loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

( المومس العميــــــــــــــاء ) بدر شاكر السيــــــاب دراسة أسلوبية

breakLine
2022-12-21


عمر السراي/شاعر عراقي

خاص بأسبوع السياب الثقافي


أولا :                                  
- لقطة عامة : ( قالوا سنهرب ُ .. ثم لاذوا بالقبور من القبور ) 
                   السياب                                                                                                                                                  لم يعد ُ السياب مادة ً بكرا للتاريخ , فحياته التي انعكست على قصيدته حولت بوصلة الدراسة عنه إلى صفات ٍ تبادرك لحظة التقائك بشبيه له في الخلق , فسيابية المظهر – لو صح التعبير – صارت قوة ً جاذبة نحوها بعيدا عن سيابية النص الذي يبادرك لحظة الخلوة عن المظهر , أو لحظة عدم معرفة منك وأنت تستقرئ نصا لا تعرفه , على أمل أن يعرفك هو من خلال ما يعتريه من التزامات تقوده نحو تشكيل سمة أولى لديك . 
وإذ نعترف ُ بضرورة ما قامت به البحوث التي دارت حول شخصية السياب و تاريخه الشخصي وتحولاته الاجتماعية والفكرية و الأمراض التي أحاقت به , وضرورة المنازعات التي قامت بينه وبين مجايليه في إثبات ريادة قصيدة الشعر الحر أو بينه وبين من دخلوا لطرح الرأي في هذه المسألة الشائكة , إلا أننا لا نتوقف عند هذه المنطقة , فالسياب بغض النظر عن كونه السياب المتجلي بجبة من الخصائص الفيزيائية والفكرية والمعرفية يحمل في مرآته التي تتكون من وجهين , وجها ثالثا ما زال قابلا للبحث والحفر والدراسة بصورة أعمق , فليس من الطبيعي أن نتوقف عند ما جادت به أقلام كإحسان عباس أو ريتا عوض أو ناجي علوش أو بشرى موسى أو حسن ناظم إلى آخرهم ممن نقشوا في المتن السيابي , بل من الطبيعي أن نواصل الحفر بصورة أعمق وباتجاهات أخرى , منطلقين من فداحة مضامين النص التي تسحبك دائما بوصفه نصا قابلا لإعطاء نفسه مرة أخرى دائما , ومن رجاحة ما جادت به الأفكار الجيدة من نظريات و مناهج لم تتوقف أبدا عن استقراء كل جديد ٍ , وكل قديم بصورة جديدة , لذلك كانت هذه الدراسة التي تحاول أن تكوِّن مقتربا أكثر نهما في متن التجربة السيابية ,

 

ثانيا :                             
- لقطة موضوعية : ( وكأنها نذر ٌ تبشر ُ أهل َ بابل َ بالحريق )
                               السياب

  ليس ملوما – وأعني بوفون – حين أشار بأن الأسلوبية هي الإنسان نفسه , فقد كان ينطلق من أريحية أدبية تكتنفه , وتسمح لمارسيل بروست أن يعد َّ الأسلوب شبيها للون في اللوحة .
كل ذلك بإمكانه أن يحيلنا إلى مرجعية فكرية تقرع ذهن الإنسان اعتباطا للوهلة الأولى , إلا أن ما يمكننا أن نقر َّ به ثباتا هو ما جادت به النظريات عبر التاريخ وهي تتحدث عن الأسلوب والأسلوبية , فلو تركنا الجاحظ ومعانيه المطروحة في الطريق ( 1 ) , و غادرنا اشتراطات المرزوقي لعمود الشعر ( 2 ) , وتوقفنا قليلا عند الجرجاني في دلائل الإعجاز , وهو يتكلم عن وضع الكلام حسب ما تقتضيه اشتراطات النحو وقوانينه وأن يعلق الكلام بعضه ببعض وأن يجعل بعضه سببا لبعضه إلى ما جاءت به هذه النظرية ( 3 ) . نرى ما يمكننا أن نجعله جذرا قديما لكل عمل ٍ أسلوبي مباشر نقوم به .
إلا أن أشد ما يتعلق بالدراسة الأسلوبية ما ذكره الجرجاني في ذات كتابه ( دلائل الإعجاز ) حين قال : " ثم إنك تحتاج ُ إلى أن تستقرئ عدة قصائد , بل أن تفلــِّــي ديوانا من الشعر , حتى تجمع منه عدة أبيات " ( 4 ) , والحديث هنا عما ساقه من نماذج حسن فيها النظم فناقشها في كتابه , وهو ما يشير إلى نظرة البلاغة العربية  المقتصرة على مستوى البيت الواحد من الديوان أو القصيدة مدارا لدراستها , إلا أن ملامح الوعي بالأسلوب المرتبط بالمعاني عند الجرجاني جاء موافقا لقوله : " إنما سبيل ُ هذه المعاني سبيل ُ الأصباغ التي تعمل منها الصور والنقوش " ( 5 ) . فوجود الأصباغ في بنية العمل الأدبي يجعل الباحث يدرك أن ثمة وعيا يتجلى في وجود مفهوم عام مشترك بإمكانه أن يطل محتويا النص بصورة كاملة , وإن لم تتوسع الفكرة وظلت على عموميتها عربيا .
إن ثورة الدراسات اللسانية التي بادر بها الشكلانيون الروس في حلقاتهم اللغوية إلى ( سوسير ) الذي قعــَّــد علما خاصا للنص اللغوي , حصــَّــنه من الوقوع في الفخاخ الصديقة للانطباع والتاريخ و الاجتماع وعلم النفس , منحت الدراسة أفقا جديدا للبحث داخل متن اللغة التي هي جسد العمل الأدبي , والملاذ الوحيد الذي يقي الدراسة من الوقوع في إيديولوجيا الزمن .
إن نقطة التحول لا تكمن في عزل الدراسة الأدبية عبر بوابة النقد من العلوم المجاورة له , قدر ما تكمن في تنامي الوعي المعرفي الذي يخرج اللغة من كونها مجموعة من العلوم القديمة التي تهتم بشكل المفردة و صوتها ومعناها المعجمي , ووجودها داخل جسد نحوي مهيأ للقاعدة , إلى اعتبار اللغة جسدا للتواصل الاجتماعي . والتواصل الأدبي بمنحاه الجمالي جزء من هذا التواصل الخلاق .
ومن هنا لا بد َّ لنا أن ننطلق من ( شارل بالي ) بوصفه المؤسس الحقيقي لعلم الأسلوب من إثراءات علم اللسانيات لأستاذه ( سوسير ) حيث يضع تعريفه للأسلوبية : " هو العلم الذي يدرس وقائع التعبير اللغوي من ناحية محتواها العاطفي , و التعبير عن واقع الحساسية الشعورية من خلال اللغة , و واقع اللغة عبر هذه الحساسية " ( 6 ) . فالمنطلق كان من الحمولة العاطفية للغة باعتبارها دالا على تواصل اجتماعي لأفكار تتجسد بهيئة رموز لها مدلولات عاطفية تأثيرية بالسامع , وهذا الأسلوب الذي نادى به ( شارل بالي ) ظل فرديا ينطلق من الاستعمال الخاص للمتكلم وإن مثـــــــــــَّـــــل هذا المتكلم شريحة ً اجتماعية ً محيطة ً به , فالمتكلم يحاول أن يترجم ذاتية أفكاره من خلال استعماله اليومي للغة , وعلم الأسلوب لا يتدخل إلا حين يمس الكلام شريحة ً اجتماعية معينة و وسطا معنيا ً في الحياة . ( 7 ) من ذلك نرى أن الأسلوبية عند بالي لم تتخل َّ عن الاهتمام بالقارئ أو السامع , لذلك كان ( جيراو ) وهو يسير على نفس خطى ( بالي ) مهتما بدراسة التعابير اللغوية وما تكون وفقه من اختلاف الأعمار والاجناس و اللهجات والطبقات والطوائف الاجتماعية و العصور والأمكنة . ( 8 ) 
لم يلتفت ( شارل بالي ) إلى اللغة الأدبية لأنها – حسبه – نتاج تراكمات قديمة للغة مترسخة من استعمالات سابقة , وهي – اللغة الأدبية – وإن مثلت شريحة ً مهمة إلا أنها لا تمتلك من العفوية ما يؤهلها للدراسة وفق ما أراده بالي من دراسة للتعابير غير المتداخلة مع قصدية التكلم .( 9 )  فظلت أسلوبية بالي وصفية ً تعبيرية فردية بعيدة ً عن النص الأدبي وهو ما لا نريده من دراستنا هذه قدر ما نفيد منها في مواضع عدة .
( كروتشه ) و ( فوسلير ) لم يقفا عند الحدود التي وضعها بالي , بل انطلقا نحو النص الأدبي باعتبار اللغة فنا يصل ذروته في العمل الأدبي حسب الأول , و باعتبار أن علم الأسلوب يمثل المجال اللغوي كإبداع , وعلم اللغة يمثل المجال اللغوي كتطور وتاريخ , حسب الثاني . ( 10 )
أما سبتزر فقد انطلق من سؤاله : ( هل نستطيع أن نتعرف على كاتب معين من خلال لغته الخاصة ؟ ) ليصنع جسره الذي ربط به بين علم اللسانيات و تاريخ الأدب , فالنص الأدبي هو الوثيقة الأسمى التي تكشف روح الشعب عبر العصور , فالأدب ليس سوى لغة كما كتبها أعظم كتابه ( 11 ) , ليعيد إلى الأذهان ما جاء به ( بوفون ) و ( مارسيل بروست ) , وفي طرف آخر نقول أن ما جاء به الجرجاني كان – ولابد - حاضرا ليس في ذهن ( سبتزر ) في اكتشافه هذا قدر ما كان حاضرا في ذهن التطور المنطقي للحياة النقدية عبر الزمن .
( سبتزر ) في بحثه عن الجذر النفسي في السمات الأسلوبية , وبإقراره أن الأسلوبية تبدأ باللغة وتنتهي بالمؤلف , وبانطلاقه الحدسي لدراسة النصوص , و دورته من سطح النص إلى مركزه . ( 12 ) , صنع أسلوبيته التكوينية التي تمثل مقتربا من دراستنا هذه كما سيظهر في قابل المباحث.
إلا أن ( ريفارتير ) يفتح مستوى جديدا من الدراسة الأسلوبية يشكل مقتربا جديدا بين النص وزاوية تلقيه , فتعريفه الذي جاء به : " الأسلوب الأدبي هو كل شكل ثابت فردي ذي مقصدية أدبية "( 13 ) يشير إلى علاقة النص الأدبي ومكوناته اللغوية التي تمنحه الشكل الأسلوبي وعلاقته بالقارئ الذي يستله نموذجيا وفق ضوابط تبعده عن إطلاق الحكم القيمي المنفرد للخروج إلى منطقة نفيد بها من حكم التاريخ المتتابع الذي تمثله مجموعة من القراءات التي لا تجمع بين الاختيار والحكم . " فموضوع تحليل الأسلوب هو الوهم الذي يخلقه النص في ذهن القارئ , وهذا الوهم ليس بالطبع خيالا ً خالصا ولا تصورا مجانيا , فهو مشروط ببنيات النص وميثولوجية و ايديولوجية الجيل أو الطبقة الاجتماعية للقارئ " ( 14 )  وفي دراستنا هذه لن نتمسك بعلاقة النص بالقارئ وفق ما جاء به ريفارتير , بل سنحاول الإفادة من بعض الطروحات الإثرائية للتوصل إلى معنى ننشده من داخل النص ومستوى تأثيره , بل لن نتجول كثيرا مع ما طرحه ( ياكوبسن ) , و اهتمامه بالقوانين التي تجعل من النص الأدبي نصا أدبيا , من خلال الإجابة عن تساؤله : " ما الذي يجعل من رسالة ٍ لفظية أثرا فنيا ؟ " ( 15 )  ودراسته للعلاقات التعبيرية بين المرسل , والرسالة , والمرسل إليه , والسياق , والقناة , والسنن , إنفعالا , وشعرية ً , و إفهاما , و مرجعا , وحفظا , وميتالسانية ً , ومن اشتغالات في مجال التوازي و إسقاط المثال , وغيرها , مما أرسى قواعد ما سمي بــ ( الشعرية ) أو ( الأدبية ) . ( 16 ) 
إن سبب عدم إيغال الدراسة في مناهج ريفارتير وياكوبسن يجيء موازيا لرغبة الدراسة في أن تقتصر على دراسة أسلوبية لا ( شعرية ) , وأن تدور ضمن فلك النص كبنية لغوية ذات تعبير جمالي خاص , دون الالتفات إلى المتلقي لكي لا ننفتح نحو نظريات أكثر شمولا في دراسة ضيقة , إلا أن ذلك لا يعني عدم استلهام خطى هذه الاشتغالات وغيرها من الاشتغالات القديمة كالبلاغية , والحديثة كدراسات ما بعد الحداثة للإفادة منها في حيز التحليل , واضعين أمامنا ما جاء على لسان ( انكفست ) : " إن دراسة الأسلوب ينبغي أن لا تتقيد بالملاحظات الفونولوجية أو المورفولوجية أو المعجمية أو التركيبية : ينبغي أن تبنى دراسة الأسلوب على مستويات مختلفة وإلا فإن الأسلوب يتحول إلى فرع ثانوي فحسب لطور ٍ من الاطوار المؤسسة للتحليل اللساني " ( 17 )  , وما جاء به صلاح فضل , وهو يفرق بين منحيين للدراسات الأسلوبية : 
" 1 .  الأسلوب شيء مشترك يربط بين ظواهر متعددة , ومن هنا تكون الخصائص الأسلوبية مشتركة بين مجموعة من النصوص مما يؤدي إلى عد ِّ الأسلوب نظاما له شكله المتماسك .
2 . الأسلوب شيء ٌ خاص , وتكون الخواص الأسلوبية بمثابة السمات المميزة لنص ٍ معين , وضمن هذا التصور يدرس أسلوب الكاتب بوصفه تركيبا من بعض الخصائص الأسلوبية ."( 18 ) 
فمن ذلك يكون التصور الأول – و الكلام للدكتور صلاح فضل – ذا طابع استنتاجي يتجه من النظام الكامن في النص إلى النص نفسه , ويكون التصور الثاني ذا طابع استقرائي تحليلي يتجه من النص لتشكيل النظام الخاص به , وهذا ما سوف نوضحه في كيفية تعاملنا مع السياب في ( المومس العمياء ) في المبحث التالي .

ثالثا :
- لقطة متوسطة للقصيدة  ( قابيل أخف ِ دم َ الجريمة بالأزاهر والشفوف )
                                               السياب

شفيعنا في هذه الدراسة أن ( المومس العمياء ) للسياب , وإن جمعت في المجموعة الكاملة ضمن مجموعة ( أنشودة المطر ) , إلا أنها وبما تمثله مع قصائد تشابهها طولا و اشتغالا , لا تنتمي كبنية عامة لقصائد المجموعة المرافقة لها , فحسن ناظم لم يدرسها ضمن المجموعة , و غيره من الدارسين تعاملوا معها من زاويتين :
1 . اعتبارها نموذجا عاما يــُــقتنص ُ منه ما يراد ُ للدرس ضمن دراسة أعم .
2 . اعتبارها شريحة خاصة مع مماثلاتها تضيع الدراسة فيها في ضمن القناع والرمز و طول وسيط العرض .
أما ( المومس العمياء ) كبنية خاصة للدراسة , تمثل رؤية ً خاصة بها , وتصرفا واسعا للسياب هو ما سوف تطلع به هذه الدراسة . ومن هذا المنطلق سنحاول أن نوزع البؤر المكونة لهذه القصيدة على أقسام تشترك ضمن إطار ٍ مشابه ٍ عام , ونحلل كل بؤرة وما دار حولها لنجمع ما تفضي به الدراسة إلى نتائج عامة , ستحاول أن تشير بإحصائية دون الإيغال في لغة الأرقام كثيرا قدر الاعتماد على ملمح ما , تكرر منها مشكلا ً ظاهرة أسلوبية للنص . 
وبهذا سندخل إلى عوالم النص من خلال مسح متعدد أفضى بنا إلى طرح فرضية تأسيسية , تنظر إلى النص كنص ٍّ يمثل ( العقم المطلق ) , الذي جاء متواشجا مع عدة بنيات حكائية وزمنية داخل النص البولي فوني , ليظهر هذا العقم المطلق ضمن أربع علاقات داخلية تنتأ في رحابه وهي :
1 . علاقة المومس و المدينة .
2 , علاقة المومس و الماضي .
3 . علاقة المومس والحاضر .
4 . علاقة المومس والآخر .
وسيكون مجال البحث معتمدا على التقسيمات المتبعة في الدراسات الأسلوبية , بمستوياتها الصوتية والتركيبية والدلالية , إلا أن التمحيص سيكون في كل مستوى وفق العلاقات الأربع المذكورة سابقا , للتوصل إلى صحة فرضية تواجد العقم ضمن المستوى العام ( صوتي – تركيبي – دلالي ) , من خلال تواجده ضمن العلاقة الداخلية .

رابعا :
- لقطة قريبة :  ( يا أنت َ يا أحد السكارى ..
                          يا من يريد من البغايا ..
                                ما يريد من العذارى )
                                        السياب

1 . كلاكيت صوتي

      النص يلتزم تفعيلة بحر الكامل ( متفاعلن ) لبناء الأشطر فيه , وبحر الكامل من البحور الشعرية التي تستوعب – ضمن تفاصيلها الصوتية – المشاعر العاطفية القادرة على إيصال أفكار ٍ أكبر من خلال انسيابيته الوزنية المعروفة , فضلا عن أنه ينتمي إلى البحور الشعرية المتشابهة التفعيلات , والتي تتيح للنص تصرفا واسعا في التكرار الوزني المتراتب ضمن إطار البحر الواحد , و يعتري تفعيلة بحر الكامل الخبن فيخرج إلى أن تكون التفعيلة هي ( متــْــفاعلن ) و هي الشبيهة بالتقسيم الصوتي لتفعيلة ( مستفعلن ) التي هي قوام بحر الرجز , ومن تفحص للتفعيلات نلاحظ أن النص اعتمد على تفعيلة ( مستفعلن ) أكثر من اعتماده على تفعيلة ( متفاعلن ) ذات المتحركات الثلاثة والسكون فالمتحركين والسكون , ليمنح النص تراقصا رجزيا أكثر موسيقى , ونعرف أن بحر الرجز يستخدم في الحروب وحين الطراد , فالقصيدة قصيدة طراد , لكن ليس بدلالته البدوية قدر ما هو طراد ٌ وحرب ٌ بين الفكرة التي تصنع من المدينة عنصرا ً مضادا يستحق الكر والفر صوتيا . الكر والفر بين المدينة والمومس , وبين المدينة والآخرين , بين المدينة والزمان , ماضيا أو حاضرا , و اعتماد المجزوء المذيــَّــل الذي يضيف مقطعا متكونا ً من متحرك وساكن إلى أواخر الأشطر , يمنح النص معركة أخرى تكرر ذات المتحرك والساكن الذي تبتدئ به التفيلات لتعيد سلسلة المعركة في أواخر الأشطر , و هو ما يؤدي إلى دلالة العقم المتفشية بين الأشياء , فالحرب عقم , والعلاقة بين المدينة والمومس علاقة عقم عبر الصوت الذي يتصارع بين ( المدينة ) و ( الحزينة ) و ( الجديد ) و ( العبيد ) الذين هم عقيمو الوجود أزاء كل الثوابت داخل النص .
وفي دائرة علاقة المومس بالآخر , تتواصل الأصوات المتكررة في كلماتها ( العابرون ) و ( سؤال ) و ( الأضواء ) و ( ياسمين ) و ( الرجال ) و ( السكارى ) و ( البغايا ) , وكل هذه الأصوات المكررة تؤكد على معناها الذي يصنع من تواجدها الدائم سمعيا وبصريا فكرة بتركيز صوتي خاص , و المقابلة متواترة في النص , بين الصباح و الليل , و الضياء والظلام , والليل و النهار , والضرير والمبصرون , وفي كافة مستوياتها الداخلية والزمنية .
ففي الماضي والحاضر تشيع الأصوات المشبعة في الغربة ( الهاء ) التي تكررت كخاتمة للقافية بعد حروف الروي ( صباها ) و ( جناه ) و ( أتاه ) و ( أخاه ) و ( أباها ) , لتكسب النص سمة الهمس الخائف و الامتداد في بث شكوى العاجز أزاء قوى قدرية الطاقة والتأثير , كما أن اعتماد عدة قوافي مطلقة بالألف عمق من إحساس الشكوى والعجز أيضا فــ ( السكارى ) و ( الصحارى ) و ( المحارا ) و ( البغايا ) و( الخطايا ) .
( النون ) , ( الهمزة ) و ( الراء ) .. هذه الحروف أخذت حصة ً كبيرة من حروف الروي التي انتشرت على ضفاف القصيدة , وتشكلت في عدة صفات صوتية , فمنها ما جاء مسبوقا بحرف لين يحمل الضم في سمته مثل ( قبور ) , ( العابرون ) , ومنها ما جاء مطلقا مع الألف ( المحارا ) , والتزمت الهمزة بأنها جاءت بعد المد ( السماء ) , وعند تقربنا من هذه الحروف , فنرى أن ( النون ) التي تكررت لأكثر من ( 96 ) مرة في القافية من أصل ( 450 ) شطرا في النص , أي أنها اقتربت من نسبة ( 20 % ) من عدد القوافي , نرى أن النون حرف ٌ انفجاري متوسط ٌ بين الرخاوة وبين الشدة , يحمل أنينا اهتزازيا ينقل مشاعر إيقاعية قريبة من أجواء الضياع المشوب بالحزن , والهمزة التي تكررت أكثر من ( 67 ) مرة , وهي حرف لين , أو حرف مزماري كما يشير دكتور أنيس منصور , حيث لا تحتاج من الدفع إلا القليل وتنقل مشاعر الألم والشكوى في تفاصيلها , و ( الراء ) , الحرف التكراري المجهور والمتكرر بصفته الناقلة للقلق والشدة .. مما يشير ُ إلى تواشج الألم والغربة والشكوى والتكرار الدائم والجهر بهذه المشاعر في حروف روي النص , وهو ما يبث ُّ معه دلالات العقم المتولد في أفكار أسلوب الكتابة في هذا النص .. ولم يأت ِ حرف الراء في القافية فقط بل قلما نجد شطرا من النص خلا من هذا الحرف , مما أكسب النص بعدا تكراريا في ذات دوامة الصراع الذي بيناه .
تتوازى الأفكار في مقاطع القصيدة , ففكرة الليل وإطباقه وهيمنته تتوازى مع فكرة إطباق المحتلين والغازين و القادمين من وراء الحدود , وفكرة الأب الذي يقتل ُ لذنب لم يقترفه تتوازى مع فكرة المومس التي تهجر وتجوع لذنب ليست هي سببه , وفكرة هيمنة الأرواح الأسطورية وفكرة المال الذي هو شيطان المدينة وقدرها المحتوم , وفكرة البغايا المحيطات بالمومس والمستغلات لعماها وفكرة ( فاوست ) المراهن على أجساد البشر , وفكرة براءة المومس في طفولتها وموتها بانتقالها إلى البغاء وفكرة ابنتها التي ماتت طفلة وانتقلت إلى التراب , وفكرة المال المضاع عبر اشتعال المصباح , وفكرة العمر المضاع الذي يمر وتنتظر المومس يوما آخر , وكل ذلك في ثنائية من الذات والآخر والمدينة والمومس والماضي والحاضر , وفي علاقات لا تكون متضادة , إنما هي علاقات سببية تعليلية فيما بينها لا تلتقي إلا بخيط خفي يجمعها كلها في ظل فكرة ٍ عقيمة ٍ لا تؤدي إلى نتيجة , فلا فاوست أفضى إلى الهيمنة على روح البشر ولا المصباح أضيء دون زيت يتبدد ولا المومس استقبلت زبونا جديدا , ولا أي شيء سوى فكرة مثقوبة النهاية دون مبرر . ولن نتوقف عند هذا الحد في استقراء الصوت في النص , فالنص ُّ وإن كان غير ملزم ٍ بالتقفية كونه من شعر التفعيلة , إلا أن وجود نظام من الحروف المتتالية في القافية يشير ُ إلى عدم رغبة في الخلاص المطبق من القيد , أو رغبة في استلال قيد يوحي بحرية مجتزأة داخل أطر من الالتزام , فقد كانت القافية تتمسك بالروي حتى تستنفد طاقته الصوتية من الخزين الآني للكلمات , لتكسر الإطار بتلوين صوتي بسيط لتتم إقفال الاستخدام برجوع للروي الأول , أو التمهيد لروي جديد ثم العودة للروي القديم ثم مباشرة الأفكار بالروي الممــَّــهد له :
( فتقف ُ من فزع وتحجب ُ مقلتيها بالغطاء
ويعود والغبش الحزين يرش بالطل المضاء
سعف النخيل يعود من سهر يئن ومن عياء
كالغيمة اعتصرت قواها في القفار وترتجيها
عبر التلال قوى تجوع لكي ينام إلى المساء
......................................ــــــاء
....................................ـــــــــاء
وعيون زان يشتهيها كالجحيم يشع فيها )
ولأن القصيدة طويلة , والمرجح أنها كتبت في فترة طويلة , منطلقين من نتوء أفكار لا تتعلق بسياق الحديث حسبما يظهر . إلا أن ما يخصنا في جانب الصوت هو الرجوع لاستثمار ذات القافية وبنفس التركيب الصوتي بعد فترة من المسافة الشعرية . ففي بداية النص وفي السطر العاشر ترد القافية برويها ( الهمزة ) , وتنقطع لتظهر الهمزة بعد ما يزيد عن ثلاثين سطرا , ثم تعود لتظهر بعد عشرين سطر , ثم لتظهر بعد ما يزيد عن خمس وثلاثين سطرا . كل ذلك كان يتكرر , بين آونة وأخرى , وبتركيب متشابه صرفيا , ويصدق القول على قواف ٍ أخرى . والفكرة التي أريد إيصالها هنا هو أن تلون الروي واستنفاد طاقته ثم العودة إليه بعد شحن القصيدة صوتيا بعدة حروف روي , يظل ملمحا في القصيدة ودليلا على الدائرة التي تدور فيها المعاني والدلالات وبلا طائل , لتوليد معنى الفراغ الممتلئ بفراغ أوسع حيث لا يظل من اللب سوى الاستمرار في استيجاد حقائب اخرى داخل كل حقيبة مقفلة .

 


2 . كلاكيت تركيبي

منذ عتبة النص , والمعارف تنتاب القصيدة فــ ( المومس العمياء ) معرفتان تعززان وجودهما بــ ( الليل ) , ( المدينة ) , ( العابرون ) , ( الأضلع ) , ( الطريق ) , ( الرجال ) , .... الخ . فكل ما يجري داخل إطار النص معروف من خلال ثبات المعارف الموزعة على جغرافية النص , كما هي العلاقة بين المومس والمدينة والماضي والحاضر والآخرين معروفة , و كثرة الجمل الاسمية التي ظهرت في النص , تدل على ثبات المعاني المساقة والتأكد من الدلالات الخفية والواضحة في فكرة النص , ولعل َّ أبرز ما يظهر بعد استقراء النص على مستوى التركيب هو كثرة ورود تقديم أشباه الجمل على الفاعل والمفعول به وعلى الفعل أيضا :
( وتفتحت كأزاهر الدفلى مصابيح الطريق )
( تطفو عليهن البغايا كالفراشات العطاش )
( ستمص ُّ من ذاك المحيا كل َّ ماء ٍ للحياء )
( جارت على الأثمان وفرة ُ ما لديه من العبيد )
( هو خلف ذاك التل يحصد ) 
ولعلنا سنخلص من الإجراءات الكثيرة لو انهينا القول بأن النص موزون وتقديم فضلات الجمل يأتي لمواءمة القافية , لإتمام الشرط الذي التزم به النص عادة بوجود تقفية يعتمدها , لكن لنقف قليلا لتحليل مقطع من القصيدة ونلمح ما يجري داخل التركيب :
( ما كان يعلم أن ألف فم ٍ كبئر ٍ دون ماء
ستمص من ذاك المحيا كل َّ ماء ٍ للحياء
حتى يجف َّ على العظام – وأن عارا كالوباء
يصم الجبين فليس تغسل منه إلا بالدماء 
سيحل ُّ من ذاك الجبين به ويلحق بالبنين -
والساعدين الأبيضين , كما تنور في السهول
تفاحة عذراء , سوف يطوقان مع السنين 
كالحيتين خصور َ آلاف الرجال )
تقديم ( كبئر دون ماء ) على خبر ( إن ) الذي هو ( ( ستمص ُّ ) , و تقديم ( من ذاك المحيا ) على المفعول به ( كل َّ ماء ٍ ) , و تقديم ( كالوباء ) على خبر ( إن ) ( يصم ) , وتقديم ( في السهول ) على الفاعل ( تفاحة ٌ ) , وتقديم ( مع السنين , كالحيتين ) على المفعول به ( خصور ) . كل هذه التقديمات لأشباه الجمل إنما جاءت لتدل على الاهتمام بما تحمله من معنى أكثر من أصول الجملة من فواعل أو مفعولات , فالبئر الذي دون ماء أهم من الإخبار بالامتصاص فالمعنى يدل على ما سيجري , والمحيا أهم من ( كل ماء ) , وموقع التفاحة بالسهول أهم من أن تكون منوَّرة , ودلالة الظرف ( مع السنين ) و ( كالحيتين ) , مما لهما من تدرج في الفعل أهم من الخصور . ومن هذه التقديمات في الجار والمجرور والظروف نجد ما يشكل سمة في ناحية التركيب .
ترد في النص ( 31 ) جملة معترضة لسياق التركيب , وهو عدد – وإن كانت القصيدة طويلة – كبير , وشكل ملمحا يقود النص لإثارة التعقيبات في كل نقطة , فالجمل هذه لو كانت قصيرة لكان الرأي في أنها اعتراض خاطف في نقطة عابرة , لكن الجمل تتحول إلى إطالة واضحة تحمل قصة وموقفا , وكأنك تقرأ في متن يحكي و اعتراض يحكي , ففي النص المتمثل به أعلاه الجملة الاعتراضية كانت ( وأن عارا كالوباء يصم الجباه فليس تغسل ُ منه إلا بالدماء ) وهو اعتراض قد ينسيك ما قبله وما بعده لكثرة ما حمله بما يليق بمتن لا باعتراض , وغيره كثير , حتى ليثير اللبس في مناطق أخرى تحتاج فيها لتمحيص أكثر , وهذا دلالة عقم المتن في التعبير عن المراد والاستعانة بالهامش المعترض الذي يحاول أن يفض َّ سلسلة العقم بلا جدوى . 
( باكيات ) , ( قهقهات ) , ( العابرون ) , ( مصابيح ) , ( الظالمين ) , ( البغايا ) , ( زبائن ) , ( حواضن ) ,,,,, الخ , كلها تشير إلى الجموع , سواء أكان مذكرا أو مؤنثا جمعا أو تكسيرا , المهم أن النص احتفل بالمجموع أكثر من احتفاله بالفرد , فهو لسان عن ظاهرة لا تمثل شخصا بعينه وإن كانت المومس واحدة , لكن رفيقاتها كثر , و ( صباح ) , ( وياسمين ) , و( سليمة ) , مجموعة وليس فتاة واحدة , والعابرون كثر , والشهوات أكثر , والظلام أشد سطوعا , وهكذا تستمر القصيدة في منحاها الجمعي مشكلة دلالة سقوط الجميع , بصورة شخصية أو بعلاقاتهم مع الأشياء , فالشيخ متهم , والفتاة غريرة , والمومس مهجورة , والطفلة باكية , والقلوب متحجرة , كل ذلك سقوط عام وعقم لمفردات تسوق أجواءها الكهفية معها في مغارة لا تفضي لبداية جديدة , وحتى الطفل ( ما شاء الله ) وإن حمل بوادر أمل معه لكنه ( الطفل شاب وسورها هي مايزال كما رآه ) .

( لم َ يعرض الزانون عنها وحدها ؟ لم يعرضون ؟ )
( لم َ تستباح ؟ وتستباح على الطوى , لم تستباح ؟ )
يحمل الاستفهام الاستنكاري طريقا له داخل النص , و يشير في أكثر من موقع , استفهاما مباشرا أو إنكاريا , لكن ما يلفت النظر أن النص يؤكد الاستفهام دائما بتكراره كما يظهر في المثال أعلاه , أو في ( من أي عش ) , ( من أي غاب ٍ ) , ( من أي وجر ٍ ) أو في ( ماذا تريد ؟ وعم َّ تبحث ُ في الوجوه ) في معان ٍ أخرى , لكن سياق الاستفهام لم يأت منفردا وكان كثيرا ما يجيء موشحا بجوقة استفهامات لا تؤدي إلا لاستنكار ٍ أو لا دليل على زوال ما يــُــستفهم ُ عنه في الدائرة الواحدة . 
تشيع في تفاصيل النص الأفعال المضارعة , فالنص وغن كان متداخل الأزمنة إلا أن محتواه ودلالته تشير إلى الحاضر أكثر والاستقبال في أحايين كثيرة , حتى حين يتكلم النص عن أحداث يسردها في الماضي يظل فعل المضارعة أكثر هيمنة من المضي أو الأمر :
( وتظل تهمس ُ , إذ تكاد ُ يداه ُ أن تتلقفاها :
أبت أغثني بيد أنك لا تصيخ إلى النداء
لو كنت َ من عرق الجبين ترشها ومن الدماء
وتحيلها امرأة بحق ٍّ , لا متاعا للشراء )
سبعة أفعال مضارعة في مقطع ٍ صغير يتحدث عن المومس والماضي ( طفولتها ) , وهذا ما يشير ُ إلى هيمنة لفكرة ستظل عقيمة لأن ما جرى في الماضي كانت يمهد لاستقبال ما سيجري , وما يجري يمهد لاستقبال منظومة عقيمة قادمة .
3 . كلاكيت دلالي

( كأن ) , ( الكاف ) , ( مثل ) , مجموعة من أدوات التشبيه التي تكرر ت في النص لأكثر من ( 80 ) مرة ً , وهي وإن اختلفت بعض دلالاتها تعد مؤشرا واضحا على هيمنة التشبيه الذي يطغى على النص , وخصوصا باستعمال الكاف في هذا النص :
( وتفتــَّــحت كأزاهر الدفلى مصابيح الطريق )
( العابرون إلى القرارة مثل أغنية حزينة )
( كأنها نذر ٌ تبشر أهل بابل بالحريق )
بل يستمر الأمر ليكون التشبيه قواما كاملا للفكرة التي يريد النص إيصالها , فعند ممايزة المومس والفخر بنسبها وتفضيلها كونها تمثل دماء العروبة , عند رسم هذه الفكرة كان لا بد للنص أن يشير إلى المومس بالأوصاف الحسنة , وكان الطريق لبناء الفكرة هو التشبيه :
( كالقمح ِ لونك يا ابنة العرب 
كالفجر بين عرائش العنب
أو كالفرات على ملامحه .... )
فتتابع ثلاثة تشبيهات لمشبه ٍ واحد وبأدوات ثلاث , يرسم صورة الفكرة الأعم والأشمل , وهي صورة مدحية بجبة ٍ جديدة .
كان العرب ببلاغتهم القديمة يميلون إلى التشبيه كثيرا لإيراد معان ٍ تميزهم عن غيرهم قولا , و اهتم علماء البلاغة برصف تنويعات ومصطلحات لهذا الفن البياني , أما الاستعارة بوصفها تشبيه ٌ ســُــكت َ عن أحد طرفيه , فهي ملمح ٌ أكثر تطورا في الاستعمال , يتطور ليتحول إلى كناية تدل ُّ من خلال تكثيفها , وكناية العصر الذي رافق النص – كما يبدو – هو استخدام الرمز , باعتبار الرمز هو تكثيف ٌ لتكثيف المعاني واختزال لما يجري من صور داخلية تقود المتلقي إلى تحليل ما يصله ُ إلى معانٍ أولى تنهض من بين ركام المفردة الجديدة , والنص حافل باستخدام الرمز , والرمز هو الرمز الأسطوري الذي استند إلى التاريخ , الرمز الذي يبني صورة ً لما يجري , ولا يطرأ عن نسج القصيدة , بل يعزز الأفكار التي تتوالد :
( ميدوزا ) , ( بابل ) , ( قابيل ) , ( اوديب ) , ( أبو العلاء المعري ) , ( أبو الهول ) , ( أفروديت ) , ( فاوست ) , ( هيلين ) , ( يأجوج ومأجوج ) , ( هابيل ) .... الخ , وهذه الرموز تحمل دلالة ما يحتويها من أفكار ٍ سعت لتكوين ما يعصف فيها من نهايات غير معروفة في ذواتها , فسؤال أبي الهول هو أحجية يسقط بها من يأتوه , وقابيل وهابيل مقتتلان ليخلفا بدمائهما بقايا البشرية , وفاوست متراهن وخاسر , في معادلة يخسر فيها البشر , وميدوزا يحجر الناس , وكيوبيد تلقي سهام الحب والموت في طريق العشق ..... الخ , وكل هذه الدلالات توصل فكرة النتيجة السالبة للهاث المسيطر على أنفاس النص , الذي يخلق مومسا هي الوطن نفسه الذي يحترق ولا يولد دفئا أو نارا .
انطباق ُ الليل في بداية النص , تشربه المدينة , فالليل هو الفاعل المستعلي من فوق على المدينة المفعول بها , و :
( للرداء يد ٌ , وللعبء الثقيل يد ٌ ) تجسيد ظاهر للأشياء التي يراها النص ممتلكة لخواص الإنسان , وهو استعارة متطورة من ملمح متقدم .
( الليل يطبق ) , ( المدينة تشرب ) , ( البيادر تفصد الموتى ) , ( أن تقذف المدن البعيدة ) , ( خطاه ُ مطرقة ) , ( الريح تئن ) , ( سعف النخيل يعود من سهر يئن ) , ( قرع الطبول يموت في الشفق المضاء ) , ( والشعر يلهث بالرغائب والطرواة ) , ( كان الفضاء يضيق عن سعة ) ...... الخ 
إنزياحات عن المعيار القاعدي للكلام الذي يؤدي معناه بصورة أبسط , لكن أسلوب النص جاء ليحمل كل ما أراد أن يوصله من أفكار عبر تقمص الأشياء الجامدة لملامح من يحيا , فالتشخيص الذي يمتلكه الليل وهو يطبق ككائن خرافي , والتشخيص الذي تشرب من خلاله المدينة لما يطبق من الليل , وسعف النخيل الذي يمشي ويعود ويئن حزنا وأملا , وقرع الطبول الذي يموت كالناس وينتهي إليه اجله , كل ذلك تقنية متبعة شاعت وترسخت في النص , بل صارت هي الملمح الذي لا تستقيم الأفكار إلا من خلاله .
النص حمل – فضلا عن حكائيته الممتزجة في العلاقات بين فواعله من مدينة ومومس و آخرين وماض ٍ مؤنسن , وحاضر ضاغط – حوارية تصنع المشاهد داخل البناء , فتوقف عجلة السرد زمنيا يقودنا لاستتار السارد العليم وراء شخصياته تاركا إدارة المشهد للدراما التي ظهرت في أكثر من موقع :
( وعيون فلاحين ترتجف المذلة في كواها 
والغمغمات : رآه يسرق , واختلاجات الشفاه 
يخزين ميتها فتصرخ : يا إلهي , يا إلهي 
: لو أن غير الشيخ , وانكفأت تشد على القتيل )
الحوار يدور حسبما ينقله الراوي بين المتجمعين أثناء حادثة السرقة و قتل الشيخ ( الأب ) , فصوت المتجمعين الماثل كغمغمات , وصوتها هي , وصوت مراقب بعيد , كل ذلك مشهد بياني يرسم صورة ما جرى من حادثة عبر الحوار ويوصل دلالة الموت المترتب في الماضي , والذي أصبح سببا للموت في الحاضر وفيما سياتي .
( إن كنت ِ لا تتجردين فلا نقود )
( لا تتركوني يا سكارى )
( خلني بيدي أراها )
( كيف هو الطلاء ؟
وكيف أبدو ؟
وردة , قمر ضياء )
( أنا زهرة المستنقعات أعب من وحل وطين )
( أنا قال بعض العابرين )
حوارات أخرى تمتاز عن أسلوب ركــَّــز عليه النص الذي حاول أن يكسر سلطة المتعال بنقل الأحداث من زاويته القصية , وينقل مسؤولية دفع ما يجري من تطورات بأن يتنازل عن السرد للشخصية الرئيسة ( المومس ) أو ربما ( للفلاحين في الحقول ) , أو ربما حتى بلسان التاريخ أو الإيديولوجيا المهيمنة في نفس النص .
ولأن الحديث عن مومس تعاني العمى , نرى أن ما يمكن أن يعززه النص هو رغبة متجذرة داخل نفس المومس وهي رغبة أن ترى , لذلك بنيت صور ٌ داخل النص على ترتسل حاسة اللمس لتنهض محل البصر , أو العيون التي لا تبصر وتكتفي بالهمس كظاهرة صوتية مستعارة لتشير إلى ضعف البصر أو قطعه أو خفضة لأبعد درجة :
( خلني بيدي أراها )
( وهي تهمس بالعيون )
( وتحسسته كأن باصرة ً تهم ولا تدور )
ولا استغراب , فالنص يشير منذ عتبته لفقدان حاسة مهمة من الحواس , فمن المؤكد أن التعويض عن الفقدان سيكون من خلال تنصيب حاسة أخرى محله , وإن كان بشار بن برد , الأكمه , استعاض عن بصره بالسمع : ( يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة .... الخ ) فإن المومس العمياء استعاضت باللمس عن فقدانها لبصرها , مما جر َّ نسبة الأفعال من العين إلى اليدين أو البشرة في أكثر من موقع , وكل ما جرى من تراسل ٍ يشير إلى عقم في حاسة مهمة يفضي إلى عقم في باقي الحواس , فما كانت تتحسسه لم يؤد ِ غرضه فقادها إلى العقم , وما كانت تهمس به لا يسمعه أحد فينتج العقم في تقنية الإيصال , وهكذا كما رأينا ان كل التشبيهات والرمزو والتشخيصات والتجسيدات كانت توقد المعنى إلى فراغ في النتيجة لا يوازيه إلا فراغ في داخل النص الذي لم يكتف ِ إلا بأن الليل ذاته الذي كان حيزا لانتقال المعاني كلها وكأنه مسرحية يونانية حسب اشتراطات أرسطو , هذا الليل الذي كان يزيد من مساحة أحداثه عبر الرجوع أو الاستباق , هذا الليل المهيمن الذي هو كما وصفه السياب في ( أغنية في شهر آب ) : ( الليل نهار ٌ مسدود ) , هذا الليل سيتكرر وضمن كل العلاقات المتراصة في النص الواحد الذي لم يكن إلا عدة نصوص ٍ يجمعها خيط ٌ دقيقٌ من الالتزام .

خامسا :
- لقطة بانورامية :  ( أ كان حقا فيه أنك تدفعين سهاد مقلتك الضريرة ! )
                                                   السياب

ليس من استنتاج في دراسة النص ( المومس العمياء ) , إلا بأن نشير إلى أبرز ما استخدمه النص من تقانات كونت من خلال توالدها المتوازي أسلوب القصيدة , وما اتضح من خلال التحليل هو :
1 . ميل النص وزنيا إلى بحر الرجز أكثر من بحر الكامل من خلال توارد تفعيلة ( مستفعلن ) بصورة متكررة .
2 . بروز حرف النون والهمزة والراء كلوازم حرفية نقلت معاني التراخي بين الشدة واللين والتكرار اللامفضي لطريق نهاية .
3 . لم يتوقف التوازي في بنية الكلمات صوتيا أو صرفيا بل كان التوازي توازي أفكار عبر جمل تحمل نفس الدلالات و مقاطع تحمل دلالات متشابهة أكثر ليتشكل من وزن الأفكار المتوازية دلالة العقم والخسران .
4 . التهيئة الصوتية لحرف الروي من خلال تواتر روي موحد يمهد للروي اللاحق عبر الإشارة إليه قبل انتهاء الروي الأساس .
5 . الالتزام بالقافية وعدم كسر حاجز التمسك بالنظام العمودي دائما من خلال تساوي عدد التفعيلات المستخدمة في السطر , و عدم تلوين القوافي في كل سطر متتال ٍ مع نظامه.
6 . كثرة الجمل الاسمية الدالة على ثبات معنى الخسارة والعقم . 
7 . المعارف واردة بصورة أساس في جسد القصيدة .
8 . تقدم شبه الجملة على الفاعل أو المفعول به أو الفعل للدلالة على أهميته في حمله للظرف و المرافق له وحمل دلالة مكنونة في أشباه الجمل .
9 . سيق الاستفهام للإنكار عادة , وتكرر في ذات المعنى ضمن نفس النص تأكيدا لوقوعه أو خوفا من تردد معناه وتراجعه .
10 . شيوع الجمل الاعتراضية في النص , مما حول المتن إلى هامش خاضع لما تسترسل به الجمل الاعتراضية حاملة للمعنى المفسر من خلالها , ودلالة على التوالد النحوي بين جملة وجملة أخرى مقتطعة تنتظر التمام بعد انتهاء جملة الاعتراض .
11 . التعبير عبر أفعال المضارعة أكثر من أفعال المضي , حتى في المقاطع التي تتحدث عن الماضي , دلالة على هيمنة لهجة الحاضر العقيم والمستقبل الذي لا يفضي لمعنى .
12 . استخدام مكثف للرمز تعبيرا عن سمة دلالية بيانية تكثف الصور وتنقلها إلى تعبير حداثي عبر معاني الرمز الذي يكون الصورة الشعرية في تفاصيله ز
13 . الإكثار من التشبيه بأنواعه , والاختصاص بالتشبيه بالأداة ( الكاف ) .
14 . التجسيد والتشخيص , سمتان بارزتان كونت تفاصيل النص بأفكاره .
15 . تتراسل الحواس في النص للتعبير بوساطة اللمس أو السمع عن البصر المفقود للمومس العمياء .
16 . صناعة الصورة كانت تجيء عبر رسم مشاهد حركية , حوارا و وصفا .
17 . من خلال علاقة المومس بالمدينة , وبالماضي , وبالحاضر , وبالآخرين .. تتكون الفكرة العامة التي حملتها مفردات أسلوب النص التي هي العقم المطلق .
18 . كثرة الجموع في القصيدة من خلال تراكيبه , يدل على الوعي العام بأن ما يجري هو ملمح عام لا خاص .

 

 

سادسا :
- لقطة الهوامش :  ( الهر ُّ نام على الأريكة قربها .. لم َ تستباح ؟ )
                                             السياب

* ملاحظة : تم الاعتماد على ديوان بدر شاكر السياب في ذكر النصوص المحلللة , طبعة دار العودة – بيروت , عام 1971
1 . ينظر : البيان والتبيين , الجاحظ .: ص 236
2 . ينظر : مقدمة شرح حماسة أبي تمام : المرزوقي
3 . ينظر : دلائل الاعجار , عبد القاهر الجرجاني : ص 81
4 . المصدر نفسه : ص 89
5 . المصدر نفسه : ص 87
6 . علم الأسلوب , صلاح فضل : ص 18
7 . المصدر نفسه
8 . المصدر نفسه
9 . المصدر نفسه
10 . المصدر نفسه
11 . ينظر : البنى الأسلوبية في ديوان أنشودة المطر , حسن ناظم , ص : 38
12 . ينظر المصدر نفسه . وعلم الأسلوب , صلاح فضل
13 . معايير تحليل الأسلوب , مايكل ريفارتير , ص : 5
14 . المصدر نفسه 
15 . قضايا شعرية , رومان ياكبسن , ص : 24
16 . ينظر , المصدر نفسه , ص : 22
17 . ينظر , البنى الأسلوبية , حسن ناظم , ص 22
18 . البنائية في النقد الأدبي , صلاح فضل , ص : 473


سابعا :
- تايتل النهاية للمراجع :     ( الباب ُ أوصد .. ذاك ليل ٌ مر َّ .. فانتظري سواه )
                                                        السياب

1 . الجاحظ , عمرو بن بحر , البيان والتبيين , دار المعارف .
2 . الجرجاني , عبد القاهر , دلائل الإعجاز . دار المعرفة .
3 . صلاح فضل , علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته , دار الشروق .
4 . حسن ناظم , البنى الأسلوبية في أنشودة المطر , المركز الثقافي العربي .
5 . صلاح فضل , البنائية في النقد الأدبي
6 . رومان ياكبسن , قضايا شعرية , دار توبقال .
7 . مايكل ريفارتير , معايير تحليل الأسلوب , منشورات دار . سال .
8 .بدر شاكر السياب , ديوان , دار العودة .

 

*      *      *

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي