مقالات ادبية واجتماعية وفنية
حوراء النداوي || كاتبة عراقية
ترى ما الذي يفصل الواقع عن الخيال فعلياً؟!يعرَّف الخيال بأنه القدرة على تكوين صور أو أفكار أو مفاهيم ذهنية، لا يتم إدراكها واقعياً إلا من خلال الحواس. فهو بذلك يعد عملية معرفية تتيح للأفراد اختلاق أو محاكاة أفكار وتجارب وسيناريوهات جديدة ومختَلقة كلياً، في أذهانهم فقط. يتضمن الخيال جمع وتحويل المعرفة الموجودة والمخزّنة أصلاً، من ذكريات او انطباعات حسية وإدراكية، ومن ثم التلاعب بها لتوليد تمثّلات ذهنية جديدة. وقد استخدم البشر الخيال منذ الأزل لنقل تجاربهم الحياتية، عبر القصص والأساطير، والملاحم الشعرية، التي قدمت حكايات وروايات، وشخصيات، وأحداث، ومواقع أدبية متنوعة من زمان ومكان. الخ.
ما يصطلح عليه بالإنكليزية بالـ"فيكشن"، هو نوع أدبي قائم في المرتبة الأولى على انشاء محتوى خيالي غير واقعي، يكون في الغالب لغرض الترفيه، لكنه يقدم، بالإضافة لذلك، استكشافاً للتجارب البشرية من خلال نقل الأفكار والاهتمامات، أو حتى لأجل توثيق حقب تأريخية معينة، عبر وضعها في قالب أدبي، يخزنها الوجدان بيسر ومرونة، متى ما تحولت تلك التجارب الى قصص مكتوبة أو مرويات شفاهية. من هذا المنطلق، نستخلص، أن العوالم الأدبية في الغالب خيالية ومختَلقة بالكامل، حتى وان استندت في بعض أسسها الى الواقع، إلا أنها تتمتع بحرية الانعتاق من صرامته.
وإذا ما فكرتَ في الأمر بتجرد، فان فن اختلاق قصة من العدم، هو فن يتعامل مع منطقة غيبية كلياً، إذ تعيش عوالم "الفكشن" في الأذهان فقط، فالخيال وحده يمكن أن يقنعك بحيوانات ناطقة، وأموات يعودون، وتنانين تطير بأجسادها الضخمة لتنفث النيران، فتيات جميلات بذيول أسماك، وخرائط ولغات لم توجد من الأساس!
ببساطة، لا يمكن للدماغ البشري ألا يؤمن بالخيال أو أن يُحجِم عن استخدامه، فإذا طُلب منك ألّا تتخيل حماراً وحشياً يرقص على قدم واحدة، فان عقلك تلقائياً سيرى الصورة. العقل البشري يصدّق الخيال على نحو تلقائي، وهو يتمتع بقدرة استثنائية على توليد ومعالجة التمثلات العقلية لكل من التجارب الواقعية والمتخيلة، إذ يتلقى الدماغ باستمرار المعلومات الحسية من البيئة وتفاصيلها. ومع ذلك، لا يميز الدماغ بين المدخلات الحسية الحقيقية والصور الذهنية التي يتم إنشاؤها داخلياً أثناء عملية الإدراك أو معالجتها؛ وربما لهذا السبب ينظر الفرد البراغماتي الى الحياة بواقعية بالغة، وبعض من يتطرف من هؤلاء، لا تثيره الفنون والآداب، لأنها تحرِّك العالم الخفي، عالم الخيال الذي لا يبدو له غرائبياً ونائياً فحسب، بل طفولي وساذج، وبحسب رؤيته، مستهلِك للوقت والجهد من دون منفعة.
هل لهذه الأسباب ذاتها يعيش الشخص المعني بالإبداع والفنون في عوالم خيالية، يصدقها ويتفاعل معها بكل حواسه؟ ربما! فهم على النقيض التام مع ذلك الكائن البراغماتي، ينغمسون تماماً في عوالهم الخيالية السحرية، بل أن بعض المتمرسين في صناعة الأدب، لا يفرقون بين عوالمهم المختَلقة والعالم الواقعي. بينما يعتبر البعض الآخر منهم نفسه وسيطاً بين عالمين، عالم الخيال/الخوارق، حيث القصص والحكايات والأطياف والأكوان الواسعة التي لا يحدها واقع أو تؤطرها حقيقة، وعالمنا الأرضي، هذا البشري العقلاني الذي يطالب بين الحين والآخر بالحقائق الدامغة، وبالواقعية والدلائل الإدراكية.
عدد كبير من الروائيين والحكائين، وثقوا تواصلهم مع ما هو غرائبي أو ماورائي عبر كتاباتهم ذاتها؛ القائمة طويلة، وربما من الطبيعي أن تضم كُتاباً مثل، آرثر كونان دويل، وشيرلي جاكسون، وستيفن كينغ، باعتبار أنهم كتبوا أعمالاً ذات ثيمات غرائبية، وأحياناً مرعبة. لكن الأمر يتعدى ذلك بالنسبة لإيزابيل الليندي مثلاً، التي تكتب عن شخصيات روائية التقت بأطيافها وحاورتها. ذكرت الليندي في كتابها حصيلة الأيام، أن شبح امرأة ترتدي ثياباً من القرن التاسع عشر، كان يجلس لها على سلم البيت مترقباً. ظهر لها أكثر من مرة، فعرفت بحدسها الفعّال، أن المرأة قصدتها طلباً في سرد قصتها المنسية منذ أكثر من قرن، فكانت رواية "ابنة الحظ". وفي مقابلة لها، ذكرت الليندي أنها بينما كانت تكتب رواية "بيت الأرواح"، كانت تشعر في كثير من الأحيان بوجود الشخصيات في منزلها، ووصفت بدقة اللحظات التي كانت تسمع فيها أصواتهم وتشم رائحتهم. ولا تخجل الكاتبة من ذكر الماورائيات المرتبطة بكتابتها بشكل حميمي، وعلى نحو يكاد يكون طبيعياً، فهي تتعامل في عملها وضمن مشغلها الأدبي مع الخيال المطلق، فلماذا تراها تخجل من الغيبيات الممتزجة بالواقع؟
جي.آر. تولكين، المؤلف الشهير لسلسلة "سيد الخواتم" و "الهوبيت"، يدعي علاقة قوية بشخصياته، حيث ذكر ذات مرة أنه يشعر كما لو أن شخصياته لديها حياة خاصة، وأنه مجرد مكتشف لهذه القصص فقط. ووصف عملية كتابته بأنها فعل استكشافي، وكأنه يتنصت على محادثات الشخصيات، ويراقب تفاصيلها مخترقاً خصوصيتها. بينما لم يدّعي تولكين أنه واجه شخصياته فعلياً كما الليندي، إلا أنه يظن أن له اتصال عميق بهم، وهو مؤمن بوجود هذه الشخصيات على نحو مستقل كلياً، فكانت صلة وصله بهم هي الخيال.
تجدر الإشارة إلى أن هذه اللقاءات من الممكن أن تؤخذ في سياق العملية الإبداعية وخيال هؤلاء المؤلفين فحسب. وقد تكون مجرد تعبيرات مجازية تستخدم لوصف عمق اتصال المؤلفين بشخصياتهم؛ فمثل هذه التجارب ذاتية ومفتوحة للتفسير الفردي، إذ من المهم التعامل مع هذه الاعتبارات بالتفكير النقدي، وإدراك أن المعتقدات في الأمور الخارقة يمكن أن تختلف وتتباين ما بين الأفراد. إن خبرات ومعتقدات هؤلاء الكتاب خاصة بمنظورهم الشخصي وقد يجدي تفسيرها على هذا النحو. وبما اننا قد ذكرنا ذلك، وهي حيلة لتجنب النقاشات العقلانية، نعود للسؤال، ما الذي يفصل الواقع عن الخيال؟
لو أن فتاة جميلة، بذيل سمكة، تسبح في الماء الآن، فأين تراها تعيش فعلياً؟ في خيالي؟ في ذهني؟ أم في قاع البحر السحيق؟!
...........................
الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-
او تحميل تطبيق نخيل
للأندرويد على الرابط التالي
لاجهزة الايفون
او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي