مقالات ادبية واجتماعية وفنية
د. نصيف الحميري || كاتب عراقي
يحالفني الحظ لأقرأ روايةً أخرى للروائي العراقي البارع سعد سعيد في أقل من شهر ، فبعد هسيس اليمام التي حدثتكم عنها في مقالٍ سابق أهداني الكاتب أو أعارني نسخته من هذه الرواية التي صدرت سابقاً ولم تأخذ حظها من الإهتمام رغم إعتقادهِ ( وهو على حق ) بأنها تستحقُّ ذلك . من عادتي عندما أقرأُ روايةً أن أرى عدد صفحاتها أولاً حتى إذا بدأْتُ القراءة ووصلت ُ الى صفحةٍ معينة أعرف أنني أكملت ربعها أو نصفها أو أكثر ويتملكني الفرحُ كلما إقتربتُ من نهايتها إلاّ هذه الرواية فقد تمنيتُ أن تطول َ و تطول ذلك لأنني كلما غصتُ في أحداثها إزدادت متعةُ القراءة . الرواية عبارة عن بوحٍ يشبهُ الإعتراف لشخصٍ إسمهُ يسار يوثقُ فيه أحداثَ حياته للعقيد ( عباس محمود زكي ) الذي عامله بلطف عندما سمح له بالمبيت معه في غرفتهِ بدلاً من النظارة بعد أن تم توقيفه لأنه تورط في شجارٍ مع شخصٍ لا يعرفهُ بل ساقتهُ الأقدار ليكون شاهداً على ظلمٍ وقعَ على طفلٍ كان يلعبُ في أحدِ أزقّةِ بغداد فأضطرّ ليدافعَ عنه وضد من ؟ ضد أبيه الذي إنهالَ عليه ضرباً و إهانةً ليرضي جارهُ صاحب البيت الذي يستأجرُه . وهذا الشجار يختصرُ في الواقع قصةَ الرواية التي هي قصة الظلم ، الظلم الذي تعرّضَ له يسار محمد محمود لا لسببٍ إلاّ لأنه كان يعتنقُ فكراً لم ترتضيهِ السلطة حيث كان شيوعياًّ . يسار من مواليد نهاية الخمسينيات ، يأتي من مدينة صغيرةٍ في أحدِ محافظات العراق يحدوهُ الأمل لإكمال دراستهِ الجامعية في بغداد و تحديداً في الجامعة المستنصرية في نهاية السبعينات وهي الفترة التي شهدت بغدادُ فيها نهوضاً عمرانياًّ وأقتصادياً كبيرين. لكن القدر يشاء أن لا يكمل دراسته حيث يضطر للهرب بسببِ مطاردة السلطة للشيوعيين آنذاك حيث يستقر به المقام في جبالِ كردستان مقاتلاً ضد النظام . لكن يسار لم يستطع نسيان ماضيه فصورة حبيبته البغدادية ( زها ) أبت أن تفارق مخيلته فقرر المجازفة والعودة الى بغداد بحثاً عنها فيفشلُ في المرة الأولى ويحاول ثانيةً فيقع فريسةً بين أيدي شرطةِ أمن النظام ليذوق أصناف العذاب والذل على أيديهم وخصوصاً الجلاّد ( أبو دفرة ) . يسار لم يتعرف على جلاديه حيث لم يكن يسمحُ له بمشاهدةِ وجوههم وبعد مقاومةٍ باسلةٍ لتعذيبهم تنهار قواه ليعترف لهم بكل شيء وليفرجوا عنه بشرطِ أن يكون عيناً لهم في جبال كردستان و يوافقُ مضطراًّ لكنهم لن يروه مرةً أخرى فبعد عودتهِ الى جبالِ كردستان منكسراً محطماً يهيئ له القدر رفيقاً كردياً يخرجه من جحيم الحياةِ في جبال كردستان الوعرة الى سوريا . في سوريا تبدأ معاناة أخرى بين صعوبة العمل وشكوك مخابرات النظام التي تلقت وشايةً بأن يسار هو عميل للنظام العراقي وممن ؟ من رفاقه الشيوعيين فيتعرض للتوقيف عدة مرات حتى يهيئ له القدر مرةً أخرى من يخرجهُ من جحيم الأنظمة الشمولية في الشرق الأوسط الى نعيم الديمقراطية في أوربا ليستقر في السويد ويبدأ رحلة حياةٍ جديدة يصيب فيها النجاح والثراء . لكن يسار يبقى مسكوناً بذكرى حبيبته البغدادية التي تأبى أن تفارق مخيلته . ثم تمر السنون ويسقط النظام في ٢٠٠٣ فتسنح له فرصة أخرى للبحث عن حبيبته زها التي أصبح إسمها يزين عدداً من المحلات في كثيرٍ من المدن السويدية والتي تعود ملكيتها للرأسمالي الجديد والشيوعي القديم يسار محمد محمود . وعندما تحين الفرصة لعودته الى بغداد التي يكتشفُ بأنها لم تعد بغداد التي فارقهاشاباً فهي مدينة أخرى حزينة وبائسة لكنه لا يريد سوى أن يعرف أخبار زها لعله يجتمع وإياها مرة أخرى . وهنا تبدأ سلسلة من المفاجآت المذهلة في حبكةٍ روائيةٍ محكمةٍ . زها حبيبة عمرهِ التي لازمت خياله ثلاثة عقود قتلت في شجارٍ مع أخيها في نفس اليوم الذي قضتهُ مع يسار للمرة الأخيرة في بيتٍ صغير في شارع فلسطين يعود لقريبه الذي هاجر وترك له مسؤولية البيت . وبعد تشريح جثتها إكتشفوا أنها كانت حاملاً في مفاجأةٍ مذهلةٍ أخرى تهز عالم يسار بعنف وتقضى على كل ماتبقّى له ليموت وحيداً في منفاه الجميل بعد تعرضه لنوبةٍ قلبية . ولكن المفاجآت لا تنتهي فالصديق الوحيد الذي كان حاضراً في لحظات حياته الأخيرة هو نفسه أحد جلاديه المفوض الذي طرد من الأمن لأسباب أخلاقيةٍ ليعود بعد السقوط عقيداً في مفارقةٍ أخرى مضحكة مبكيةٍ في
عراق المفارقات اللامعقولة . رواية سعد سعيد هذه حافلةٌ بكل شيء تبدأ بقطعة نثرٍ رائعةٍ لم أحسبها إلاّ شعراً فقد ذكرتني بالسياب الخالد وهو يحكي عن الوحدة والليل والحزن ( في سكون الليل ينتصر المنطق أو يطغى الجنون ، وفيه تتجسد الآلام ويعيش الإنسان رؤاه وكأنها حقيقة ....) . ويختم الرواية بسرد لأبيات السياب العظيم وجدت في وريقةٍ سقطت من جيبِ يسار وهم يحملونهُ ميتاً ( أحببتُ فيكٓ عراقٓ روحي أو حببتُكٓ أنت فيه ......). هذه الرواية تستحق أن يقال فيها الكثير فهي تجسد تأريخاً لجيلٍ أو جيلين من أبناء العراق ما إن أبصروا الحياة حتى حاصرهم الموت والحزن . جيلان عايشا صعود الحياة والمدنية في العراق وسقوطها المريع .
...........................
الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-
او تحميل تطبيق نخيل
للأندرويد على الرابط التالي
لاجهزة الايفون
او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي