loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

قراءة في المجمُوعةِ الشّعريّة "طُقوس النّاي والنّار"

breakLine
2024-09-02

 

 

نجاة نوار /ناقدة تونسية

 

"غنّى ولم يجِد المَعنى وأطربَه إيقاعُ أغنية ضاقت بها الطُّرقُ
وقالَ: قد يُولَدُ المعنى مصادفة 
وقد يكون ربيعي: ذلك القلقُ" 
محمود درويش.
قبلَ البدْءِ: 
لئن عُرف الشّعر بأنه فنّ تفريغ للحجرات النّفسيّة ورسمٌ بالكلمات لحالات الشّعور المتنوّعة؛ أملا وألما، غضبا ويأسا تمرّدا وانهزاما.. فإنه يُعتبر إضافة إلى ذلك فنّا قائمَ الذّاتِ تماما كالموسيقى والسّينما والمسرح. فنٌّ رافق الإنسانَ بمختلف العُصور ومثّل سِجلّا عظيما للحياة البشرية اختزل تَجارُبَها وشَرَحَها بصُورٍ فنّيةٍ تَمنحُ إلى جانبِ اللّذةِ الجماليّةِ لذّة معرفية تُمكّنُ الإنسانَ من مزيدِ فهمِ الكونِ وفهمِ نفسهِ وعوالمهِ الرُّوحيةِ وعوالم الآخرين.
سأتوقّف في مداخلتي على عتبتين حاولت في الأولى أن ألامس النّص من حيث بِناؤه وفي الثّانية غوص بمضامينه وأبعاده. وإن كان الفصل هنا إجرائيا لغاية الدّرسِ. 
1- الكتابة طقس تطهّر ورحلة للخلاص. 
ورد الدّيوان الصّادر سنة 2022 في (183) صفحة واحتوى بعد التّقديم والإهداء والتّصدير على  (112) قصيدة منها بعض الومضات. تفاوتت القصائد من حيث الحجم والطّول لكنّها حافظت على لون الكتابة حيث وردت كلّها من الشّعر الحرّ        أو قصيد التّفعيلة تنقّل فيها الشّاعر بخفّة بين بحور الخليل وإيقاعاته محاولا القطع مع كلّ تصوّر يقول بأنّ التّفعيلة تكبّل الشاعر وتخنُق المعنى. جاعلا منها الرّكن الأساس لشعريّة النّصّ. ولأنّ الأدب عموما والشّعر خصوصا هو عمليّة مقاومة ورفض لكلّ سائِدٍ كان من الضّروريّ أن يُقيم خطابه على جملة من المفارقات.  
أقام الشّاعر طقوسَ شعره منذ العتبة الأولى وهي العنوان على ثنائية: ناي /نار. وما تحمله كل لفظة من مدلولات فالنايُ : لُغة هو آلة موسيقيّة شرقيّة هوائيّة وهي عبارة عن قصبة مجوّفة مفتوحة الطّرفين تحمل ثقوبا ينفخ فيها العازف فتصدر صوتا شجيا. والنّار هي الطّاقة الحراريّة والضّوئيّة التي تنتج عن الاحتراق اسم يعود إلى جذر
 ( نور ) يدلّ على إضاءة واضطراب وقلّة ثبات ومنه النّور والنّار سُمّيا بذلك من طريقة الإضاءة  لأنّ ذلك يكون مضطربا سريع الحركة. فما الذي ألّف بين النّاي والنّار في هذا المُؤَلَّف؟
النّاي في نصّنا لحنٌ ونغم وعزفٌ وأغانٍ ونشيدٌ وأوتارٌ ومواويلَ فالنايُ رديفُ فرحٍ. أغنيةٌ سيتردّد صداها بين دفّتي الكتاب.. لكنّها ستتصادى مع ما يقابلها ولن يكونَ نقيضُ الغناءِ والعزفِ صمتا وسكونا بل طقطقة لهبٍ مُتَّقِدٍ: والنّارُ التي نستميحُ ضوْءَها ودِفْءَها لا بُدَّ في المقابل أن نُطعمها وليمة تُحرِقُها و لن يخلوَ كلّ حريق من رمادٍ يُخَلِّفُهُ...
يقول:
"كم تألمت شديدا 
والأسى درب الأرق 
نار تطهّر بالعنى أرواحنا 
مثل الحديد.
إذا اختبرنا أصيله بالنار صحَّ
والمزيّف يحترق..."

اختيار النّاي إذن لم يكن اعتباطيّا و إن أراد به معنى الغناء والشّدوِ فهو غناء حزين/يُسمّى صوت النّاي أنينا وبينَ النّاي والنّار ارتحل بنا الشّاعرُ بإيقاعات هزجةٍ حينا حزينةٍ أحيانا وبِلغةٍ شفيفةٍ قريبةٍ للرُّوحِ تُلامسُ الوجدانَ باحثا عن قيم الجمال مشكّلا للوحاتِ المعنى راسما مسارَ خَطوَهُ بفرادة على دربِ الشِّعر. النّاي على بساطته الظاهريّة من أعرق الآلات الموسيقيّة تُنحت ثقوبه السّتة على استقامة واحدة وآخر من الخلف يتحكّم به الإبهام  بدقّة متناهية في مواضع معلومة ويُنفخ فيها بطريقة مُحدّدة ليُؤدّي ما تحتاجه المقطوعات الموسيقيّة حسب السّلّم الموسيقيّ. ولم يقف حدود هذه الآلة في إطار ميدان الموسيقى الغنائي بل تعدّته ودخلت مواطن الطّرق الصّوفيّة في التّكايا والزّوايا. ولعلّ لفظة "طقوس" تلمح إلى ذلك. العزف بالنصّ  كان مجازا و جاء تنويعات شجيّة على إيقاعات الخليل وتفعيلاته.
لم يصوّر الشّاعرُ ذاته وإن نقلَ انفعالاتَه إنَّما صوّرَ الذّاتَ الإنسانيةَ المبدعةَ في تعاطيها مع الواقعِ، مع الآخرِ ،مع الكونِ، ومع الزمانِ والمكانِ. إذ يقول:
"هذه أشلاء روحي 
تشتكي وجع الصبابة
تنزف الآلام من حرفي أنينا 
يكبر زمن الكتابة 
وسؤال حائر ماانفكّ يهفو
لم يجد بعد جوابه.."
تشاكل ثنائي ترجم غربة الشاعر وحيرته الوجودية فحينا يتغنّى بالأملِ والحبِّ والحياةِ والحُرّية وأحيانا تفيض آلامه فيُغطّي الأنينُ المساحاتِ فالنّاي رديف حزن  في اللغة الأكاديّة وفي الأسطورة تندب عشتار عشيقها القتيل فتقول "لقد أصبح قلبي مثل النا، أي النّاي الحزين ..
يقول:
"تقاسمتني مواجعي واليأسُ
والألمُ المرابطُ في دمي 
كم يحتويني 
فأصرُخ: والهفتاه..".. 
كما يقول بنص ''ويبقى الشعر متسعا لحزني'' 
هم ألقوا بي للشّوق 
للأحزانِ ..للألَم المعشِّش داخلي 
يقتاتُ مِنّي...
فتكون الكتابة نبشا للجراح وتطهّرا بلظى الحرف..

"يفتحُ القلبُ جرحا قديما 
وينساق في لوعة الأسئلة..."..

يوقد الشاعر نارَه ليصطليَ بلهيبِ لوعتِه و لظى أحزانِه وانكساراتِه ووحدتِه وخيباتِه. فتكون الكتابة بذلك فعل تطهّر فيتواتر معجم) الألم الجروح  الشّروخ النزف الأوجاع خنجر الطّعن في الحشا  الأشلاء والصّراخ ) 
يقول:
"وحدي يلاحقني الأسى 
أشكو النخيل فواجعي ومواجعي
كلما أشعلت ضوءا
كي أداري به الدُّجى 
انطفأ البريق" ..

وينفخ في نايه مهرِّبا مع أنفاسه أحزانا عَشّشت بصدره قرونا:

"لي وجعِي القديم يسلّ خنجره 
ويطعن في الحشا...."
ويقول: 
"مازلتُ أحملُ حسرتي
من عهد أندلس العروبة ضيّعوها
وأشتكي الأوجاع من جرح عميق
للحزن أوجاع 
ولي بعض الطقوس أرومها..
من ياترى سوف يرمم في الفؤاد شروخه..
ويؤسس في الأسى فرحا يليق؟.."

حزن طاعن في الوجع طاعن في التاريخ لم يجد  له الشّاعر من دواء غير الاكتواء   بنار الكتابة والكيّ آخر العلاجات كما هو معروف عند العرب. فهل ستحقق خلوة الليل والكتابة وطقوس النّار للشّاعر الخلاصَ الذي يَنشدُهُ.. فيعلُو نغمُ النّاي ويحلُو النشيدُ أم أن النّشيدَ سيغدو نشيجا  ويربَح الألمُ جولة ضدّ الحياة؟.
2- الشعر نافورة للأمل:
ولأنّ الكتابةَ فعلٌ يشبهُ السِّحرَ.. فبمجرَّدِ دُخول محاريبها يغتسل الشّاعر بمزن المحبّة وتدثّره الرؤى فيتغيَّر المزاج ..وتتجدّدُ فيهِ طاقاتُ التفاؤل.. فينفثُ في نايه ألحانا طروبة وتتموسق الحروف وتتآلف نوتاتُ الفرح فيقول:
"أتسلّق من باقيات الحُلم 
أسنامَ الذُّرَى 
وأغنّي للأشواق ما بقيَ العُمر" 
كما يقول بنصّ آخر 
"يادروب العودة 
غنّي نشيدي 
واحمليني على جناح الفرحة 
شُدّي وريدي 
على تراتيل القصيد
وارسميني على الدجى قمرا تجلى 
عانقَ الأكوان من أفق بعيد"
يتّحدُ الشّاعر بتراتيل قصيدة وتلتحم ذاته بتفاصيل الكون  ويحقّق الرحيلُ عروجا يجعله قمرا ينير الأكوان.
3-
رحلة الشّعر وراحلته 
لأنَّ الشِّعر شُعور إنساني صِرف فهو مَجبولٌ على التّغيّر تِبَعا لعوامل الذّات والموضوع ..وبين نصّ وآخر وأحيانا في داخل النّصّ الواحد وكما تواترت نغمات النّاي نشيدَ أملٍ وموّالَ حبٍّ حينا و أناتٍ للألم تفترش رُوحَ الشّاعِرِ و تتلبّسُ أوتاره أحايينا. فلا يجد غير الشّعر يستوعبُ انفعالاتِه المتناقضةَ فتـتواتر معاني السّفرِ والرّحيلِ.  رحيلٌ بالشّعرِ ورحيلٌ في الشّعرِ فيجعلُه دربَه ومنهاجَه في الحياة.
يقول:
"الشعر مركبتي 
وبوصلتي
ونايي
والقصائد لي دروب
وأنا المتيّم بالقريض
أعاقر خمر القوافي 
أقول تبت ولا أتوب"
يجعل الهادي العثماني من الشِّعر رحلة وراحلة.. سفرا ومطيّة  تذكرة ومركبة  ويظلّ "يحتمي في ظلال القصيد" يرتّل أغانيه حتى يطرد شبحَ الحزن والأسى.. يقول:
"إذا الحُزن أبلى بالأسى فرحي 
أراوغ الحزن حتى يرجع الفرح
أداريه بالشّعر كي أعلو على ألمي
أشدو القصيدَ لعلّ الصدر ينشرح.." 
تناصّ دينيّ يُحيلنا إلى سورة "الشّرح" فيصبح الشعّرُ انشراح صدرٍ وتفريج كربٍ وإجلاء وِزرٍ ورفعُ ذكرٍ.
انتقال في حالات الشّعور ترجمه المعجم الذي ضجّ بمفارقاتٍ على مستوى المعنى لعل أهمها: (السّكون والرّحيل).. فجاءت معاني النصوص قاطعة مع كلّ سُكون واستقرار- بما يحملانه  من معاني الهدوء وتقبّل الواقع- توّاقة إلى التّرحّل ناشدة تحقيقَ حُلم و حياة مشتهاة.. ضجّت النصوص بعبارات ( الدّروب / السّير / القوافل/ الرّواحل/ القلق/ المطايا/ الخيول/ السّروج..).. يشدُّ الشّاعِرُ الرِّحالَ ويألفُ الدُّروبَ ومشاقّ السَّفر فارّا من غربته يدفعُه قلقٌ وجوديٌّ يتقاسمُه مع الشّعراء عموما يشابه قلق المتنبي "على قلق كأنّ الرّيح تحتي.."
إذ يقول
" الشّكّ دروب قوافلنا 
والقلق سروج رواحلنا 
والغربة نار و دخان
هذي تفاصيلي .مواويلي 
ودروب تحتضن رحيلي..."
رحيل يشي بعلاقة قلقة مع الزّمان والمكان..
ف "يهيم على وجهه في دروب الرّؤى
ويدفع مهر القصائد سهدا 
وصبرا وجهدا 
بليل طويل"
يتمدّد زمن اللّيل ظُلمة وظُلما ويأسا جفافا ويتراءى فيه مرارة الانتظار وخيباتِ ما بعد الثورة بتونس وبدولٍ عربيةٍ حلمت بربيعٍ تأخّرَ ركبُه. وانتكاسةٍ عمّت الوطن. في نصّ "سبع عجاف" يقول
"سبع عجاف
أكلن الشّحم واللّحم..
وذا التاريخ ينكرنا.. 
فلعن السّاسة في نصّه" زمن الانتكاسة"وسحل في نصّ آخر أمّة العروبة تلك التي 
"تحترف الخيانة والمين والرياء
وتنكر روابط الإخاء 
وتعلن الولاء
لحاكم لا يرعوي
وخائن لشعبه
للوطن للأرض والتاريخ."
ختاما
تراتيل للأمل شفّت معانيها ورقّ لحنها و علا عزفها كلّما تصاعد اللّهب لهب الحرف فحقّقت الخلاص من بوتقة الضّيق النّفسي/ الاجتماعي والاغتراب الرّوحيّ و محنة كاتب منحت القارئ متعة التّرحال بين فنون القول ورياض المعنى. أقول للهادي العثماني ما قاله الشاعر.
 

 

 

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي