مقالات ادبية واجتماعية وفنية
سمر الغوطاني |ناقدة سورية
حين يكون التميز المبدع في إنسان يكون نافلاً عن أقرانه ويشكل حالة فريدة لا تقبل الشراكة، فهي كالقمر الأوحد في سماء الكون ومن حوله نجوم.
فـ(قمر المعرة) لا يشبهه أحد، ولم يُحَدَّدْ بحيّز مكاني إلا بقصد الإشارة إلى هويته…
هكذا سماه شاعرنا توفيق أحمد حين بَثَّ عواطفه ونجواه وآماله إليه وأَمامه فأراد أن يُشْهِدَه على حاله، وأَنْ يتمثل بشخصيته ليقول ما أراد قوله.
وإذا قرأنا القصيدة نجد أن شاعرنا دمج أناهُ الذاتيةَ بالأنا الجماعية بقصد تحقيق شمولية الرأي في مدح أبي العلاء المعري بعد تجوال في فضاء الروح العاشقة للجمال
والإبداع، ليصل الى حقيقة واحدة ألا وهي أنَّ المعري متفرد في إبداعه كالقمر الذي لا يضاهيه نور، وأنَّ كُلّ من أتى بعده لم يَلْحَق به ومازال، وأنَّ فلسفته وفكره وحكمته بحد ذاتها تلخيص لفكرٍ وجداني وتجريبي يحتذى به. فلندخل القصيدة ونَرَ: فالشاعر توفيق أحمد وصف قلبه بالكفيف، ونفى صفةَ العمى عن المعرّي. فالقلب يُمَثِّل الرؤى والشعور والفكر. فحتى الظَّنَّ عند المعري أثبتَ صِدْقَهُ وجدواه فَظَنُّ الحكيم فطنة وليس وهماً…فأوجد الشاعر طباقاً ما بين الصدق والظن، وما بين الكفيف والمبصر، كي يبيّن ما يقصده من مفارقات تجعل الفروقات الكبيرة بينه وبين المعري واضحة وكبيرة وابتدأ بنفسه.
كما أنَّ الظن والشك هما أولُ المحاكمات العقلية منها يبتدئ العقل في تقصي الحقائق وبرهانها نفياً او تأكيداً (بالشَكِّ تَنْكَشِفُ الأموُر وتَظْهَرُ) فالمعري بحد ذاته لُغْزٌ لا يفهمه إلا أولي الفطنة والنجباء وهو حبيسُ العمى والعزلة، لكنه ذو خيال مجِّنح حُرٌّ من أي قيد، ذو بصيرة ثاقبة كالنسر ..فالشاعر توفيق رآه في عدة صفات )القمر المنير، اللغز، الهادي الموحي، النسر، بحر، الغمام الممطر، الكوثر) ثم يعود شاعرنا ليؤكد ارتباطه الروحي بالمعري فيتمثل غاياتِهِ في طلب الأسمى والجوهر النفيس دون القشور، وقد عبَّر عن ذلك بكلمة ( محاصر) وهي اسم فاعل تدل على حال يخبر به عن المبتدأ ( أنا) وهي خصوصية مقصودة لذاتها… وقدَّم خبر الصبابات (عطشى) كي يؤكد حاله في العطش لما يصبو إليه ويرغب مما جاء به المعري من جمالٍ شعري وفلسفة شعرية…ولأنَّ نبع العلم عند المعري نهر من الجنة فالشاعر جائع وعطشان لكل هذا الجمال والجلال ونتوقف عند قوله:
(قُلْ للمعرةِ أيَّ ذنبٍ قد جَنَتْ
وبأيَّ آلاءِ البيان سَتَغْفِر)
فعلى سبيل المبالغة أراد هنا أنَّ المعرة قد اقْتَرَفَتْ جنايةً وظلماً حيث أنجبت أبا العلاء المعري، لأنه لا يستطاع إليه سبيلاً. فكل شعر يصدر أي شاعر بعده لن يغطي (يغفر) آثار المعري.. فالشاعر أكد قصور ما كتبه في عمر ضاع سدى، ولم يصل إلى ما يطمح إليه، فهو كالطير راغبٌ بشدة أَنْ يصل إلى المعري، ولم يستطع؛ حتى أنه يواري نفسه أَمام المعري خَجَلاً؛
(آتٍ اليكَ وفوق ريش جوانحي)
(فاكْتُمْ عليَّ إذا سألتُكَ من أَنا؟)
وقد كان في بيت سابق قد وصف(قَلْبَهُ بالكفيف) أيضاً على سبيل المبالغة والمبالغة عرفت ك سمة في شعر المديح والفخر حيث لا علم إلا ما قدمه المعري فهو الفاهم الحكيم الفطن الراجح عقلاً ودرايةً وشعراً
((قلبي الكفيف وأَنْتَ أَنْتَ قصيدتي
وبكل حرف من كتابِكَ أَسْطُرُ))
تأكيد الضمير أنت مبالغةُ المعنى والمبتدأ ليغدو الخبر مُجْمَلاً شمولياً في جماله (قصيدتي) والقصيدة هي كل شيء في العلم والجمال والعمق الفكري، وليس المقصود بها خصوصيةُ النظم الشعري.. والدليل على ذلك قوله في الشطر الثاني من البيت (وبكُلِّ حَرْفٍ من كتابِك أسْطُرُ)
معنى ذلك أن توفيق أحمد يرى في كل حرف لدى المعري كَمَّاً كبيراً من المعرفة والجمال..
وقد وصف الشاعر نفسه بالعشب وهو نبات هَشٌّ أَخْضَرُ ينمو حين تُمْطِرُ الدنيا، وهذا وصْفٌ قصد به التواضع أَمَامَ عظمة المعري، حيث جعل منه الغَمَام الممطر، وتأكيده على المعنى باستخدام أسلوب الجملة الاسمية (أنت الغمام الممطر) وهذه المباشرة ايضا ضرورة في شعر المديح..
ونكمل قراءتنا (يامَنْ أَسَأْتَ الظَّنَّ في هذا الورى
في ظَنّكِ الصِّدْقُ الذي لا يُنْكَرُ)
وهنا يأخذنا البيت إلى قول المعري (قصيدة في سبيل المجد)
(ولما رأيتُ الجَّهْلَ في الناس فاشياً
تَجَاهَلْتُ حتى ظُنّ أَنِّيَ جاهلُ
*فواعجباً كم يَدّعي الفضَل ناقصٌ
ووأسفاً كم يُظْهرُ النَّقْصَ فاضِلُ)
إِذَنْ حالُ الناس في زمن المعري ساد الجهل والكذب والسخرية من المفكرين والعباقرة، واليوم يوضح الشاعر توفيق أحمد بان الناس حالهم يشبه ما كان عليه منذ القدم، فظاهرة الطمع والنفاق والكذب والسخرية والكره مازالت سائدة لأنها طبع متأصِّلٌ في البشر لذلك صدق المعري في ظنه بالبشر:
(يامن أَسَأْتَ الظّنَّ في هذا الورى
في ظَنِّكَ الصِّدْقُ الذي لا يُنْكَرُ
هذا زمانُ الشامتين ببعضهم
لا قَمْحَ في كيس المحبةِ يُبْذَرُ )
وما حكمة المعري وفلسفته الا نتاج خبرة طويلة لإنسان يمتلك قوة البصيرة وحدَّة الذهن والفطنة، ودليلُنا على ذلك آثاره الادبية التي تدارستها الاجيال التي أَتَتْ بعد المعري الى يومنا هذا، كَسِقْطِ الزَّنْدِ الذي حمل مشاعل النور، واللُّزوميات في الحكمة والاسترشاد ولسان حال النفس البشرية وماهيتها..
فعظمة إنتاج المعري الإبداعي جَعَلَتِ الدَّهْشَةَ والإعجابَ تصلُ لدرجة الافتنان به واتخاذِهِ قُدْوةً.. يقول توفيق:
(ماذا أَقولُ وبينتا لغةُ الندى
من ثَغْر زهرِكَ حولنا تَتَقَطَّرُ
الشِّعْرُ مئذنةُ الخيال وأَنْتَ في
صَهَواتها العليا الإمامُ يُكَبِّرُ)
فالاستفهام خرج إلى معنى التعجب محبة، فالمعري إمامٌ للمصلين في محراب الجمال والفلسفة والإبداع…!
فالشاعر توفيق أحمد يطلب من المعري اليوم أَنْ يشهد صدق ظنه بتغير أحوال البشر فهي كالنبوءة التي تصدق في كل آن
قُمْ واشْهَدِ الدنيا تَلَوَّثَ نَبْعُها
في طينها العَبَثيِّ ضاعَ الجوهر..
و(للطين العَبَثي) كنايةٌ عن اللامبالاة وغياب القيم الإنسانية… وكما أَنَّ الشاعر وصف المعرِّي بالقمر المنير للمهتدين في الظلام والظلمات إلا أَنَّ المعري نفسه وصف نفسه بالشمس التي تعطي النور للقمر والكون كله حيث قال؛
(وبدر سار ذكري في البلاد فمن لهم
بإخفاء شمس ضوؤُها مُتكامِلُ)
وقد وقفنا أمام صورة جميلة (فالشِّعْرُ مِئْذَنَةُ الخيال) فقد جسد الشاعر الشعر على شكل مئذنة نودي بها للبلاغة والجمال فالطرب الشعري من ذلك النظم البليغ الحكيم واللفظ الجميل يجعلنا نسبِّحُ الإله لإعجابنا بروعة ما نسمعه، وكان الشعر يهدي بفضائله جميع الأَطياف كي تمتثل لأمره، فهو كإمام المصلين، حين يقف أَمامهم ويكون قدوتهم، فالمعري قدوةٌ في الإبداع والأدب وقدوةٌ في الفضيلة والزهد…
قال المعري: (ألا في سبيل المجد ما أَنا فاعلُ
عَفافٌ وإقدامٌ وحَزْمٌ ونائلُ)
وقد خبر المعري البشر وأَدرك أنَّ تَقَلُّبَ أحوالهم ناتج عن أَهوائهم وطمعهم أو مصالحهم. حتى أنه ذم نفسه مع الناس لأنَّ حاله متقلِّبُ مثلهم
(بَني الدهر مهلا إنْ ذَمَمْتُ فِعالَكُمْ
فإني بنفسي لا محالةَ أَبْدَأُ)
والشاعر توفيق أَحمد أيضاً تمرَّس في شؤون الحياة وأَدرك أَحوال الناس فشبّهها بالحرباء المتلونة
ماذا تقولُ لأوجُهٍ حرباؤُها / في كُلِّ وقتٍ لونُها يَتَغَيَّرُ
هذا زمانُ الشامتين ببعضهم
لا قَمْحَ في كيس المحبة يُبْذَرُ
ولا عجب أَنْ يحب شاعرنا المعرة لأجل أبي العلاء.. فهو علم يهتدي به كل فطن متعلم ودارس للأدب.. وشاعر ..فالمعري هو من يمنح بلده الازدهار ودوام الذكر، لأنه منسوب إليها وهي مشهورةٌ به، وبعودة إلى العنوان نجد أن الشاعر توفيق أحمد يؤكد أنَّ المعري قمر متضح في ضوئهِ ساطعٌ في هدايته وكل من أتى بعده يحتاج لضوء المعري ومعرفته كي يسير بطريق صحيح سواء في فلسفة الحياة أو في قرض الشعر ..مؤكدا توكيداً لفظياً بضمير المخاطب أَنْت:
قلبي الكفيفُ وأَنْتَ أَنْتَ المُبْصِرُ
لَم لا نرى والكون فينا مُقْمِرُ؟
ولوالد المعري جنايةٌ واحدةٌ في رأيه وهو أَنَّهُ خَلَّفه أعمى، ولتوفيق أحمد رأيٌ آخر بأنَّ جنايةَ والد المعري حلالٌ وفيها خيرٌ لأجيال العرب وشعرائهم ومفكريهم ..فولادة المعري هداية يستشرفون منها طريق الإبداع:
لأبيكَ أَنْ يَجني عليكَ ولي أنا
أنِّي على شُرُفاتِ جُرْحِكَ أَسْهَرُ
للناس أَنْ يجدوكَ تُهْمَةَ عاشقٍ
لم يَدْر كيف يَفيضُ طَرْفٌ أَحْوَرُ
فالناس لشدة إبداع المعري في الوصف يتهمونه بأنَّه عاشق الحس الجسدي لكنه في الحقيقة مُتَصَوِّفٌ مَلَكَ جمال الأرض والسماء:
لِلْمُلْك والْمَلَكوتِ أَنْ يتعانقا
وأَنا بِنَزْف قصيدةٍ أَسْتَأْثِرُ
هي كُلُّ ما أَبْقيتَ لي من غُصَّةٍ
في الكاس يُسْكِرُها الحنينُ وأَسْكَرُ
إذن شاعرنا توفيق أحمد امتلك روعة النشوة التي تنتابها في كل قصيدة يقرأُها للمعري، وقصيدة واحدة له تستأثر بلب الشاعر وقلبه ..رغم أَنَّ قوة هذا البيان تجعله عاجزاً عن مجاراته فيسبب ذلك له غصةً كبيرة وهاجساً يُؤَرِّقُهُ على طول عمره الذي أَحَسَّ بضياعه سدى، إنْ لم يَكْتُبْ ولو قصيدةً يجاري بها المعري، وهذا يُحْسَبُ للشاعر الطموح المتجدد المثقف توفيق أحمد… فحنينُهُ لذلك الزمن النقي الجميل والمبدع جعله يشرب كأس الحب المتصوف في محراب الشعر والأدب العربي ويُسْكِرُهُ هذا الكاس من شدة إعجابه به ويبقى للشاعر فضاؤُهُ الخاص..
...........................
الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-
او تحميل تطبيق نخيل
للأندرويد على الرابط التالي
لاجهزة الايفون
او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي