبرَ
ولا توقظ الليلَ المحفوفَ بالشعر..
أيِّ متسعٍ يرضي غرورَك المرتهّن؟
أية ذكرى تحمِلُك لنخبِ الحياة
وذكريات الروح المصلوبةِ على لوحِ الحانةِ المظلمةِ..
سامر طيفَ امرأةٍ تسكنُ قربَ صفصافِ النهر
كأمنيةٍ تتوارى تحتَ ظلالِ الخجل...
وتخالجني النفسُ إليكِ
كمن يشتهي الأجوبةَ المملحةَ بشغفِ الأسئلةِ البريئة
رغمَ أنّي إلى الآن أُلقِنُ الصمتَ عذبَ الكلام..
ألقِ بصدركِ عليّ
لأغفوَ خالياً من الهمِ
أتسمعين صهيلَ الأزهارِ في فناءِ روحي؟
فذاك الموجُ فيّ، يضربُ جدارَ القلبِ
كوقعِ السياط...
...........................
الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-
او تحميل تطبيق نخيل
للأندرويد على الرابط التالي
لاجهزة الايفون
او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي