مقالات ادبية واجتماعية وفنية
د. حسين حمزة الجبوري || كاتب عراقي
-1-
أدرك نجيب محفوظ الحداثة في تجربتها الأولى في الثقافة العربية ، وتعامل مها سواء اكان ذلك في الفكر أم في الأدب العربي ، ومنها الروائي ، وذلك من خلال تفاعله الواعي مع الفلسفة الغربية ومدراسها المختلفة ، لاسيما وأن اختصاصه الأكاديمي سمح له معرفة هذه الفلسفات ، وقيمها ومراحلها ، ومنها الفلسفة الماركسية والوجودية ، وفي أسئلة الوجود التي طرحتها ، مثلما قرأ واهتم بفلسفة نيتشه ؛ و ظهرت هذه المعرفة في مقالاته المبكرة في مجلة " الإنسان الجديد " – الصادرة العام 1930- . حين حصل اللقاء التاريخي مع سلامة موسى صاحب هذه المجلة ، الذي كان من أوائل التنويرين الذين كانوا يحملون جرأة راسخة لا لبس فيها ، وذلك في اختياره للحداثة ، والعلمانية نهجا فكريا ، وبذلك كان مفكرا منشقا ، رافضا للفكر التقليدي كلّه ، بل كان يسعى على نحو واضح إلى تغيير قيم ، ومفاهيم هذا الفكر ، ونموذجه التقليدي الذي اختطه - هذا الفكر- في الحياة العربية ، إذ إن موسى كان من جيل الليبرالية التي اتفق ، وآمن بها نجيب محفوظ أيضّا ، وتعامل معها ؛ وأسهم هذا الجيل في اغناء التجربة العربية الحديثة وفتح طريقا تدميريا لجمود الفكر العربي على الرغم من المعوقات الفكرية الكبيرة من هذا الفكر -التقليدي -وسلطته الدينية ، والاجتماعية ،والسياسية والثقافية .وكان نجيب محفوظ قد نشر في العام – 1930- مقالته المهمة " احتضار معتقدات وتولد معتقدات " الذي قال فيها : " الإنسان بطبعه وبحكم عاطفته الدينية التي تملأ جوانب نفسه يتشوق دائما لمعتقد يسلّم إليه نفسه ، وإيمانه ، ولهذا نجده يعتنق المذاهب الاجتماعية والآراء السياسية ، ويبذل في سبيلها من نفسه ما كان يبذله سلفه القديم في سبيل الله أو القيصر " (1) .وهذا يدل على وعي تنويري - نقدي مبكر لمتغيرات العصر ؛ وثقافة الجيل الجديد ، مما دعا غالي شكري إلى القول : إن نجيب محفوظ " أصبح – يفكر في ميلاد عقل جديد "( 2) هذا العقل التنويري شغل تفكير نجيب محفوظ ، وجيله الثقافي والأدبي ، واستمر على ذلك في مراحله الأدبية المختلفة من خلال تأثره بالواقع ومشكلاته من جهة ، وقراءته للمدارس الفلسفية ، والأدبية الكبرى من جهة أخرى ، ففي روايته " خان الخليلي " نجد حوارا بين الفكر التقليدي ممثلا بأحمد عاكف، والفكر الحداثي الصاعد ممثلا بالمحامي أحمد راشد، يقول هذا : " – أنا أكره الرجوع إلى الماضي . أريد ان أعيش في الحال ،والمستقبل ،وحسبي ما في الماضي من حكماء هم أهل للإرشاد والتوجيه ! " .
وهو بذلك يطرح رؤية جديدة تختلف ورؤية عاكف الذي كان يحسب أن الماضي انطوى على العظمة الحقيقة .. وقد رد منكراّ أفكار المحامي : " – وفيم إنكار عظمة الغابرين ، وفيهم الأنبياء والرسل !
- لعصرنا رسله كذلك !
- ومَنْ رسل العصر ؟
- أضرب مثلًا بهذين العبقريين فرويد ، وكارل ماركس ! "
ثم أردف : " هيأت فلسفة فرويد للفرد فرصة النجاة من أمراض الحياة الجنسية التي تلعب في حياتنا الدور الجوهري . ونهج له كارل ماركس سبيل التحرر من الشقاء الاجتماعي ، أليس كذلك ؟.. " ( 3) : خان الخليلي – 56- 57- وفي روايته التي سبقت هذه الرواية ، أظهر محفوظ خريطة الفكر السياسي ، والاجتماعي المصري – و العربي المعاصر، في شخصيات اليساري ، والاخواني ، والعدمي في " القاهرة الجديدة " . وهي تكشف تعدد بنية الشخصيات الروائية في سردياته كلّها ،، حتى جاءت الشخصية القلقة ، والمفكرة ، والمثقفة المكتملة ، التي أظهرت شخصية " الشحاذ" الباحث عن معناه وخيارته ، وكينونته ، ونعني بذلك كمال عبد الجواد في " الثلاثية " . التي بحث فيها قضايا الدين والعلم والفلسفة والأدب ، والعدالة الاجتماعية ...إلخ ، وهي قضايا تناولتها الفلسفات على نحو متعدد ، ومختلف ، وهذه القضايا كانت ، هي من قضايا الفلسفات الغربية بمدراسها المختلفة ، كما هو الحال في " الذات والإنسان والكينونة ، والجنس ، والهوية ..إلخ " وهيمن أهم شواغل الفكر الأوربي . ( 4) – بحسب هاشم صالح - .. ويظهر أن نجيب محفوظ بتطوره ، بدأ يتجاوز الأيديولوجيات الأحادية ، وهو يبحث في صدام العلم – الدين ، ودور الإنسان وموقفه من هذه القضية ، وما كان يجري في الواقع في الوقت نفسه ؛ وهي قضايا شكلّت " أزمة الوعي الأوربي " أيضّا –بحسب هوسرل - . إن هذا الوعي المحفوظي أسهم في تحديد إشكالية الوعي الحداثي العربي ، ومعاناته أيضّا ، وازمته الحضارية ، والتي ظهرت في روايات نجيب محفوظ لاسيما في - مرحلته الفلسفية ، وتجلى ذلك على نحو كبير في التيه الوجودي في تجربتنا المعاصرة من خلال في روايته " الشحاذ " في محاولة للكشف عن ذات الشخصية ، وكينونتها ، والوعي واللاوعي ، والمسؤوليات الأخلاقية للإنسانالمعاصر ، و البحث في المصير الفردي ، كما هو الحال في شخصية المحامي عمر الحمزاوي . أما تجربة الروائي فؤاد التكرلي ، فهو الآخر كان باحثا عن معنى الوجود ، ومصير الفرد الذي تجلّى لأول مرّة في قصصه القصيرة من خلال الشخصيات المهمشة ، الذين كانوا يعانون من القدر ، ومن الأوضاع السياسية ، والاجتماعية ، هؤلاء يمكن أن نعدهم شخصيات منشقة - أيضّا - على واقعهم وعلى الفكر التقليدي الحاكم لمصيرهم ، ومن ثمّ أسهمت هذه الأوضاع في ظهور شخصية " الضحية " ، ومن ثمّ شخصية " الشحاذ " في أدبه ، و ظهر ذلك في مجموعته القصصية الأولى " الوجه الآخر " –1982- وفيها تتوالد الشخصيات ، وتتطور في السرد ، ليكتمل فكرها ، ورؤيتها للعالم ، و قد مثلت هذه القصص تحولا في موضوعات الضحية ، إلى البحث في معنى وجودها ، و كينونتها ، وفضاءات وعيها ، ولعل قضية " البغي " كانت من أبرز صور تلك التجربة ، التي شغلت تجربة كتّاب القصة من قبل ، وقد تحولت عند التكرلي إلى البحث في الوعي الداخلي للشخصية من خلال تقنية " تيار الوعي " ، الذي كان جديدا في القص العراقي ، كما هو الحال في شخصية سليمة في " العيون الخضر " ( 6) . بمعنى أن تحولات الوعي في بنية الشخصيات بدت أكثر عمقا ، أو "تبئيرا في وعي الشخصية " . وأخذت الشخصية تثير أسئلة المصير الفردي ، و معنى القدر ، ومعنى الوجود ، وتجليات مشاعر الخوف ، والقلق ، والرغبات ...إلخ - كما في الفلسفة الوجودية – لاسيما وان جيل الخمسينيات الأدبي ، ومنهم التكرلي ، كانوا يسعون إلى فتح قضية الإنسان بوعي نقدي ، وتنويري ، وبقدرات إبداعية واعية لتقنيات السرد ؛ يقول سارتر : " إن التقنية الروائية تقود إلى ميتافيزيقية الروائي . وبالفعل فالكاتب لا يروي لك قصة من اجل القصة ذاتها بل من أجل الذهاب أبعد " ( 7) . و سعى هؤلاء الكتّاب لهذا الفعل السردي ، والانهمام فيه ، وقد غادروا الوعظ الذي كان سائدا قبلهم ، وكان التكرلي من أوائل من انقلب على الوعظ ، وسلبياته .
ولهذا وقع اختيارنا في هذه القراءة على شخصية الشحاذ " في روايتي نجيب محفوظ " الشحاذ " ورواية " خاتم الرمل " للتكرلي
...........................
الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-
او تحميل تطبيق نخيل
للأندرويد على الرابط التالي
لاجهزة الايفون
او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي