مقالات ادبية واجتماعية وفنية
عدنان أبو أندلس / كاتب عراقي
لو ترصدنا وتتبعنا رؤى الشاعر " بريفير " في مشهد حياته من طقوس مُهملة وغرائبية وحواشي ، لرأينا بأنه شاعر الحياة اليومية بكل صراعاتها ، وما يفكر به المرء من اشياء تلزمه بقضاء الحاجة من حيث أدواته التي يستعملها ؛ بدءاَ من الشارع والمقهى والحانة والساحات العامة والزحام والرخاء والفصول والجسور ، بعضها مادية وأخرى معنوية .. شخوصاً يذكرهم بالاسم الحصري ؛ سوآءً من " الخادمة والأميرة والقطة والأزهار والحارس والفنار " حيثُ يبان من ذلك بأنهُ فعلاً كما أذكركم به ، شاعر الهموم الصغيرة والشؤون العابرة التي وظفها بعيداً عن " الأنا " التي تلتصق بالشاعر لحظة تناوله نص ما . حتى قيل عنهُ من دارسين ونقاد بأن:" قصائده مثقلة باللعبة اللغوية التي لا تؤدي مفعولها إلا في لغتها الأصلية " *1 ..ربما من يقراً ذلك في الترجمة يدرك صحة القول . كُلنا قرانا نصه الجدلي الساخر بواقعية " غدا كلنا نموت – أنا والملك والحمار – الملك من الضجر - الحمار من الجوع – وأنا من الحب " *2 .يلاحظ في نصوصه اكتشاف لذة غائرة وتوهج عشقي بأدواتهِ المحكة في اشتغاله ، وقد قيل عنهُ : يكتب كما يكتب وهو سائرٌ، وكان ملتصقاً بالحياة " *3 ..تبدو ظاهرة " التكرار" التأكيدي في توظيفه بين فضاءات النص وكأنها لازمة لا يحيد عنها وقد جاءت بالفطرة الملائمة لشخصيتهِ دون التخلي عنها البته . هو يعمل على خيط نسيجي موحد رغم ألوانه وما تتطلب القصيدة من اضاءات في بنيتها المعمارية .
وما قصيدة " أغنية المطر " إلا بهذا الصدد من توظيفه اليومي . فما مفردة " المطر " إلا هي مختارة من يومياتهِ الراسخة بالضجر والأسى والتحولات المفضية الى الاختلاف . ربما المطر هو المتساقط عليهِ بالمصائب ، سخط من السماء ، لكن من تحليل القصيدة يظهر غير ذلك بأنهُ مطر أرضي ، بل ما هو إلا الانعكاس الحياتي للأشياء التي ذكرها وقد ولدت لديه َ حالة من الارتكاسات الحالمة بطبيعة حياتهِ والانتكاسات المتوالدة من ذلك الضجر . حيث وظفها في أكثر قصائده " الصحو والمطر – درب السين – بربارا – الافطار " حتى لو استعمل الجامد والهامش والمهمل ؛ فانه يستنطق نبضها في ذلك الايقاع المتوالد كما في مفردة " أغنية " الحركية بلحنها وتناغمها المفرح ، كذلك " المطر" هي حركة القطرات سقوطاً وبنشيج حزين كما يتخيل القارئ ، فما جمعهما سوى " الضجر " المتلازم بأسىً شفيف يبدو ظاهراً من حالة التكرار المتلازم معهما ..ولو أخذنا عينة من هذا التوظيف المتقارب والمقارن بقصيدة أخرى هي " انشودة المطر " للشاعر الرائد "السياب" حيث التناص والتعالق الروحي والمقاربة الرؤيوية والمقارنة والتقارب بينهما . نرى بأن الأثنين تعتريهما حالة التضجر الحياتي من واقعهم المزري معايشة وسط هذا الكم الهائل من الهطول الحياتي للأشياء .حيث اللازمة النفسية " المرضية " لهما هي مقرونة بالمطر فكل منهما قد بنى صرحه الشعري في هذا المتساقط القاطر من علو " حزيناً بائساً " مقاربة ، لكن يظهر الاختلاف توظيفاً فالسياب حزنهُ جذري ، وبريفير حزنه مصطنع بضجر مدني . ربما يشتركان مع " سان جون بيرس " في قصيدة أمطار .. يقول في مستهل القصيدة :
أغنية المطر – RAIN SONG
مطر مطر مطر
تمطر قططاً
تمطر كلاباً
تمطر أولاداَ وبنات
تمطر ملكات وبغايا
كلاباً مدربة وقططاً صهباً.*4
تنمو القصيدة بناءً عضوياً وبتدرج نغمي وكأنها مُغناة ، لذا تلاحظ " الضجر " المُبان" من التكرار ، بدءاً بكلمة " مطر " الثلاثية تكراراً أوجدت نغماً خاصاً بها في التلفظ المبني على صياغة الترديد المتتالي والمتتابع والتكرار دون أخذ جرة النفس المطلوبة بوقفة ، والتي تعني ما يريده من ضجر الحياة بزخمها وكثافة الأشياء فيها من المهمل والهامش والحشوي ، وكأن ضجر " باريس " قد استوعب النص مطابقة بـ الحي اللاتيني المزدحم بهذه الأشياء ، هو ليس مطر الخير كما في قصيدة السياب ، بل جمعهما الضجر والأسى والخمول في واقع مرير جمعهما معاً ..فالمطر الكلمة المتكونة من ثلاث حروف وترديدها ثلاثي الترنم = اللحن المأساوي . وكأني ارى هذا المطر أرضي – أفقي ، وليس من علو = سماوي ، بل عبر عنهُ تأويلاً عن الكُثرة والزحام في مدينة مثل باريس مفتوحة على عوالم الدنيا واستقطابها يتوالد منه هذا الكم من التوليف من " قطط وكلاب وبغايا وملكات : هذه الأغنية الضجرة التي تقولب وتستلزم ذلك الأسى المقرف من الترديد اليومي المعاصر .
مطر مطر مطر مطر
أخضر اخضر اخضر اخضر
ضفدع أخضر أخضر ضفدع
تمطر نابالم
قنابل وحرابا تمطر
دماَ وموتاَ
انها تطفو انها تطفو.*5
كما هو متعارف لدارسي نصوص الشاعر بأنهُ يجيد لعبة المراوغة ومناورة وضع المفردة في محل فقرة ما ، أو مكان آخر كي تأخذ مسيرتها المضاءة في التفرد والاختلاف الذي يرنو اليه .فترديد مفردة " مطر " أربع مرات جاء عن دراية بذكرها تدريجياً من 3 بالمستهل ، و4 في هذا المقطع ، لأن الضجر ازداد من استمرارية الهطول ، وكأن الواحد منا يقول على لسانهِ " كل يوم مطر "!.. يحبس الأنفاس ويخنق كل شيء . الشاعر اضافة الى حسه الرومانسي رغم سورياليتهَ المُحببة لديه لاسيما هو أحد أنصار روادها . كما ذكرت تفرده جاء بـ دادائية من ذكره المراوغة في مناورة المفردات : أخضر اخضر اخضر اخضر
ضفدع أخضر أخضر ضفدع" ما الذي جمع هذه الأحياء يستقطبها في النص .. جاء التدرج بخباء الضجر نوعما " مطر نابالم –قنابل وحرابا – دماً وموتا – تطفو تطفو ، هذه التي استذكرها أو ذكرها لحظتها هي ماثلة أمام عينية ؛ أو من خلال استذكار مأساوي ألم به ضجراً . استدراكاً لما ورد بأن القصيدة تميل الى التصوير المشهدي بتقنيات سردية مألوفة ، جمل نثرية متكررة ببعض من مفرداتها بالتدرج .
كل الوقت كل الوقت
مطر مطر مطر مطر
ومطر ومطر
وبعد وبعد
وبعد حلم حب
ميل وشروق.*6
رغم أنهُ لم يذكر الرقم التكراري المتوقع بتدرجه بـ 5 رغم عضوية القصيدة ونسيجها المألوف بذلك ، لكنه كسر المتوقع وأقتصر على " كل الوقت " التي استعاض عن الرقمية ، لأن كل الوقت يعني ربما 24 ساعة ، اليوم كله . وحين ذكرها برقمها آنف الذكر لأنه ناور وغاير ، لكن أردف تكرارين في ما بعد للأستزادة أو المعالجة الصوتية بذلك لذا اصبحت بـ 6، ومن ثم " وبعد وبعد " للاكتمال أيضاً ، أي رسخ الضجر تماماً بهطول المطر المستمر ، هي الحركات التي يعنيها من وراء ذلك حالة التداعي بالمألوف عن التساقط الاستمراري ، حتى ختم المقطع أو قُل الفقرة ذاتها باستبعاد المفردة " المطر " وحلَ مكانها التي تفضي الى الكثير من التحليل من " حُلم حب , ميل وشروق " ربما استمر المطر بالهطول حتى بزوغ الشمس " الشروق " أوضح ذلك من الوقت الذي يعنيه .
اجمالاَ يمتلك " بريفير " حساً رومانسياً في التوظيف مع ذوبانه في السوريالية حيناً آخر .. له مؤلفات تفي بهذا الغرض منها :" كلمات -1946 \ حكايات 1947 \ مشاهد \1951 " *..7وغيرها ..المهم له اسلوب سهل وسلس في التعاطي في بساطة اللغة التي هي اقرب الى العفوية ،ابن الشارع نصوصه سردية ووصفية يلتقطها من اليومي ، كأن تكون محاورة بين شخصين " هو والآخر " بلقاء بألفة بمناورة حتى يكمل المشهد . فقصائده تشبه لقطات ملصوقة على صيغة " كولاج " وهو البارع في هذا الفن :" قصائد بريفير تشع من أغوارها ضياء المخفي المبني على ايهامات " *8 هي مشهدية حياته تصويرياً ، فهذه علته في التوظيف معتمدا على خبايا وخفايا ملموسة رغم اختبائها بين طيات المتن النصي . وهذا تجده في اكثر نصوصه المقروءة يدخل في التفاصيل الزمنية من " سنة وشهر ويوم " وغيرها من مكملات نفسه الشعري بالتزامن مع الوقت الذي يرصده : " كتاباته مجرد يوميات أو مواقف ذاتية "٩ نعم يلتقطها من الشارع كـ لُقى ، ثم يعطيها الروح بحس انساني "، وهذا في أكثر نصوصه التي نقرأ.
الهوامش :
1- جاك بريفير ، قصائد مختارة ، ترجمة سامي مهدي ، دار المأمون للترجمة والنشر ، بغداد ،ط 1 ، 1988 .
2- قصيدة لـجاك بريفير .
3- لورنس فرلنغيتي ، مقدمة سامي مهدي ، قصائد مختارة .
4- جاك بريفير ، قصيدة أغنية المطر، ترجمة سامي مهدي .
5- المصدر نفسه .
6- المصدر نفسه .
7- كتاب الشعر الفرنسي الحديث ، بول شاؤول " 1900- 1980 " ، دار الطليعة – بيروت ، ط1 ، تشرين الثاني ، 1980 ،
8- المصدر نفسه في 4 .
9- صحيفة البيان الالكترونية ، 23-5-2010 .
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
...........................
الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-
او تحميل تطبيق نخيل
للأندرويد على الرابط التالي
لاجهزة الايفون
او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي