مقالات ادبية واجتماعية وفنية
سعد الياسري || شاعر وكاتب عراقي
بالطبع، يمكن لأي نصف قارئ أن يدرك أن العقل الفلسفي المعاصر، الحديث، الذي ظهرت إرهاصاته الأولى في فترة ما بعد الهيغلية، هو عقل ألماني. وسواء كنا راضين عن ذلك أم لم نكن، فإن عقولاً "جرمانية" -ألمانية ونمساوية- نحتت بشكل أو بآخر أفكار وتوجهات البشرية السائدة في العالم اليوم، مع قليل من الاستثناءات التي تؤكد على هذه القاعدة. ولعل نظرة سربعة على منجز: فيورباخ، شتراوس، ماركس، إنجلز، نيتشه، فرويد، شتيرنر، هايدغر، هوركهايمر، فروم، أدورنو، هابرماس… وغيرهم كثر، يؤكد أن العقل الألماني خاض عميقًا وبعيدًا، وفي كل اتجاه وعلى كل مسار.
على أن مدرسة فكرية ألمانية بعينها، وإن ادّعت الأممية، وأعني مجموعة فرانكفورت، كان لها مسارها الخاص، ومعالجتها (الراديكالية إن شئت) لقضايا ما بعد الحرب العالمية الثانية، والموقف من نضال الشعوب وثورات الطلاب واستقلال الجزائر وحرب فيتنام، وبالتأكيد: إسرائيل ككيان واليهود كشعب وفلسطين كقضية.
من نافل القول التذكير بأن كل المؤثرين الحقيقيين في أفكار (مدرسة فراكفورت) كانوا يساريين، وبعضهم كان شيوعيًا مخلصًا استمر على إيمانه الماركسي، وآخرون لم يحتملوا رعونة القبضة الستالينية فانسلخوا عنها نادمين أو ملتمسين السلامة. لكن سمة أخرى تجمع كل المؤثرين في تلك "المدرسة"، وهي إنهم يهود أو نشأوا في عائلات يهودية، أو تتلمذوا على يد فلاسفة بهود… وتلك ليست مصادفة بالتأكيد.
والآن، نأتي لسبب كتابة هذا المنشور، وهو موقف (هابرماس) من الجرائم الإسرائيلية في حق الفلسطينيين… وهو موقف -في تقديري- ينسجم مع تاريخ الرجل الفكري، الواضح والمعلن في تأييد هذا الكيان المجرم مهما كانت الأثمان.
ولد هابرماس عام 1929، لعائلة مسيحية بروتستانتية ميسورة، نشأ في يفاعته ضمن منظومة هتلر النازية، وآلة غوبلز الدعائية، ونهل منها بعض الأفكار حين جُنِّدَ في واحد من معسكرات التثقيف والتدريب النازية للشبيبة؛ قبل نهاية الحرب بعام أو اثنين، تلك الأفكار وصمته بالتعاطف مع النازية، وهي التهمة التي سيتبرأ منها لاحقًا إذ لم تكن لتعني شيئًا بالنسبة إلى طفل في الثالثة عشرة من عمره… بل سيقضي عمره كله مكافحًا في سبيل التحرر من عارها.
يكبر الفتى هابرماس، ويتخصص في طيف واسع من الأفكار في التاريخ والاجتماع والسياسة والفلسفة مجردةً بالطبع. وسينشأ ذهنيًا وفكريًا تحت وصاية ثلاثة عقول (ألمانية - يهودية) تعد أركان مدرسة فرانكفورت، ولها موقف شبه متطابق من المسألة (اليهودية) ومن ثم (الصهيونية) و(إسرائيل) و(القضية الفلسطينية)… ونعني بتلك العقول: هوركهايمر، أدورنو، ماركوزه.
كانت لهوركهايمر [1895-1973] ترنيمة يرددها حيثما ولّى وجهه، وهي نفس الترنيمة التي يتقيأها اليومَ عُتاة الصهاينة من إسرائيليين وغربيين وآخرين، ترنيمة تقول كلماتها (من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها ضد الفلسطينيين والعرب ومحيطها المعادي) وهذه العبارة هي جوهر فهمه، ومنتهى يقينه بما يخص القضية الفلسطينية حتى وفاته… بعيدًا عن أية تنظيرات سخيفة أخرى تحاول ترميم سفاهة الرجل بهذا الشأن.
أما أدورنو [1903-1969] فكانت له صلاة بدوره، يقول فيها (نأمل أن يكون الإسرائيليون متفوقين عسكريًا على العرب) وكانت تلك العبارة مختصر موقفه النهائي من القضية الفلسطينية حتى وفاته.
بينما اختط ثالثهم، ماركوزه [1898-1979]، المدجج بالدم اليساري حتى الأسنان، اختط طريقًا أكثر هيغلية، تطويبة تاريخانية إن صح القول، إذْ يرى أن نشوء كيان مثل إسرائيل (كفيل بمنع مآسي الماضي وبحماية اليهود) وأن (جميع الدول عبر التاريخ أُسِّستْ عبر الغزو والاحتلال والتمييز) وكانت تلك الرؤية الاستعمارية الفجّة دليله الوحيد إلى فهم القضية الفلسطينية حتى وفاته.
إذن! لقد رضع هابرماس خلاصة أدمغة هؤلاء الثلاثة، ويُعدّ اليومَ (وهو على مشارف اللحد) وريثهم الحقيقي والوحيد، رغم تنكّره لكثير من مبادئهم النقدية بما يخص تفصيلات في الحداثة والتحرر وغيرهما من المفاهيم. لذا لا أجد سببًا واقعيًا يجعلني أُفاجأ بموقفه هذا.
كان هابرماس وسيبقى الدوني الحقير أمام كل ما هو يهودي وإسرائيلي، والكائن الضحل روحيًا وأخلاقيًا، المتضع الغارق حتى أذنيه بعقدة الذنب وعقائد السعي للخلاص والطهارة مما علق به في سنوات يفاعته، مطأطئ الرأس والروح لا يجرؤ حتى على تقييم السلوك الإسرائيلي الذي انتقده إسرائيليون ويهود حول العالم لعقود طويلة، بل سيقول خانعًا منكسرًا (ليس على مواطن ألماني من جيلي تقديم تقييم لتصرفات إسرائيل). وهو تقريبًا يشبه موقفه الأخير من الحرب الإسرائيلية المجنونة على الشعب الفلسطيني، فيقول بانكساره وخنوعه المعهودين (من غير المقبول أن يتعرض اليهود للإبادة مرة أخرى) وأن ما يفعله هذا الكيان الداعر هو مجرد رد على ما وصفه (الهجوم الوحشي الذي شنته حماس)!
إن هذا الانحطاط الذي يمثله هابرماس، هو الذي يعطي الحقّ لأحزاب ألمانية كُبرى من قبيل (الحزب الديمقراطي الاجتماعي) و(الاتحاد الديمقراطي المسيحي) في الدعوة قبل أيام إلى تشريع قوانين جديدة بما يخص الحصول على الجنسية الألمانية، تتضمن أن يعترف طالب الجنسية بـ"إسرائيل" كأحد شروط قبول طلبه. ولن أكون مبالغًا لو قلتُ: يومًا ما سيصبح من العار على المرء أن يكون ألمانيًا!
على عِظم (مدرسة فرانكفورت)، وتأثيرها الفكري وإسهاماتها خلال القرن الأخير، والتي لا تزال تمثل إلهامًا حاسمًا ومنطلقًا لمعظم الفلسفات الراسخة أو الناشئة؛ كانت ثريةً في كل شيء إلا في نُصرة الشعب الفلسطيني المظلوم، وهي -في تقديري- نقيصة من أعظم النقائص، لأن الاختبار الأخلاقي الأول -عندي- يكمن في معرفة موقف المرء من القضية الفلسطينية وإلى من هواه يميلُ.
أخيرًا، يُذكر عن الألماني - الأميركي إريك فروم [1900-1980]، المفكر واللاهوتي، اليهودي الملحد، والنفساني الكبير والمؤثر، وهو للمصادفة من أرقى وأجمل ظلال أو ما يسمى (أصدقاء) مدرسة فرانكفورت الكبار، أنه أسس مع زوجته (فريدا) معهدًا للتحليل النفسي؛ أسمياه (معهد الشفاء من التوراة)، وأظن بأن العقل البشري، الألماني وغير الألماني، مطالب اليومَ بتأسيس (معهد الشفاء من أفكار مدرسة فرانكفورت المُعدية)!
...........................
الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-
او تحميل تطبيق نخيل
للأندرويد على الرابط التالي
لاجهزة الايفون
او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي