loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

الخطيبي والفلسفة الفكر المتعدد

breakLine

 
فريد الزاهي || كاتب وناقد مغربي

 
يدخلنا متن عبد الكبير الخطيبي (1938-2009) في حيرة جارفة حين يتعلق الأمر بتحديد تخصص صاحبه. هل نعتبره عالم اجتماع، تبعا لتكوينه الأكاديمي والشهادة التي تثبت تخصصه عند تخرجه من السوربون عام 1964، علما أن الخطيبي حاز على دكتوراه السلك الثالث في السوسيولوجيا وسجل رسالة دكتوراه في التخصص نفسه من غير أن يكملها أو يناقشها؟ أم نسميه أديبا بعد مراكمته للعديد من الدواوين الشعرية؟ أم روائيا، هو الذي ترك لنا أجمل وأعمق سيرة ذاتية هي "الذاكرة الموشومة" وأروع رواية مغربية على الإطلاق هي "كتاب الدم"؟ أم نعتبره باحثا أنثربولوجيا أو إسلامولوجيا بعد أن قرأ الإسلام وسيرة النبي والجسد والوشم في نصوص لم تمنحنا بعد كل مغالقها؟
هذا التعدد ليس بالأمر الجديد في الثقافة المغربية، ويمكن، ولو بشكل جزئي، أن ينطبق على رائد الفلسفة المغربية، محمد عزيز الحبابي، لأنه، إلى جانب كتاباته في الشخصانية، ترك لنا روايتين وديوان شعر. ونحن نلاقيه لدى مؤرخ من قبيل عبد الله العروي، إذ إن هذا الأخير أضاف إلى كتاباته التاريخية، نصوصا ذات طابع فلسفي محض، وروايات لا يمكن لمؤرخ الرواية المغربية إلا أن يأخذها بعين الاعتبار. ويمكن رده، من الناحية الثقافية، إلى كون مفكرينا هؤلاء، إضافة إلى ثقافتهم الأدبية والفلسفية والتاريخية، يندرجون في سياق مرحلة يمكن أن نسميها مرحلة تأسيس الثقافة المغربية الحديثة. ففي الستينيات والسبعينيات مثلا، كان المجال بكرا، إذ كنت تجد سياسيا من قبيل عبد الله إبراهيم يكتب القصة، وناقدا كمحمد برادة يكتب القصة ثم الرواية، وشاعرا من قبيل محمد بنيس يمارس النقد الأدبي... إنه تعدد "بلوري" كما يحلو للخطيبي أن ينعته، يجعل من روايات العروي صيغة حكائية لتصوراته الفكرية، ومن أشعار الخطيبي ورواياته تعبيرا بالحكي والصورة الشعرية عن تصوراته الفكرية... إنها ممارسة كانت سائدة قبل أن يتم اكتشاف مفاهيم من قبيل التناص والتفاعل النصي والنص الشامل وغيرها لدى البنيويين الفرنسيين. 
من ناحية أخرى تتميز كتابات الخطيبي الفكرية، عدا كتاب الرواية المغربية والحمى البيضاء، بكونها كتابة مقالية essai، إذ لا تجد كتابا آخر له إلا ويجمع دراسات ومقالات لا يتجاوز بعضها الصفحتين أو الثلاث صفحات. وكتابه "السوسيولوجي" الوحيد هو جماع لدراساته السوسيولوجية الأولى، التي تنغمس ضمن كم هائل من المقالات الفكرية القصيرة والحوارات التي يصعب إدراجها في هذا المبحث. فهذا الكتاب الضخم يتضمن ثلاثة فصول: الدراسات، والملاحظات، والحوارات. والدراسات ذات الطابع السوسيولوجي حقا لا تجاوز النصف. إن الخطيبي يصر في هذا الكتاب على الصفة السوسيولوجية لكتاباته التي يضمها الكتاب بحيث إن العنوان الفرعي للكتاب يقول: "أبحاث في علم الاجتماع". والحال أن العديد من النصوص هي تأملات فلسفية أو فكرية أو أنثربولوجية قد لا تخلو من بعد سوسيولوجي. وهو ما يجعلنا نلح على الطابع الاستشرافي لفكر الخطيبي. فهذا المفكر أضحى مع الوقت (فكريا وفلسفيا وسياسيا) عابرا للمباحث، ومستشرفا للآفاق (un horizontain) كما يحلو له أن يسمي نفسه، يطرق أمورا جديدة على الثقافة العربية من قبيل الجسد والتقنية والفن، وبمنظور استثنائي جعل منه إحدى المنارات المشعة والخصبة في الثقافة العربية المعاصرة. "الآفاقيهو الآخر بامتياز، الذي يندرج أو يسجل نفسه في اللقاء".  
فكرٌ في هوامش الفلسفة
لو قمنا باستطلاع بسيط لحضور كتابات الخطيبي في الجامعة المغربية، فإننا سنلاحظ أنه، منذ السبعينيات، أي بعد صدور سيرته "الذاكرة الموشومة" قد صار أحد المكونات الراسخة للأدب المغربي المكتوب بالفرنسية مع كتاب وشعراء من قبيل أحمد الصفريوي وإدريس الشرايبي وعبد اللطيف اللعبي ومحمد خير الدين، وهو المسلك الذي تطور في شعب اللغة الفرنسية وآدابها وأضحى له باحثوه وأساتذته المتخصصون منذ تلك الفترة. أما في شعب الفلسفة فإن اسم الخطيبي لم يكن يتردد كفيلسوف وإنما كعالم اجتماع قدم نصوصا قليلةوقوية في هذا المضمار أهمها حصيلته عن علم الاجتماع بالمغرب، ونقده للتيار الانقسامي ولعلم الاجتماع الكولونيالي ودعوته إلى تصفية الاستعمار في مجال السوسيولوجيا المغربية. وأنا هنا أسرد واقعة هامة عن غياب فكر الخطيبي من الدرس الفلسفي في السبعينيات، وربما بعد ذلك، يمكن اعتبارها مدخلا "تاريخيا" لهذه الدراسة. فحين عزمت، وأنا طالب بشعبة الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس (تخصص فلسفة عامة)، على أن يكون موضوع بحثي عام 1983 للإجازة عن "الكتابة والاختلاف في مشروع عبد الكبير الخطيبي" (هكذا سميت فكره في ذلكم الحين)، تحت إشراف الراحل إدريس المنصوري، اكتشفت أن مبادرتي تلك كانت أول بحث في شعبة الفلسفة عن الخطيبي، لم يسبقه إلا بحث وحيد عن الخطيبي باعتباره عالم اجتماع. فلقد كنت متيقنا وقتئذ أن الخطيبي قد أدلى بدلوه بشكل جديد في تشكيل ملامح تفكير فلسفي خصوصي، سعيت إلى توكيده بالإحالة على نيتشه وديريدا ومشيل فوكو وغيرهم.    
لا يفوت الخطيبي في سيرته الفكرية الكاتب وظله، أن يطرح على نفسه سؤال الفلسفة والانتماء للفلسفة هذا، الذي طرحه قبل ذلك عبد السلام بنعبد العالي (وهو فيلسوف مترجم للخطيبي ودارس له) بشكل تحليلي: "هذا النقد المزدوج وذلك الفكر الآخر، هو ما يسعى الخطيبي التوجه إليه، لا في كتابات فلسفية تعتني بتاريخ الفلسفة وتتحاور معها، وإنما في كتابة ذات أوجه متعددة، تتراوح بين النقد السوسيولوجي والبحث السيميولوجي والكتابة الأدبية. ذلك هو السبب في أنه حين يتحدث عن مجابهة بين الميتافيزيقا الغربية والميتافيزيقا الإسلامية، ليس علينا أن ننتظر منه دراسة دقيقة عن التراث الفلسفي، وإنما بالأحرى حوارا مع الأفكار والانتفاضات الأكثر راديكالية التي خلخلت الغرب ولا تزال تقوم بذلك. كما علينا أن ننتظر قراءة سيميولوجيةللخط العربي والفن الإسلامي والوشم؛ وكتابة أدبية تتناول قضية الشر والحب والتصوف والموت وصراع الأضداد. وثمَّ يلاقي الخطيبي الموضوعات التي قمعتها الميتافيزيقا. إنه يلاقي الجسد لا باعتباره مصدرا للخطيئة والشر، وإنما باعتباره قوة خلاقة وآلة رغّابة. وهو يلاقي قضية المقدّس لا باعتباره موضوعا متعاليا، وإنما باعتباره حضورا في الفن. ويلاقي مسألة الاختلاف الجنسي حيث تحتل المرأة موقعا وسيطا بين الإلهي والبشري، في تراتبية المرئي واللامرئي، من ثم حيث تكون مرئي اللامرئي وخلخلة للنظام الفقهي. وهو يلاقي التصوف "حيث يتجلى اللامرئي في المرئي، وحيث غياب الله تنحل في تجربة قاتلة. وهو يلاقي المتخيل الإسلامي لا لتطويقه بالعقل الخطابي، وإنما لتفحّص منطقه الخاص. وهو يلاقي اللغة لا باعتباره هوية وحشية، وإنما باعتباره مكانا ثنائيا ووضعية مزدوجة اللسان 'تفكر الآخر وهي تترجمه'. بيد أن الترجمة تتطلب تعددا في اللغات والأفكار تندرج فيها. 'أن يكون فكر ما فكرا آخر هو فكر في اللغات، وعولمة مترجمة للشفرات والأنظم ومجرات العلامات التي تسري في العالم'. ها نحن إذ كلية في قلب الفلسفة، وإن كنا في هامشها..".
يتردد هذا السؤال أيضا لدى محاوره الأديب حسن وهبي، حين يتساءل عن "تطور" فكر الخطيبي وعن "تعدديته" وإن كان مسيره يشكل "حياة-أثرا" بمفارقاته. بل إنه ينتهي إلى سؤال الخطيبي بشكل مباشر: "هل أنت كاتب أم شاعر أم عالم اجتماع أم فيلسوف، أم أنت ربما شيء آخر؟". ويأتي جواب الخطيبي "مواربا"بطريقته المعتادة: ثمة استمرارية وانقطاعات، كما ثمة مسعى يتقدم ويتراجع...
ما معنى أن يكون الخطيبي في صلب الفلسفة وفي هامشها في الآن ذاته؟ تلك هي المفارقة التي علينا تتبعها، والتي كنا قد تلمسناها في دراساتنا للخطيبي، منذ البداية. 
ليس علينا أن نسير بعيدا كي ندرك أن ما يطرحه فكر الخطيبي ولو بشكل موارب وغير مباشر، هو مصير الفلسفة نفسها وصيغها الجديدة، ولغتها المتجددة، وطبيعة علاقاتها المعاصرة بالأدب والعلوم الاجتماعية والإنسانية الأخرى. وما دام الخطيبي لا يخفي بأن أحد مصادره الفكرية يستقيها من فكر الاختلاف لدى جاك دريدا، فإننا نجد تنظيرا لهذا الفكر الفلسفي الجديد لدى هذا الأخير، يفكك الطابع "المركزي" للفلسفة منذ أفلاطون حتى هيجل، ويمنحها هامشها اليقظ. فمنذ مطالع كتاب هوامش الفلسفة (1972) يسعى الفيلسوف إلى إضفاء الطابع المهْبلي tympaniser على الفلسفة نفسها: "إضفاء الطابع المهبلي- التفلسف.  الوجود على الحدّ: لا تشكل هذه الكلمات بعد جملة، بل ولا ترقى لأن تكون خطابا. لكن ثمة ما يمكّن من توليد جُمل هذا الكتاب، ما علينا سوى التلاعب بها. هل تستجيب الفلسفة إلى حاجة ما؟ كيف يمكننا فهمها؟ هي؟ وفهم الحاجة؟ ما دام خطاب ما، شاسعا حتى ليخال نفسه لا متناهيا، سمى نفسه فلسفة –وهو الخطاب الوحيد الذي سمع نفسه يحظى باسمه من ذاته ولم يكفّ عن يهمس لنفسه بمطلعه- فهو ظلَّ يعني دوما الحدّ، ومعه مطلعه".   
حين يطرح جاك دريدا جدوى الفلسفة، فذلك ليعيّن كينونتها باعتباره تجربة حدّية، تتلاعب بالتخوم، وتسائلاسمها. ومن ثم فإن الفلسفة "الحقة" هي تلك التي تخلخل حدودها وتعريفها. الفلسفة هي المجال الوحيد الذي يعرّف نفسه ويهمس في أذن ذاته بأنه فلسفة.  فلا فلسفة إلا في هوامشها، لأن المركز هو موطن الميتافيزيقا واللاهوت (اللذين يعلن الخطيبي منذ بداية مشواره الفكري الحرب عليهما). وحين يطرح دريدا ذلك منذالبداية فذلك ليمهد لمفهوم المغايرة différance الذي استحدثه انطلاقا من مفهوم الاختلاف différence لدى هايدغر، الذي يغدو مفهوما مؤسسا ومخترقا للحقل الفلسفي الجديد. وإن كان دريدا في هذا الكتاب لا يستعيد تحليله للنص النفساني لدى فرويد (الذي خصص له مقالا في كتاب "الكتابة والاختلاف" (1967)، فإنه، عدا قراءاته لهايدغر وهيجل، يطل على نصوص الشاعر بول فاليري (العزيز أيضا على الخطيبي) وعلى مفهوم التوقيع والكتابة والأثر. إن ما يعنيه دريدا بهوامش الفلسفة هو سؤال فلسفي يسائل في المتن الفلسفي هوامشه الداخلية والخارجية معا. ومن ثم صيغة الجمع المخالفة لصيغة المفرد كما جاءت لدى عبد السلام بنعبد العالي وعبد الكبير الخطيبي في سيرته. 
إن تحديد هوامش الفلسفة وتعيين حدّها باعتباره موقعا وموقفا، إذن، انطلاقا من تفكيك ثنائية الجوهر والعرض والمركز والهامش، ومن منح القضايا التي لم يهتم بها تاريخ الفلسفة مكانة جديدة في التفكير الفلسفي،أمرٌ يجعل الفيلسوف القائم بهذه العملية النقدية والتفكيكية يعيش بأسئلته الفلسفية تلك، في الهوامش الداخلية والخارجية (المهبلية بلغة دريدا) بحيث يسائل ما هو فلسفي وما هو غير فلسفي في الآن نفسه. أما أن يكون كاتب أو مفكر في هامش الفلسفة أو على هامشها فهو أمر يعني أنه يشتغل في مداراتها، بمكوناتها من غير أن يكون بالضرورة فيلسوفا بالمعنى الدقيق والتقليدي للاصطلاح. إن دريدا يفتح أفق الفلسفة نحو التخوم. وهو أمر انتبه له الخطيبي منذ بداياته واستثمره باعتباره موقعا حركيا من غير أن ينظّر لذلك قطّأو يجعل من نفسه، إلا في أحايين قليلة، عالم اجتماع أو فيلسوفا.
لنتذكر كيف أن ألثوسير (وهو إحدى المرجعيات التي حاورها ولو بشكل عابر جاك دريدا)، قد طرح السؤال نفسه الذي طرحه دريدا عن حدود الفلسفة في كتابه عن الفلسفة والفلسفة العفوية للعلماء. وهو ما يجعلنا ندرك بأن مسألة التفلسف أو الانتماء للفلسفة لم يعد خاصية يمتلكها الفيلسوف المتخصص، وإنما هو ممارسة قد يأتيها كل من يمارس التفلسف بطريقة أو أخرى. وفي هذا السياق، ندرك جيدا ما يقوله الخطيبي تعليقا على ما قاله عنه عبد السلام بنعبد العالي: "إنه لقول حق: في هامش الفلسفة. أعني الفلسفة الجديدة (نيتشه، جاك دريدا، مشيل فوكو، مشيل سيرّ وآخرين من قبيل جان لوك نانسي وبرنار ستيغلر)، لا أولئك الذين يسمّون فلاسفة، الذين يشكلون ظاهرة ثانوية معبرة عن الأنوية égotismeالإعلامية. لا، فما يزج بي في فكر معين هو نمط إثارتهللحس النقدي والمقاومة والانشقاق وطوباوية عالم آت. لقد كان زميلي عبد السلام بنعبد العالي على حق؛ ذلك أنني أقرأ الفلاسفة خارج كل مدرسة وكل تاريخ للفكر. إنني أكون وحيدا أمام النص. وأكون منقطعا عن كل سلالة من تلك الناحية. لقد كان نيتشه معلمي في الفكر التعددي المنظوري الشغال دوما. وجاك دريدا يندرج في النهج ذاته. فمنذ الستينيات سعيت إلى أن أعثر على علاقة دالة بين "التفكيك" و"تصفية الاستعمار"، خاصة مع وجود وضعية تاريخي مقاربة لي (فهو قد ولد في الجزائر وترعرع فيها حتى الثامنة عشرة) كانت تشجع على الرغبة في التمرد، لكنه تمرّد مفكَّر فيه وله براهينه على ماضٍ عانينا منه. وقد سميت هذا الماضي 'حالة العبودية'. نعم، أن نسير نحو عالم مقبل من غير أن ننكر ذواتنا. وأنا في أبحاثي، وفي حوار مع فكر الآخر، لم أكفَّ عن بناء برنامجية خاصة بالفكر الآتي. وإفراغ الذهن مرحلة حاسمة للتقدم، قبل بناء فكر مغاير pensée autre".
إن هذا التوضيح يجعلنا نطرح الفرضيات التالية: 
- يمارس الخطيبي "تفلسفه" أي عشقه للتفكير الفلسفي في نصوص فكرية من قبيل "المغرب أفقا للفكر"، كما في نص حكائي من قبيل "عشق اللسانين"، أو في نص شعري من قبيل "المصارع الطبقي على الطريقة الطاوية" أو "نذر للصمت"، كما في أبحاثه السوسيولوجية... 
- يستبطن الخطيبي مصادره الفلسفية (نيتشه،هايدغر، دريدا، فرويد...) ويتمثلها ليحولها إلى قناعات فكرية بها يشتغل شعرا وحكيا ومقالة فكرية وتحليلا اجتماعيا وكتابة عن الفن...
- "ابتعاد" الخطيبي عن التخصص في علم الاجتماع، كان سعيا منه لمعانقة رحابة الفكر والتفكير وممارسة الفكر في الفن والأدب وممارسة الكتابة في التفكير الفلسفي، على طريقة بلانشو ومالارميه وبول فاليري.
- لا يرغب الخطيبي حصر نفسه في تخصص أو فكر معين، بل يدعو علانية إلى فكر مغاير (pensée autre) يكون فكرا للاختلاف وفكر للآخر، سواء كان آخر الذات أو الآخر في الذات. إنه فكر حركي ومتحرك بين التخوم: تخوم الفلسفة وعلم الاجتماعوالأدب والتحليل النفسي؛ فكر يمارس التقاطع بحرية باهرة لا تتحكم فيها غير اللغة. اللغة هي أفق الخطيبي الحق، موطن الوجود والذات والآخر، إذ فيها يمارس الفكر حريته و"جنونه"...  
لم يكن الخطيبي قطّ من الذين يدعون لأنفسهم توجها أو تخصصا معينا. كان يعرف انزلاقاته المتشابكة بين المعارف والممارسات الثقافية. لقد ارتاد كافة ما يمكن لمثقف من قبيله أن يرتاده. فلقد كتب المسرحية والشعر والرواية والمقال والبحث والنقد الفني والأدبي. بل ما لا يعرفه الكثيرون هو أنه كتب أيضا السيناريو، إذ طُلب منه اقتباس روايته "صيف في ستوكهولم "(التي كنت قد ترجمتها للعربية) للسينما. وكان من المنتظر أن يتم إخراج الفيلم بالسويد، غير أن أمورا أجهلها (ولم يبح لي بها الخطيبي) قد حالت دون ذلك. وأنا أملك نسخة من ذلك السيناريو. 
بل إن الخطيبي كان واعيا بهذا التعدد، يتأوله كمنّة لا كعائق، إذ صرح قائلا: "غالبا ما أجد نفسي خارج كل تعريف من الجمهور. فأنا في نظره تارة عالم اجتماع، وتارة فيلسوف، أو كاتب، بل عالم سياسة... وفي ما بعد اعتبرت هذا اللاتعريف ضربا من العائق الحسن: إذ هو يمكّنني من الاشتغال على نفسي، وعلى صورتي في نظرة الآخرين، أكانوا قرباء أم بعيدين. وأنا أموقع نفسي بين الأدب والمعارف التي تثير فضولي. وعلى قول بول فاليري، اللغة هي تخصصي. واللغة التي تهمني هي تلك التي تستكشف الحياة الآنية. فأنا غالبا ما أبني موضوعات دراسة مستقلة، ومجموعات صغيرة من العلامات، تكون وشما أو لوحة أو زربية. ثم إني أمنح، أو بالأحرى أحاول أن أمنح لهذه الموضوعات شكلا مكتوبا. فما يفتنني هو العزلة المطلقة لهذا الموضوع أو ذاك". 
هذا الموقع البيني inter هو ما تفصح عنه تجربة الخطيبي في الفكر والكتابة. إنه الفارق الواصل بين الذات والآخر، وبين الأليف والغريب، وبين العلامات. وإذا كان الخطيبي قد بلور مفهوم السيميائيات البينية intersémiotique، وهو يدرس الوشم والجماع فإن هذه المعرفة البينية هي التي ستسهر طويلا، خارج كل سيميائيات (بالمفهوم المتعارف عليه) على دراسته للجسد عموما وللعلامات خصوصا. كيف تشتغل هذه البينية في فكر الخطيبي؟ وهل لها طابع أو بعد فلسفي؟ هل هي آلية فكرية أم منهج؟
من الاختلاف إلى البيْنية
لنعترف منذ البداية أن للخطيبي الفضل على الثقافة المغربية وربما العربية في التعريف بفكر الاختلاف، الذي بات ينتمي إليه، بشكل أو بآخر، من خلال محاوراته الفكرية مع جاك دريدا بالأخص. ونحن نجد هذه الإحالة لديريدا منذ كتاب الحمى البيضاء عن الصهيونية واليسار الفرنسي. بيد أن الخطيبي لا يعلن انتماءه أبدا إلا بشكل مضمر، كما أن إحالاته لنيتشه وهايدغر ودريداتشكل، كما عبر عن ذلك بنفسه، نوعا من الامتلاك الذي لا يسير أبعد من التملك الذاتي والاستلهام والتمثل وإعادة البلورة. ثمة استراتيجية فكرية تبني نفسها باستمرار عبر تحويل المفهوم وتهجينه وإعادة توجيهه. ففي كتاب المغرب المتعدد الذي نعتبره الأقرب إلى الفكر الفلسفي من غيره، يبني الخطيبي فكره "الفلسفي" انطلاقا مما يسميه النقد المزدوج. وهذا النقد ذو الاتجاهين ينطلق من كون كل هوية مسكونة بالاختلاف أي بالتعدد الذي يجعل مهمة النقد تبدأ من تفكيك مفهوم الأصل (دريدا) قبل انتقاد الآخر في اختلافه المتوحش كما يسميه مفكرنا. 
يقود تفكيك مفهوم الأصل إلى نقد التراث ومن ثم نقد الميتافيزيقا. ونحن حين نقرأ تعريف الخطيبي للتراث نلفيه يحدّده في "هويته الميتافيزيقية" المنغلقة على الأصل: "لهذا ننفصل رأسا عن مفهوم "التراث" الشائع. صحيح أن التراث هو، بالنسبة للفكر، راحة الموتى، أرضيين وعلّيّيين... وتنبع هذه الراحة من الأرض، من ماضي الأرض، في قلب الذاكرة... لهذا ننفصل رأسا عن معنى التراث الشائع. صحيح أن التراث هو عودة المنسي. ولا بد لهذه العودة من أن نستوقفها ونطرح عليها الأسئلة لكي تدلنا على طريق الموتى الذين يتكلمون، والذين يتحدثون معنا. بماذا ينطق التراث، كل تراث؟ إنه ينطق بإقامة الإلهي في قلوب البشر وعقولهم. وقد احتضنت الميتافيزيقا هذه الإقامة منذ نشأة الفكر. فالميتافيزيقا هي بمعنى ما، سماء التراث الروحية". إن هذا التحديدالتأويلي يعرف ويحدد أيضا موقعا وموقفا من التراث كما من الميتافيزيقا في الآن نفسه. إنه تعريف مركّب. وهو ما يفضي إلى تحديد الإسلام ومن ثم النزعة التراثية، التي يعتبر الخطيبي أنها بمنزعها ذاك فقدت معنى التراث. أما الدعوة السلفية، فهي في هذا الإطار "تكشف عن عقيدة إصلاحية تدعو للارتياب". النزعة التراثية إذن هي الميتافيزيقا وقد تحولت إلى لاهوت تراثي يحيل إلى الكائن كعلة أولى. أما السلفية فهي تلك الميتافيزيقا التي تحولت إلى مذهب، أي إلى سلوك وأخلاق سياسية وتنشئة اجتماعية. وأما العقلانية فهي الميتافيزيقا التي تحولت إلى لاهوت ومذهب وتقنية.
يمكّن هذا التحديد الثلاثي إذن من بناء مفهوم الهوية العمياء من جهة، والاختلاف الوحشي من جهة ثانية. كما أنه يمكّن من إعلان المسافة عن ثالوث عبد الله العروي المتمثل في: الشيخ والليبرالي والتقني. فبخصوص التخلف الذي يعتبر اندحارا (وهو مفهوم هايدغري) يقترح الخطيبي ضرورة "أن نحب تراجع العرب التاريخي ونقترب منه. علينا باختصار أن نتوجه نحو ليلهم". ما الذي يعنيه ذلك؟ إنه تملك جديد للتراث يجعله، حسب المفهوم الهايدغري، قريبا منا في حداثته، ومجاوزة النزعة التراثية في نسيانها ذاك للتراث، والسلفية في تلفيقيتها الهجينة، والعقلانية التاريخانية في سعيها لاتباع تطور الغرب، وباعتبارها اختلافا وحشيا. إننا لسنا ملزمين باتباع مراحل التطور التي اتبعها الغرب، بل علينا الانطلاق من "الموجود، أي مما هو قائم هنا كمسألة". وهذه الدعوة ذات العمق الهايدغري والنفَس الدريدي هو ما جعل الخطيبي يأخذ المغرب (في جمعه) أفقا للفكر. "فما يلزمنا هو أن نتجاوز، من الجوانب جميعا، الصورة الضيقة التي نملكها عن أنفسنا، وعن الآخرين، وأن ندخل في المعرفة فسحة ذات محاور استراتيجية متعددة، وأن نفرغ الكتابة التاريخية من المطلقات (اللاهوت، المركزية اللاهوتية...) التي تقيّد الزمان والمكان وتقيّد جسم الشعب". وإزاء الهوية العمياء والاختلاف المتوحش، يطرح الخطيبي مفهومه "للاختلاف المستعصي" intraitable ،الذي يروم به نقد هذين النوعين من الميتافيزيقا (الهوية العمياء والاختلاف المتوحش، النزعة التراثية والسلفية، والعقلانية). "فالاختلاف المستعصي هو مجاوزة الميتافيزيقا بنقد مزدوج وبكفاح مزدوج وبموت مزدوج".ألا يوحي مفهوم الاختلاف المستعصي بمفهوم الاختلاف المرجأ différance  (المغايرة) الذي بلوره جاك دريدا في أواخر الستينيات؟ فكما أن النقد المزدوج يجد أصوله الواضحة لدى نيتشه وبنيامين، يجد مفهوم التقنية كما يؤوله الخطيبي أصله لدى هايدغر، فيما يجد مفهوم الهوية والاختلاف عموما أصوله لدى هايدغر ليتوّجه باستيحاء الاختلاف الدريدي...   
بيد أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، لماذا "تخلى" الخطيبي عن مفهوم "الاختلاف المستعصي" هذا، باعتباره المولّد لمفهوم النقد المزدوج، ليبلور مفهوما آخر هو "البينية" inter؟
الحقيقة أن النقد المزدوج بدوره يحيل إلى مقولة جاك دريدا: "لا هذا ولا ذاك"، أي إلى النفي المزدوج. لكن البينية سوف تغدو في نظرنا منهجا للنظر والتحليل والتأويل. وهي تتبلور لأول مرة في ما يسميه الخطيبي "سيميائيات بينية" مقارنة بين الفنون الزخرفية (الخط والزربية...) في دراساته عن الخط والزربية: "كانت منهجيتي في هذه الدراسة الحديثة تتمثل في أن أقاطع بين قراءتين؛ الأولى تتعلق بتصور الإسلام للجسد والثانية وبتصور تلك السيميولوجيا البينية للجسد. وقد تابعت ذلك السبيل، محللا المفهوم الديني للأضحية خاصة في الانتقال إلى الفعل الانتحاري والإجرامي للرجل القنبلة، الذي يعتبر ظاهرة شعائرية للموت قلّما درست بالرغم من أهميتها السياسية...". البينية إذن، هي ضرب من الرؤية المنهجية التي، وهي تنزاح عن مفهوم الاختلاف، تتبنى بشكل ضمني مفهوم البرزخ كما تبلور في تصوف ابن عربي والسهروردي، ومعه مفهوم "البين بين" كما تبلور لدى الرومنسيين الألمان. البينية بهذا المعنى عبور مستمر،وهي تتلاءم كثيرا، بل إنها تؤسس مفهوم الترجمة كما يتصوره الخطيبي، وقبله جاك دريدا. الترجمة باعتبارها تخترق اللغات وتخترق النصوص وتكون عبارة عن حركية ناقلة وتأويلية تبلور وجود الكائن كما وجود النص. "فالعلاقة الرابطة بين شيئين inter/البيْن هو نقطة جاذبية كل لقاء افتراضي. وهو يكون أحيانا متجمدا في ثباته وأحيانا أخرى في حركة سواء في غرائز الجسد كما في المخاوف التي تسكنها الأفكار الجامدة والاجترار والترابط أو التفكك في استخدام الكليشيهات وفي الحروب المتكررة للمواقع (...) نعم، البيْن أو المنزلة بين المنزلتين هي المكان الذي يحدث فيه كل شيء، والذي لا يحدث فيه شيء. عادة ما أشبعت البين بمتعة تصنيف وبلْبلة العلامات التي تلتقطني، والكائنات والأشياء العزيزة على قلبي". هذا الموقع البيني هو دوما استدعاء للآخر في اختلافه، وعبور (طريق) نحو الآخر، واستكناه للذات في وجودها المفترِض لوجود الغير. من ثم فإن ذلك الفكر الآخر أو المغاير الذي يدعو له الخطيبي، ويعتبره بشكل ما "فلسفته"، لا يمكن أن يتبلور إلا في هذه البينية المعارضة لميتافيزيقا الهوية، أي في خلخلة كل وثوقيةتلغي الذات المفكرة والمتأولة، وترمي بها في موضوعية علمية معتدة بيقنياتها.
 
اللغة أفقا للفكر والوجود: الخطيبي وجاك دريدا
"لقد التقيت بجاك دريدا في شتنبر 1974 بباريس في مقهى بساحة "السان سولبيس". أهداني كتابه "أجراس" الذي كان قد صدر لتوه. ومن جهتي كنت قد بعثت له بالبريد قبل لقائنا، كتابين صدرا في الوقت نفسه في بداية الدخول الأدبي هما الاسم العربي الجريح والحمى البيضاء. ومن ذلك التاريخ وحتى وفاته في أكتوبر 2004، حافظنا على علاقة مستمرة إلى هذا الحدّ أو ذاك، علاقة صداقة ووفاء، أشبه بمعلم في ما الزمن الذي علينا عيشه". هكذا يقدم الخطيبي لصداقته مع جاك دريدا، الفيلسوف الذي أعاد قراءة تاريخ الفلسفة وجعل من اللغة والترجمة والأدب قضية فلسفية. اللقاء بين الخطيبي ودريدا هو صداقة وضيافة في الفكر وفي الحياة. فإضافة إلى انطباع مؤلفاته الأولى بمفاهيم دريدية واضحة كالتفكيك ونقد الميتافيزيقا والاختلاف، سوف يستقبل الخطيبي جاك دريدا بالرباط مرات عديدة وسوف يقيم ندوة هامة بالرباط عام 1995 عن فلسفته...
لا مراء في أن قضية اللغة هي التي سيبين فيها جاك دريدا الطابع الفلسفي لفكر الخطيبي. لقد طرق الخطيبي موضوع الازدواج اللساني في رسالة الدكتوراه "الرواية المغربية" قبل أن يجعل منه موضوعا حكائيا في سيرته الذاتية "الذاكرة الموشومة"، وقبل أن يجعل منه قطب الرحى في روايته "عشق اللسانين". الازدواج اللغوي يغدو لديه قضية فكرية (فلسفية؟) من خلالها يمكن بناء تصور للفكر والكتابة والترجمة واللغة والوجود في الهنا والآن.
إن كتاب "اللغة الأحادية للآخر" هو حوار فكري ينطلق، من ضمن ما ينطلق منه، من تصور الخطيبي للغة وللازدواج اللغوي. ففي تصدير هذا الكتاب يعترف دريداأن التعريف الذي لم يجرؤ عليه أحد قطّ، والصيغة الوحيدة الصريحة للتفكيك ... كانت هي "أكثر من لغة"، أي الوجود الفكري بين موطنين ولغتين أو أكثر. في الفصل الثاني والثالث من كتاب اللغة الأحادية للآخر، يحاور دريدا الخطيبي انطلاقا من اختلافه عنه. فإذا كان الخطيبي مزدوج اللسان (مع أنه لم ينشر نصا واحدا باللغة العربية، عكس العروي أو محمد عزيز الحبابي مثلا)، فإن دريدا أحادي اللسان، بالرغم من أنه ولد فيقلب الجالية العبرية الجزائرية وصار فرنسيا. وهو ينادي لنفسه بأحادي اللسان ويحاور صديقه الخطيبي انطلاقا من هذه الأحادية المنفتحة التي يجعلها موطنا لاضطراب الهوية ولخلخلتها. إنهما استراتيجيتان مختلفتان وإن كانتا تتوافقان في النتائج.
لقد اختار الخطيبي أن يجعل من مقتطف من هذا الحوار تصديرا لكتاباته الروائية والحكائية. لماذا هذا الاختيار؟ كيف يتحول الحوار الفلسفي إلى حوار أدبي؟  لنترجم هذا التصدير حتى نقف على فحواه وعلى الأسئلة الفلسفية والأدبية التي يطرحها جاك دريدا في مساءلة موقع فكر الخطيبي من تصوره الفلسفي: 
"إني، كما هم أناس كثيرون آخرون، أعتبر عبد الكبير الخطيبي أحد أكبر الكتاب والشعراء والمفكرين باللغة الفرنسية في زمننا، وأنا أأسف أنه لا يحظى بالدراسة التي يستحق في البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية (...). وإني مصر على التشديد على أن هذه المؤلفات، التي حظيت باعتراف واسع في العالم الفرنكفوني والعربي، هي في الآن نفسه إبداع شعري هائل وتفكير نظري قوي يتصل، من ضمن موضوعات أخرى يتصل بها، بإشكالية الازدواج اللساني والازدواج الثقافي.  وما يفعله الخطيبي باللغة الفرنسية، وما يمنحها وهو يترك عليها بصمته، لا يمكن فصله عما يحلل في هذه الوضعية في أبعادها اللغوية بالتأكيد، ولكن أيضا الثقافية والدينية والأنثربولوجية والسياسية. وبما أني حساس بشكل خاص بمسعاه (خاصة وليس حصرا بسبب أصولي المغاربية)، فقد حاولت أن أقول ذلك، بالتعبير عن عرفاني بالجميل وقربي منه في خلال مؤتمر جمعنا معا من بضع سنوات في جامعة دولة لويزيانا بأمريكا (وهو مؤتمر من تنظيم إدوار غليسان ودافيد ويلز) كما بمناسبة مؤتمرات أخرى دولية. [...]. إن عبد الكبير الخطيبي ليس فقط مؤلفا "لا يمكن تفاديه"، كما يقال، لمن يهتم بالأدب الفرنكفوني في هذا القرن، وبهذا الأدب ذاته، وفي ذاته، وحيثما يفيض ويفكر في الثقافة الفرنسية ويلوي عنقها حيثما هي تشهد أيضا على التاريخ السياسي، الكلونيالي وما بعد الكلونيالي، الذي يربط فرنسا بمستعمراتها ومحمياتها في الماضي. كما أن أعمال الخطيبي لا يمكن، من جهة أخرى، إلا أن تكون "أنموذجية" لكل من يهتم بمشكل "التعددية الثقافية" و"ما بعد الكلونيالية"، كما هي تمارس فتنتها اليوم، وعن حق، على العديد من المثقفين والجامعيين أو المواطنين من كافة الأصول". هكذا إذن يتحدث جاك دريدا عن الخطيبي. كأديب ومفكر لا كفيلسوف! فدريدا يمتح "فلسفته" من كافة المصادر، مثله في ذلك مثل الخطيبي، من الذاتي، كما من علاقته بالأدب وتاريخ الفلسفة. أليس هو الذي قال: "علينا أن نفكر الحياة باعتبارها أثرا قبل أن نحدد الوجود باعتباره حضورا"، محورا بذلك فلسفة هايدغر ومانحا إياها بعدا جديدا أكثر انفتاحا نحو الآثار والوشوم التي تنطبع مثل توقيع غير مقروء على جسد الفيلسوف وفكره؟ لقد أدرك دريدا القوة الفلسفية والفكرية للخطيبي التي لا تجعل منه فيلسوفا (بالمعنى المتداول) وإنما أديبا ومفكرا يتفلسف على طريقته من خلال اللغة والفكر. بل إنه يعترف بقوته التنظيرية التي تجعله في نظري فيلسوفا على طريقته. يكفي أن نعيد قراءة مقاله الفكري القوي "المغرب أفقا للفكر" لنقف على تلك القوة التنظيرية التي تحدد بدقة مجموعة من المفاهيم ذات العلاقة بالفكر العربي، خاصة منها مفهوم التراثوية أو النزعة التراثية، ومفهوم السلفية، ومفهوم الليبرالية أو العقلانية.
في حوار دريدا والخطيبي، ثمة "ديْن" يماثل الدين الذي يعترف به رولان بارث للخطيبي (في النص الذي يستعيده الخطيبي ليجعله تصديرا للجزء من أعماله الكاملة المخصص للدراسات والأبحاث والمقالات). فحين يبلور دريدا ما يسميه "فكر الوشم" (1996، 133)، أي فكر الأثر الذي يخترق مؤلفاته، أليس ذلك إحالة غير مباشرة لدراسة الخطيبي عن الوشم؟ وحين يشير إلى موقفه العاشق aimante للغة، ألا يحيل إلى مفهوم العشق أو المحبة aimance، الذي يبدو أن الخطيبي قد سلك فيه مسلك دريدا في نحته لمفهوم المغايرة أو الاختلاف المرجأ différAnce؟ بهذا المعنى يكون كتاب "اللغة الأحادية للآخر" حوارا يؤكد فيه المؤلف في الإهداء على أن الخطيبي "فاعل، ومن ثم... مؤلف مشارك لذلك "الحوار مع المناجاة". 
منذ كتاب الرواية المغربية، ظل الخطيبي يفكر في الدور المتعدد الذي تلعبه اللغة في تشكيل الكتابة الأدبية باللغة الفرنسية. فالوضعية اللغوية التي يتحاور فيها مع دريداتجعل وضعية الخطيبي "أغنى" ثقافيا من وضعية دريدا. فاليهودي الذي تربى في حضن مدينة الجزائر وصار كاتبا غدا يكتب بلغة وحيدة هي اللغة الفرنسية. "إننا لا نتحدث قطّ سوى لغة واحدة، وهي تكون بشكل غير متواز كذلك، بحيث تعود دوما إلى الآخر، من الآخر، محروسة من قبل الآخر. إنها آتية من الآخر، وتبقى للآخر، وللآخر تعود". يا لها من وضعية مأساوية مطبوعة بالبعد والتغريب distanciation (الذي يتحدث عنه الخطيبي أيضا). إن أحادية اللغة يفرضها الآخر في وضع معين، وقد يكون هذا الآخر فردا أو مؤسسة أو دولة، وقد تُفرض في الوضع الكلونيالي أو غيره. بيد أن هذه الأحادية اللسانية التي يفرضها الآخر يمكنها أن تكون وراء تشجيع خصوصية الاستعمال الذاتي بحيث تخلق "أنموذجية ذاتية" قد تكون منفتحة نحو العالمية.
إن دريدا لم يفكر أبدا في اللغة العربية أو العبرية التي تخللت طفولته إلا باعتبارها لغات محجوزة في ومن قبل اللغة الفرنسية لغة كتابته، وإن كان يستعيد وضعيته كيهودي جزائري من حين لآخر. أما الخطيبي، فإنه منذ نصوصه الأولى ظل مهووسا بازدواجه اللساني، وبالممكنات الخصبة التي يمنحها له، لغة وفكرا ووجودا وحياة. إنها ممكنات جعلته بشكل أو بآخر يستعيد ويطور، في مجاله الخاص، مفهوم الترجمة الذي بلوره دريدا أيضا في تصوره الفلسفي في مواطن أخرى. هل كان الخطيبي وراء تفكير دريدا في وضعيته اللغوية؟
اللغة والترجمة
كتب الخطيبي في تصديره لكتاب مارك غونطار عن "عنف النص": "ما دامت نظرية الترجمة، واللسان المزدوج واللسان المتعدد لم تتطور وتتقدّم، فإن بعض النصوص المغاربية ستظل عصيّة على الإمساك تبعا لمقاربة شكلية ووظيفية. إن اللغة "الأم" تكون فاعلة في اللغة الأعجمية. فمن لغة لأخرى تتمّ ترجمة دائمة وحوار مستبطَن en abyme، يكون من الصعوبة بمكان تحيينه... فيمَ يرتسم عنف النص إن لم يرتسم في هذا الشرخ chiasme وفي منطقة التقاطع هذه التي تكون حقا غير قابلة للتصالح؟ علينا فقط أن نعترف بذلك في النص نفسه، أعني: تحمل مسؤولية اللغة الفرنسية، نعم، لكي نسمي فيها تلك الثغرة ومتعة الغريب تلك التي ينبغي لها أن تكون فاعلة دوما في الهامش، أي لحسابها الخاص فقط وبشكل متوحّد". متى ما استبطن الكاتب المغاربي اللغة الفرنسية بشكل فعلي، باعتبارها لغة وفعلا ذا خلفيات وامتدادات فكرية وتاريخية وجمالية وثقافية، فهي ترمي به في ما يسميه الخطيبي "الممتنع عن الترجمة" l’intraduisible. ما الذي يعنيه ذلك بالضبط؟ اللغة الأجنبية لا تنضاف أبدا مثل فرشة تراكبية إلى اللغة الأم. إنهما لغتان تتحاوران وتتغامزان بإشارة خفية كي تطلب منها أن تبقى في الخارج. إنه خارج مطلق هو خارج الهوية العمياء الذي جعل من اللغة العربية في الوضعية الكلونيالية مجالا للمقاومة ورمزا للهوية المغربية. إنه "خارج ضد خارج"، وغرابة تجعل من "رغبة" لغة ما تكون فريدة وغير قابلة للاختزال، ورغبة أخرى بشكل لا يقبل التفاوض. إنه في الحقيقة صراع مستميت وخطر. وهذا ما يجعل الخطيبي يخلص إلى أن "هذا الأدب المغاربي الذي يسمى ناطقا باللغة الفرنسية هو حكاية ترجمة. وأنا لا أقول إنه ليس سوى ترجمة، بل أوضح أن الأمر يتعلق بحكاية تتكلم لغتين". 
هل يمكن تحديد هذه الحكاية التي تحكي لنا في طياتهاما يستعصي وما يتمنع وما يمتنع عن الترجمة؟ 
سيعتبر دريدا أن الترجمة ملزمة لكل ما يدخل في رهان المرور إلى الفلسفة عمل الترجمة إذن شبيه بعمل الأثر في فلسفة دريدا. فإذا كانت وظيفة الأثر تتمثل في تمكيننا من التفكير في زمنية لا سلطة للحاضر عليها، فإن وظيفة الترجمة هي أنها تمكننا من أن نتلقى النص في تعددية زمنه. الترجمة تمنح النص إمكانية أن يكون في عدة أزمنة وأن ينفلت من دكتاتورية الحاضر الزمنية، ليعيش في حاضر متعدد وب"أقنعة" persona يفكك بها مفهوم الذات في علاقتها المتافيزيقية بالزمن.
يطرح دريدا مسألة الترجمة الجيدة في إشكالية الترجمة نفسها، أي في اختبار يتم من خلاله إخضاع تجربة الترجمة لمحنة أو اختبار الممتنع عن الترجمة. وفي عملية الإخضاع هذه تمارَس الترجمة ويمارِس المفكر المترجم فعل الترجمة والتفلسف في الآن نفسه. ويُطرح السؤال: كيف يمكننا أن نتجرأ على القول بأن لا شيء قابل للترجمة، ومع ذلك لا شيء ممتنع عن الترجمة؟ ألا يذكرنا ذلك بما بدأ به دريدا نظريته التفكيكية من كونها تلعب على النفي المزدوج أي على ضرب من الإثبات التفكيكيالذي يجد موطنه في الفاصل الواصل بين الشيء وضده؟ النص حسب دريدا يتحدى دائما المترجم. بيد أن الأمر لا يتعلق بعدوانية ما أو بضرب من السجال، وإنما يكتب الكاتب فعلا، ثمّة حيث يحس بأن الترجمة قابلة للاستدعاء ومستحيلة في الآن نفسه. بالمقابل يمارس المترجم اللعبة نفسها. فهو ينتهج ما يسمى بالرابطة المزدوجة أي أنه ينسينا كقراء أن الأمر يتعلق بنص مترجم، وفي الآن نفسه يذكرنا بأن ثمة نصا أصلا يعلن بأنه مكتوب في لغته لا في لغة المترجم.
يكاد الخطيبي أن يقول على شاكلة دريدا وبشكل مغاير: إن الترجمة مدخل إلى الكتابة، أو هو يقول بشكل آخر بأنه يكتب الفرنسية على طريقته لأنها تلك اللغة التي يتملكها بحب وبمعاناة، في وحدة تجعله هامشيا عن الثقافة الأم والثقافة الفرنسية. لذلك نراه يصرح بأن اللغة لا تنتمي لأحد، وحدها الكتابة، باعتبارها فعلا متوحّدا يكشف محجوب اللغة، تمارس اللعب بما يستعصي على الترجمة تلك وما ينصاع منها. وكما يفكر دريدا الترجمة باعتبارها فعل استحالة لا يتم إلا في البيْن، يكتب الخطيبي: "إن المستعصي على الترجمة l’intraduisible ليس ذلك الماوراء المستعصي على القول indicible، الذي يكون غير مسموع ومغلقا إلى الأبد، وإنما اشتغالا للنوم والأرق، بحيث يزرع الهلوسة في كل ترجمة، ويحلم لحسابه الخاص من لغة إلى أخرى، وبحيث إن بعض شذراته تنبثق في النهار أو في الليل في حلم يقظة كل كتابة". سنوات بعد ذلك سوف يؤكد لنا الخطيبي هذه المناوشة الدائمة لمكبوت الترجمة ومكبوت القول الذي يجعله يبلور لغته الخاصة في الكتابة، إذ إن تلك اللغة هي التي تجعله كما يردد مرات، يبني النص كما تبنى الصورة الكالغرافية أو الزربية أي كعلامات وصور: "ومع أنني مزدوج اللسان، فإني أستمر في تحرير هذه السيرة الذاتية الفكرية في لغتي. ذاكرتي تنكمش في شكل كلمات، وحين أناجي نفسي كأي امرئ، أقوم بذلك بلغة ثالثة، أي لغة بينية تتخللها حالات النسيان وتوارد الأفكار غير المنتظر وانبعاث المكبوت فيَّ". يكفي أن نقرأ حوار الخطيبي في آخر حياته مع حسن وهبي، أو سيرته الفكرية لكي يتبدّى لنا أن اللغة محور لفكر الخطيبي، إذ أن كل مسيره مهما انطلق خارج الأدب والشعر والكتابة الحكائية يظل مشدودا لها، منصهرا فيها باعتبارها وطنه وموطن ابتكاره لذاته وغيريته وفرادته. إنها ما يستعصي على الكلام لأنها مادته الأولى والأخيرة: "لا يمكننا الحديث عن اللغة فهي لحمنا ودمنا، وانفلاتنا من شراسة الوحدة. والجسد فيها عبارة عن ذاكرة من الآثار".
*
تتبدى آفاقية الخطيبي في كونه، إذن، فاتحا للآفاق. فلقد أخصب الثقافة والفكر العربيين من خلال تملُّك خاص للغة الفرنسية، كما من خلال مواجهتها الدائمة باللغات المحلية والقضايا المحلية. إنه مستشرف يفتح الطريق إزاء قضايا لا زال بعضها لم يجد الآذان الصاغية له (التحليل النفسي، النقد المزدوج...)، كما أن نظرته للقضية الفلسطينية وللعديد من القضايا الأخرى قد أثبتت وجاهتها منذ بداية السبعينيات. أما تحليله للإسلام وللمتخيل الثقافي الإسلامي فيبدو أنه يجاوز بكثير العديد من التحاليل العقلانية التي أضحت تفقد أنفاسها الأخيرة... وإذا كانت الكثير من تحاليل الخطيبي تبدو أحيانا مستغلقة على الفهم، فلأنه ظل يصوغ عمق فكره بلغته الخاصة وبرهافة ودقة فكر تميز المفكرين الكبار. لذلك لنقلْ إن فكره يخترق مجموع كتاباته، حتى تلك الأكثر ذاتية والأكثر تخييلا... فهل هو بحاجة في نهاية المطاف لأن يكون فيلسوفا أو أن ندرجه نحن في رحابالفلسفة، مادام أنه ينزاح عنها طوعا من غير أن يتنصل من موضوعاتها وطرائق اشتغالها؟
 
 

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي