loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

السَّرد والسَّفر في الزَّمان

breakLine

 

د. سعيد الغانمي - كاتب عراقي

في أواخر التِّسعينات، أعلن أحد كبار علماء الفيزياء البريطانيِّين أنَّ السَّفر في الزَّمان ممكن، على أنَّنا لا نمتلك حتّى الآن الوسيلة التي تُتيح لنا القيام به. وقد كان هذا الإعلان شرارةً أطلقت في ذهني عدداً من الأفكار المحيّرة. فتمكُّن الإنسان من السَّفر في الزَّمان يعني بالنَّتيجة أنَّه سيتحكَّم بالزَّمان، وبالتالي يعني قدرة الإنسان على افتضاض لغز الزَّمان، وتحوُّلِهِ إلى كائنٍ خالدٍ. لكنَّ الخلود، بالنسبة إليَّ في الأقلِّ كشخصٍ تربَّى على الثَّقافة الكلاسيكيَّة، هو الفارق الوحيد بين الإنسان والآلهة. فضلاً عن ذلك فمن شأن هذا، إذا تحقَّق، أن يقلب الاعتبارات النَّظريَّة والعقليَّة جميعاً، ويضعَنا بإزاء معضلة نظريَّة حقيقيَّة. إذا افترضتُ مثلاً أنَّني قرَّرتُ السَّفر في الزَّمان قبل مائتي عام، لألتقيَ بجدِّيَ الأكبر، وأقنعَهُ بأن لا يتزوَّجَ من جدَّتي. ولنفترضْ أنَّني نجحتُ في مسعايَ. حينئذٍ لن يكون أبي قد وُلِدَ، وبالتالي ينبغي أن أكون أنا نفسي غيرَ مولودٍ. ولكنِّي ولدتُ فعلاً وسافرتُ في الزَّمان. وفي هذه الحالة، لا بدَّ أن تكون إحدى الواقعتين زائفةً، فإمّا أنَّني لم أُولَدْ، أو أنَّني لم أُسافرْ في الزَّمان.
لم أستطعْ حلَّ هذه المعضلة النَّظريَّة المؤسَّسة على هذه الفكرة حتّى التقيتُ ذات يوم عالماً فيزياويّاً. عرضتُها عليه، فتفهَّمَها الرَّجل قائلاً: ما صرَّح به العالم البريطانيُّ صحيح، والمعضلات الفكريَّة التي اقترحتَها صحيحة أيضاً، لكنَّها قائمة على التَّصوُّر التَّقليديِّ للزَّمان. فنحن في العادة نتصوّر الزَّمان خطّاً متواصلاً يتَّجه من الماضي إلى المستقبل. وإذا كنّا نقبل بالتَّغيُّر، فذلك لكي نقرنه بالحاضر وحسب. غير أنَّ الزَّمان في حقيقته هو التَّغيُّر نفسه. وهذا التَّغيُّر لا يشمل الحاضر وحده، بل يشمل الحاضر والماضي والمستقبل. فالماضي يتغيَّر أيضاً. وهكذا إذا قرَّرنا العودة إلى نقطة في الماضي، فإنَّ هذه النُّقطة تتغيَّر أيضاً، وبالتالي فلن نعودَ لتلك النُّقطة بعينها، بل سنعود في الحقيقة إلى نقطةٍ أخرى من الماضي. وبالنَّتيجة فالسَّفر في الزَّمان لن يعرضنا لهذه الاحتمالات النَّظريَّة الإشكاليَّة.
يا لروعة السَّرد..لم يفكِّر جلجامش منذ آلاف السِّنين وهو يطوي صفحاتِ الزَّمان باتِّجاه جدِّهِ أوتانبشتم (مَن أُوتي الحياة الخالدة) بهذه المعضلات. لم يفكِّرْ بها أودسيوس وهو يهبط إلى العالم السُّفليِّ لكي يعرفَ ما يدَّخره المستقبل لمدينته من نبوءات، ويكتشف هناك أنَّ أُمَّهُ ماتتْ، وقد جاءتْ في موكب الأرواح الذي تجمَّعَ حوله. وقد رضيَ كلاهما بالعودة إلى مصيره البشريِّ مثل سائر الناس، مدركاً أنَّ الخلود الحقيقيَّ هو الخلود السَّرديُّ، خلود الأحاديث والذِّكر، كما يقول حاتم الطائيُّ: "ويبقى من المرء الأحاديث والذِّكر". وفي هذه الأحاديث، يُتاح كلُّ شيءٍ. يُتاح للمرء أن يسافر بأخيلته إلى الماضي أو المستقبل، بشرط أن تكون البطاقة مزدوجة. ففي الرِّحلة السَّردية في الزَّمان لا توجد رحلة ذهاب وحسب، بل هي دائماً رحلة ذهاب وعودة خائبة، ولكنَّها خيبة الانتصار، لا الهزيمة. في حكاية حاسب كريم الدِّين من "ألف ليلة وليلة"، يقرِّر بلوقيا، وقد هام في حبِّ النَّبيِّ محمَّد الذي لم يولدْ بعد، أن يسافر إلى زمانه في المستقبل، فيقنعه عفّان بسرقة خاتم سليمان الذي تحرسُهُ ملكة الحيّات. وكانت المفاجأة أنَّ عفّان احترق، ونصحتْهُ ملكة الحيّات بأنَّه كان من الأولى له أن يأخذ "العشبة التي كلُّ مَن أكلَها لا يموت"، مع أنَّها هي نفسها لم تأكلْ منها. في هذه الرِّحلة يلتقي بلوقيا بشخصٍ بنى قبره بيديه وجلسَ يبكي عليه. وكأنَّه بهذا يُسافر إلى الموت ويستبقُهُ. ومثلما تتوفَّرُ الوسيلة السَّرديَّة للسَّفر في المكان في البساط السِّحريِّ، أو العصا السِّحريَّة، كما في الحكاية التي يرويها أبو زيد القرشيُّ في مقدَّمة كتابه "جمهرة أشعار العرب"، كذلك لا بدَّ من وسيلة سرديَّة للسَّفر في الزَّمان، وهي في العادة وسيلة طقسيَّة أو لنقل تقنيَّة. ولكنَّها دائماً مشروطة بأن تكون تذكرة سفر مزدوجة للذِّهاب والعودة معاً. وفي نهايتها يدرك المرء استحالة طرح الأسئلة الإشكاليَّة التي ابتدأتْ بها هذه المقالة.

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي