النسخة المستحيلة

لؤي حمزة عباس || كاتب عراقي

يستعيد سعيد الغانمي في الفقرة الأولى من كتابه (خيال لا ينقطع)، جانباً من علاقته مع الكتب، وهو الجانب الأبعد الذي يُرى فيه طفلاً في التاسعة أو العاشرة من عمره، يحدّثنا عن قراءته للكتاب الأول في سلسلة قراءاته، وليس غريباً أن يكون "ألف ليلة وليلة" كتاب طفولته البعيد، وليس عجيباً أن يُخرج الكتابُ الطفلَ من العالم الواقعي ويدخله في عوالم الليالي، يموّجه مع السندباد البحري في رحلاته، ويطيره مع حسن الصائغ البصري على جواد الأبنوس، ويرجفه رعباً مع الصياد الفقير الذي يهدّده الجني الخارج من قمقم الزمن. أخيلة الكتاب تلتقط سعيداً الطفل لتحلق به في دهليز الأحلام المنفتح على فراديس الخيال. ذلك ما يحرص سعيد الناقد على تثبيته، قبل البدء في رحلته الجديدة مع الكتاب. ثمة قراءات لا تنقطع، وهي تكون، كلَّ مرة، بعضاً من خيال الكتاب المقروء. سريعاً ما يكبر الطفل، تمر خمسون سنة على تجربة القراءة تلك، ويشتدُّ به الحنين إلى النسخة التي قرأ بها الكتاب للمرة الأولى، ويسأل نفسه بما يقرب من العتاب القاسي: "لست أدري كيف فرطت بها. لقد امتلكت عشرات النسخ من الكتاب بمختلف الطبعات بعد أن كبرت، لكنني لم أصادف أبداً تلك الطبعة التي قرأتها في الطفولة".
تتواصل رحلة الغانمي مع الكتاب قارئاً حالماً ودارساً فطناً، ومع خاصية الانفتاح النصي التي يعدها ميزةً من ميزات "ألف ليلة وليلة" يكون عليه الوصول إلى ما لا يُعد من الكتب التي التهمها الكتاب، فقد تسابق رواته مع مرور الزمان، في رغبة كلٍّ منهم بتقديم نسخته الفريدة زاعماً أنها النسخة التي يمكن أن ترقى إلى "النسخة المعيارية"، لكن سعيدأً، القاريء والدارس، لا يفوته أن يدوّن جملته المشبعة بالحنين لقراءته الأولى، "طعم تلك القراءة لم يبارحني أبداً". إن نسخة الكتاب التي نفتتح بها قراءتنا هي ما أسميه بالنسخة المستحيلة التي لن نعثر عليها مهما حاولنا، لأنها حتى إذا تبسّم الحظ لنا وعثرنا عليها في مصادفة من مصادفات الكتب، لن تكون نسختنا المنشودة نفسها، نسخة الحنين التي تزداد بُعداً كلما أخذتنا السنوات، فالكتاب الأول يشبه حلمنا الأول، بل هو الحلم الذي نحنُّ له أبداً، وتعزُّ علينا استعادته.