مقالات ادبية واجتماعية وفنية
حسن الكعبي
تعرضت المفاهيم الكبرى الى التلون او الى ما يصفه الدكتور عبدالله الغذامي ( المفاهيم الموشومة ) في سياق تشريحه لليبرالية الجديدة التي نتجت عن تواطىء تاريخي بين العلمانية النسبية والمحافظين الجدد وتبعا لذلك فقد توشمت الليبرالية وتوشمت مفاهيمها القيمية اي انها اقترنت بالممارسات التي انحرفت عن مسار الليبرالية المعهودة والمعروفة كصيغة كبرى لتمثيل قيم العدالة والحرية والمساواة ، فالحرية تحولت إلى اقصاء في اطار مفهوم صون العلمانية في فرنسا الذي كان يهدف الى منع الحجاب عن الجالية المسلمة والذي برر ضمن الفكرالسياسي الفرنسي بادراجه ضمن مفهوم المساواة والعدالة والحرية التي ينظر اليها الغذامي وهي في هذا الحال بوصفها الغاء الاخر واحتواءه وتفريغه من محتواه ونمذجته اي بجعله نموذجا مشابها للنموذج الفرنسي في ممارسته وعدائيته للحجاب الذي يؤشر رمزية الاختلاف عن السائد في المتبنيات الفكرية للمجتمع الفرنسي .
ان الخصوصيات الغيت والقيم تلونت ولم يعد في ظل الهيمنة العولمية خصوصية تذكر ولم تعد هنالك خصوصية سوى للصفات اذا كانت الصفات تحسب ضمن الخصوصيات وهو امر يشك المرء به و المقصود بها صفات ( الكرم والشجاعة وما الى ذلك من صفات حسنة ) ذلك انها هي الاخرى من الصفات المشتركة بين المكونات الاجتماعية المختلفة اذ لا يعدم وجود مثل هذه الصفات عند اي مجتمع او اي شعب من الشعوب , لكن قد تطغى بعض الدلالات المعنوية لصفة من الصفات عند مجتمع اكثر من مجتمع اخر او يتميز مجتمع ما ببعض الصفات دونا عن الاخر من دون ان يعني ذلك التميز او الطغيان انعدامها عند بعض المجتمعات , وهذا واقع الحال للعارف بالسيوسيولوجيا او الانثربولوجيا وبالتالي فان هذه المسلمات بانعدام الخصوصية وتلون القيم دفع بالمفاهيم الكبرى الى منزلق خطير ومنها الصيغة الديمقراطية العالمية التي تعرضت للخلل بسبب ارتباطها باللبرالية الجديدة وما ترشح عنها من مفاهيم الحرية والمساواة التي بدأت تشهد تمثيلات متغايرة من دولة الى اخرى ومن مجتمع الى اخر واصبحت في بعض تمثيلاتها صيغة للاستحواذ والهيمنة والاستعمار الفكري والجسدي ، لكنها في بعض تمثيلاتها ظلت محافظة على صيغتها الفذة ولم تتعرض للتلون وذلك يرجع بحسب الغذامي الى وجود نماذج صنعت رمزيتها العالمية التي اصبحت قابلة للتسويق والتمثيل مثال ذلك نموذج غاندي الذي طوع تمثيلات الديمقراطية لمفاهيمه المعروفة حول السلم والتسامح بحيث اصبحت ديمقراطية غاندي قابلة للتمثل من قبل الاصلاحي الكبير مارتن لوثر ومن ثمة مانديلا .
ان نماذج غاندي وتبعا لوثر ومانديلا استطاعت وعبر تمثيلاتهم لمفاهيم السلام والتسامح تخليق نموذج لديمقراطية بيضاء تحتفي بالمختلف دون ان تفرض عليه نماذجها وتنميطاتها كما حدث في فرنسا وانكلترا مثلا في فرض نماذجها ورؤاها على الاخر تحت مسمى الديمقراطية , ولذلك فان انموذج غاندي في التمثيل الديمقراطي اصبح الانموذج الامثل للمجسات الاعلامية والثقافية , وهذه المجسات هي التي صنعت رمزيته العالمية التي استحقها الرجل بجدارة دون ادنى شك , لكن هل يوجد في ثقافتنا العربية والاسلامية انموذج لصناعة الديمقراطية البيضاء ربما ان السؤال لن يجد له اجابة اوربما سيجاب ببداهة نعم فالحسين عليه السلام يمثل هذا النموذج لكن العمى الثقافي الذي تعاني منه ثقافتنا سيمنع من توجيه مجسات التنظير للتعامل مع واقعة الطف كدرس في تمثيل الديمقراطية العالمية والحسين كنموذج في صناعة الديمقراطية البيضاء التي لم تتلون كما في بعض النماذج الاوربية التي اشرنا اليها .
ان المتابع او حتى غير المتابع لتاريخ غاندي السياسي والفكري يعرف جيدا المقولة الشهيرة لغاندي عن الحسين المتداولة بالشكل المنبري الواسع خصوصا مع انتشار الفضائيات وهي مقولة ( تعلمت من الحسين كيف اكون مظلوما فانتصر) هذه المقولة في تمثيلات غاندي كانت مقدمة مهمة ان لم تكن اساسية في صياغة مشروعه التيولوجي او منظومة التسامح المسهمة في خلق ديمقراطيته البيضاء بالنسبة لمن يقف على تفكيك وتشريح المقولة وانتزاع دلالاتها التي ستؤشر على منطق السلم والتسامح وخلق منظومة تيولوجية متكاملة تحتذى وتدفع بالمقاربات النظرية الى توجيه مجساتها نحوها بوصفها نموذجا لمشاريع التغيير السلمي او الثورات السلمية وبالتالي تخليق ديمقراطية نظيفة خالية من التغول كطابع توسعي او التلون كعلامة على التغير وتكييف المفهوم بحسب السياسة واستراتيجيتها في التسويق القسري للمفهوم من بيئة الى اخرى على النحو الذي بدانا نشهد تغاير تطبيقاته من دولة الى اخرى الى حدود التضاد والتناقض والذي يمكن ان ينزل المفهوم ضمن توصيف الديمقراطية ضد الديمقراطية والامثلة على ذلك كثيرة فديمقراطية امريكا هي غير ديمقراطية انكلترا وديمقراطية فرنسا هي غير ديمقراطية بريطانيا وديمقراطية الهنا هي غير ديمقراطية الهناك ....الخ .
لم يعد انتفاء خصوصيات المجتمعات بحاجة الى جهد فكري لاثباتها مع الجهود الثقافية الما بعد حداثية التي لغمت التاريخ باسئلة كبرى وتمخضت جهودها عن ان كل فكر اصيل وعالمي هو بالضرورة فكر انساني مشاع وان التشبث بالخصوصية يغاير بالضرورة التوجه الانساني ويتجه نحو التوحش والفردانية وهذا شأن الهويات المحلية التي تشتق لها رقعة معزولة في جغرافيا الكون الكبير وهي هويات خاضعة للارتياب النقدي ومساءلاته الكاشفة عن الفبركة والاختراع والتلفبق ضمن هذه الهويات مثال ذلك كيان داعش الذي يحاول ان يخترع له خصوصية اسلامية في حين ان الاسلام هو رسالة عالمية تتجاوز الخصوصيات وتلك المفارقة كشف عنها الغذامي في حكاية الحداثة داخل السعودية .
ان الهويات المحلية ومهما بلغت من الذكاء في اختراع تاريخ لها فانها ستخفق في صناعة مستقبل لها , لان الخصوصية تعني الانغلاق وتعني عدم التفاعل والانفعال وعدم التاثر والتأثير وهذا بحد يدفع بالفكر الى الانحلال والتمحل وذلك مثلا ما يجعل من كيان داعش كيانا توحشيا ومغتربا في سلوكياته عن طابع التعاملات الانسانية وكما ان للهويات المحلية في هذا المسار مخاطرها واشكالياتها فان للهويات العابرة للخصوصيات مخاطرها واشكالياتها ايضا في سياق ما اشرنا اليه استنادا الى الغذامي في توشم وتلون المفاهيم العالمية الكبرى التى تسعى الى نمذجة وتنميط المفاهيم والتنميط يغاير الاختلاف والتعددية وهو بالتالي مسعى نحو الانغلاق والفردانية كما سادت في فكر الحداثة الغربي , ويبقى النموذج الامثل في الصيغ والمفاهيم العالمة هو النموذج التوسطي الذي اشرنا اليه عند غاندي وعند الامام الحسين الذي شكلت رؤاه ستراتيجية في مشروع غاندي , وهو ما سنقف عنده لكي نرتقي الى عنوان هذا المقال والاشارات التي وردت فيه .
اشرنا الى ان الديمقراطية البيضاء في تمثيلات غاندي تشكلت من رؤيته لواقعة الطف ضمن رؤى اخرى دفعت بمشروعه الثوري الى ابعد مدياته في اطار المقولة التي اشرنا الى تداولها مع الاستعمال االمنبري والفضائي والمقولة في اطار اخضاعها للتأويل تشير الى اظلامية الاخر وانتهاكه للحقوقيات بازاء اظهار مظلومية الاناء بمعنى انها تشير الى صيغة دلالية توجه الرأي العام نحو التعاطف معها ومساندة صاحب الحق وهي بذلك صيغة سلمية احتجاجية ، ولا تعني بشكل من الاشكال اظهار المعنى السلبي للمظلومية بوصفه استكانة قدرية لظلم الاخر ، فواقعة الطف في كل معانيها ومواقف الامام الحسين (ع) فيها كانت اظهرت جميع الحقوق المنتهكة من معسكر الظلم وبالتالي فانها اظهرت مظلوميتها لان اظهار الظلم يدخل ضمن التورية التي تظهر معنى وتحفز نقيضة أي انها عند اظهار المظلومية فانها تظهر الطرف الظالم ضمنها وفي هذا المعنى جرت ديمقراطية غاندي التي استمدت رؤيتها من الواقعة التي صنعت رموزها العالمية لكنها مع ذلك بقيت بعيدة عن دروس التناول الثقافي العربي في قراءة عالمية الفكر الاسلامي في اطار صناعته لمفهوم التوسطية والاعتدال والتسامح الذي صعنته ثورة الامام االحسين والذي اقصى في اطار تمثيلاته مفاهيم التطرف المنتج للهويات السلفية المنغلقة .
...........................
الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-
او تحميل تطبيق نخيل
للأندرويد على الرابط التالي
لاجهزة الايفون
او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي