قراءة نقدية في المجموعة الشعرية ( جدائل ) للشاعرة آيات عبد المنعم

السيد حسن 
ناقد وشاعر | مصري

أنا أحد المؤمنين بأن القصيدة الشعرية تحلق بجناحين رئيسين، يضمنان لها الارتقاء في سماء الإبداع، إرتقاء يتيح لها القدرة على الإدهاش، وهذان الجناحان هما الموسيقى والخيال، أو الإيقاع والصورة الشعرية، أو الوزن والبيان، سمهما ما شئت وفقا لذائقتك الأدبية ومفهومك لكل منهما، فهناك من سيرى تطابقا بين هذه الأسماء جميعا، وهناك من سيرى اختلافا بينا بينها وبين بعضها البعض، وهو اختلاف يكشف عن نظرة للشعر وماهيته وتقنيات كتابته.
لذلك فإن الشاعر الذي تتحدد انحيازاته الجوهرية إلى قصيدة النثر يجد ذاته مطالبا بفعلين حتميين: أولهما أن يقوي لديه جناح التصوير الشعري قوة استثنائية، والثاني أن يجد لقصيدته مصادر أكثر خفاء للموسيقى، لأن من الصحيح أن موسيقى الشعر ليست هي الشعر، لكن الصحيح أيضا أنها ركن أصيل لا تقوم القصيدة في غيابه. والديوان الذي بين أيدينا يكشف عن محاولة جادة من الشاعرة "آيات عبد المنعم" لأن تنهض بالفعلين في آن معا، فهي من ناحية تتكىء على الصورة الشعرية اتكاء كبيرا، بحيث يقوى جناحها قوة كبيرة يمكن القصيدة من التحليق، ومن ناحية أخرى فهي في محاولة دائمة للبحث عن تلك المصادر الخفية للموسيقى الشعرية، بحيث تحفظ لقصيدتها وهجا موسيقيا خاصا.
والديوان يأتي في سياق تجربة شعرية خاصة للشاعرة بدأت منذ ديوانها الأول "وحدي أستطيع عبور الحكايات"، مرورا بديوانها الثاني "خبرني العندليب"، ثم الديوان الثالث "أوتجراف"، وهي في كل واحد من هذه الدواوين تحرص على أن يحمل الديوان سمة خاصة تميزه عن بقية الدواوين، ففي "وحدي أستطيع عبور الحكايات" هناك تلك البورتريهات الخاصة بالأهل والأصدقاء والأماكن واللحظات، وفي "خبرني العندليب" هناك التماهي أو التناص أو الاستلهام لنصوص شعرية أو غنائية شهيرة عاشت في وجدان الشاعرة، كما عاشت في وجداننا جميعا، وكأنها تقدم لونا من الاصطفاء لهذه النصوص من ناحية، وتدخل معها في شكل من أشكال التحدي الفني من ناحية أخرى، وذلك دون أن تذهب إلى فكرة المعارضة بأية صورة من الصور، وفي ديوان أوتوجراف تستلهم فكرة التوقيعات الأوتوجرافية التي يتركها كل منا في مفكرة أصدقائه، لكنها هي تبدع توقيعات معكوسة بمعنى أنها هي تضع توقيعها الخاص بكل شخصية لونت حياتها أو تركت فيها بصمة، بطريقتها هي الخاصة، فتتقمص روح الشخصية وتكتب لذاتها مستحضرة روح تلك الشخصية على نحو ما، أما في هذا الديوان، فإن عنوانه يشي بما تود الشاعرة أن تقدمه، حيث هي تجدل رؤاها الخاصة ومشاعرها الخاصة في ضفيرة شعرية خاصة، وعلى القارىء أن يكتشف بذاته إلى أية درجة أفلحت الشاعرة في هذه المحاولة، وكيف تحددت ملامح هذه الجديلة الشعرية أو تلك.
والقارىء لقصيدة الشاعرة آيات عبد المنعم لن يجد صعوبة في أن يكتشف أن الشاعرة تترك في قصائدها مساحات غائمة غير محددة المعنى أو واضحة الطرح، وكأنها تدعو القارىء بطريقتها الخاصة إلى أن يشاركها تأويل الغائم وتحديد الطرح، أو السباحة في تلك المناطق الغائمة سباحة من لا يوقف بوح القصيدة على معانيها، بقدر ما يتفاعل مع إيقاعها العام وقدرتها البيانية، والحال الشعورية التي تخلقها القصيدة لدى المتلقي، حتى حين تعز عليه بعض معانيها.
الديوان فيه استضاءة لا تخفى بالنص القرآني الجليل، وفي بعض قصائدها استلهام للنص الإنجيلي المقدس، فضلا عن اللعبة اللغوية التي كثيرا ما تستهوي الشاعرة، حتي إنها لا تلعب بالمفردة فقط، بل وأيضا ببناء الجميلة، فكثيرا ما تستغني عن حروف الجر في الأفعال اللازمة، فتتعامل معها باعتبارها أفعالا متعدية، أو تتعامل مع الفعل المتعدي لمفعول واحد وكأنه متعد لمفعولين، وهكذا، وهو ما يطبع أسلوبها بطابع خاص، يشتبك مع اقتناعات النحويين فيتقبله بعضهم بقبول حسن، ويرى فيه أخرون خروجا على القاعدة النحوية، لكن الحقيقة أن التعبير يظل قادرا على أن يترك أثرا مختلفا لدى القارىء، ولا يخل بفهم الجملة الشعرية.
الديوان يضم مجموعة كبيرة من القصائد، تغلب على معظمها نبرة مختلفة، تخص الشاعرة واحدة، ولا تشتبه مع نبرات سواها من الشواعر والشعراء، وربما تتمثل في هذه الخاصية أبرز تجاحات الشاعرة، فهي قد أفلحت في أن تجعل لصوتها مساحة تخصها وحدها ولا تعد صدى لشعراء آخرين أو شواعر أخريات.
وربما كان مفيدا قبل أن أختتم هذه الكلمات أن أشير إلى أن الشاعرة تميل أحيانا إلى الموسيقى الشعرية القائمة على الأوزان الخليلية بصورة ما، على نحو ما نجد مثلا في افتتاحية قصيدة " من نور حبك" الذي تبدو فيه النغمات الخليلية واضحة جلية، كما تتوزع هذه النغمات في أرجاء بعض القصائد على نحو أو آخر، وهي سمة ذات معنى. تهنئة للشاعر بهذا الإصدار الجديد، وأمنيات بتواصل الإبداع واستمرار الرحلة.