loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

دعابة الكاتب

breakLine
2022-10-17

(قصص كأنها عروق حجَر)

 

محمد خضير / كاتب عراقي

 

 بعد مجموعتين قصصيتين_ (إبل هيرودتس) ٢٠٠٣، و(أفلاطوني كمبردج) ٢٠١٢، فضلاً عن مجموعة ثالثة سابقة عليهما، عنوانها (قصص عابرة) ١٩٩٨_ يحافظ عبد الله طاهر على مناخ خطابه القصصي المتفرِّد في المجموعة الرابعة (دعابة الكاتب، دار شهريار، 2022) التي تتضمّن سبعَ قصص قصيرة، في ستّ وتسعين صفحة. 
 والتفرّد الذي أقصده في مقالتي، هو تغريب المكان الذي تنطلق منه القصص (عبد الله طاهر، كاتب عراقي، من مواليد البصرة، هاجر العام ١٩٧٨، ويقيم حالياً في هولندا) حيث يضعنا الكاتب بمواجهة تجارب شخصية مقطوعة الجذور بمكان النشأة_ عدا مجموعته الأولى_ مبرهناً على انتعاش الفنّ الذي يمارسه بشغف واستغراق_ فن كتابة القصة القصيرة_ والبرهنة على مواصلته من باب الاختراع والمعرفة الذاتية، والإقامة حول النصّ غير بعيد عن مساربه وخواتيمه؛ حتى لتبدو هذه إقامةً افتراضية ما دامت براهينه تستغرق/ تستفرد بصناعة حبكات غرائبية عن "الآخر" المحايث لوجوده الشخصي في قلب البرهان/ الحدث لا في أيّ مكان يعنيه في قصصه. 
 يعترف الكاتب في القصة الرابعة (الرنجة الحمراء) بوجود كاتب ثانٍ، خفيّ "يشاركه الكتابة "فهو ليس من الرواة المستفردين بالحكي". وبذلك يكون قد باشرَ في مراقبة ذاته السردية وكشفِ سِرّانيتها مراقبةً شديدة تصل الى حدّ تفكيكها كما تُفكك "الكتابة "القابالية". والسِرّانية هنا أيضاً_ كالتفرّد_ اختيار مفضوح، يسمح بقدر من المكاشفة مع عدد مخصوص من القراء الضمنيّين المقيمين معه في داخل البرهان القصصي، يتيهون في مسالكه، أو يستحجِرون في عروقه المتشعّبة كمتاهة حجرية. والأحرى، إنّ الكاتب يخلق قراءً على مقاسه، يحاورهم بصراحة تامة، يرتادون مثله مواطنَ الخطأ والصواب في إنشاء برهان أو نقضه. 
 ففي القصة الأولى "اختفاء يد موزارت" تُثبِت قارئةٌ ضمنية تُدعى كايلا دي فريز، وهي مديرة تحرير مجلة ماسونية في أمستردام، يلتقيها كاتب ضمني (بدون اسم) كان قد نشر في مجلّتها قصة بعنوان "العين المتوحدة" بأنّ قصته التي تتضمن حبكة طقوسية ماسونية، كأنها نسخة من عمارة كاتدرائية قديمة. فهي _القصة المفترضة_ مثل "قفص في بناء مجوّف". وفيما يحاول الكاتب الضمنيّ الافلات من نظرة القارئة الحادة، وأفكارها الشيطانية، تتبلور لدى الكاتب الفعلي للقصة فكرة أنّ القصة "شكل كامن في عقل القاص، يسري فيها كعِرق من حَجر" يعدّها من اكتشافه الخاص. لكنّه اكتشاف يتفرّع من أقوال القارئة الدخيلة التي تؤمن بأنّ: الأدب مثل الماسونية، لها فضل كبير عليه "فهما مثل "قوسين قوطيّين". ولسنا في حاجة لتتبّع أقوال أخرى تخطر على لسان الكاتب المولَع بغرابة المحاكيات والاستعارات الأدبية والفكرية، لإثبات وجوده في صلب قصته.
  تتّسم براهينُ/ دعاباتُ عبد الله طاهر بالالتواء والتأخير، نظراً لكثرة الشواهد والتضمينات الفرعية (العروق الحجرية)، واستعمال أفعال الظنّ اللغوية وحروف الاستدراك، لشقّ طريقه بينها. وتتخذ مرافعتُه_ الضمنية كذلك_ عن فنّ القصة القصيرة شكلَ البحث الفكري الذي يعتمد على تكرار الوحدات البنائية، وتدوير الأفكار من قصة لأخرى، أي تدوير الشعور/ الانطباع الفردي من وحدة إلى أخرى، وخلق فراغات قرائية كثيرة، نظيرة لفراغات الشكل البصري_ في فسيفساء "الأرابسك" العربية؛ حتى كأنّه يخدع قارئه المصاحب لدعابته، فيشتّت نظرته، ويؤخّر وصوله إلى نهاية البرهان؛ وبذا يبدو تأجيل الموقف، واعتقال القارئ في أحد فراغات القصة، غايةَ البرهنة وخاتمتها.
 والفراغ الذي تتركه القراءة في قصص عبد الله طاهر، يتمثّل في انقطاع الصلة الشخصية بين النصّ ودلالته الحدثية_ الزمنية والمكانية (ما نلاحظ مثيلاً له في قصص الفلاسفة المسلمين والمتصوّفين والغنوصيّين، التي بنى عليها بورخيس إحدى أشهر قصصه: بحث ابن رشد) _ أي تجريده من واقعيته_ ليعمل أولاً على: "توفير طريقة في البحث عن إجابات تطبيقية لبعض من أسئلة الحياة التي لا تنتهي، وثانياً: تحقيق العيش وحيداً مع النفس"_ كما يتأوّل الكاتب في عبارة توضيحية من القصة الأولى (اختفاء يد موزارت). إنّنا نقرأ حالات قصصية خالصة من اليقين المتردِّد أو القطع المتتابع حول حقيقة البرهان القصصي. لكن ما يتخلّف عن هذه القراءة المتشكِّكة شأن عظيم، يتلخّص بصراع الذات المنقسمة مع "أقدارها" الحكائية داخل فراغ فسيفسائي، تبدأ القصة وتنتهي عنده بكيفيات فلسفية متعددة.
 يتّسع الفراغ البنائيّ الذي يصنعه عبد الله طاهر من عمل إلى آخر فيبدو كمتاهة_ وهو نفسه الشكل الذي يهوى المؤلّفون العجائبيّون صنعَه من دون انتهاء ليتناسب وإقامتهم في المجهول حول_ النصّي (وهي إقامة تختلف عن الإقامة وراء القصّ_ الميتا سردي)، أمداً غير معلوم، بهوية تلتحم ببراهينها الظنّية (بقدر انقسامها على نفسها) حدّ السلْخ والفصل المميت كي تصِل إلى الفراغ الذي تتوحد فيه بقارئها (ليس في الجبّة غيري وقصتي). وعلى العكس من قصد الذات الكاتبة في تحرير فعلها السردي من اعتقال الآخر لها_ حسبما يقتضيه البرهان الداخلي للقصة_ فإنّ وجود القارئ في متاهة/ دعابة الكاتب، أمداً غير محسوب، سيفاقِم شعورَه بالضياع والخداع_ خداع المعنى الذي يكلّفه أضعاف تكلفة الكاتب في ممارسة "دعاباته". 
  يتجلّى صراع الأضداد "العِرقية" المتباينة في المكان والزمان، في سرد حيثيات العشق الحلوليّ لشخصيات حقيقية ومتخيّلة: مارلين مونرو (قصة: غبار النجوم) وإيما بوفاري (قصة: إيما) وباروخ سبينوزا (قصة: رداء كهنوتي مزيّن بالببغاوات) وصولاً إلى الدعابة الكبرى في عشق الحلول بشخصية بورخيس (القصة الأخيرة: دعابة الكاتب). 
 يتخذ أسلوب التداخل النصّي، وتخليق ذواتٍ ثانوية من شخصية الكاتب الفاعل، في أغلب قصص (دعابة الكاتب) شكلَ الإثبات البوليسي/ الاستخباري المريب، والتلبّس برداء الريبة والشكّ الفلسفيّ. ومثلما استندت دعابةُ القصة الأولى لأفكار تقرّب القصة من الماسونية، تستند القصة الرابعة في المجموعة (الرنجة الحمراء) إلى دعامتين/ مقولتين للبرهنة على أن القصة كالجاسوسية، تتشبّه الأولى بسمكة الرنجة "المتوارية عن العين والحاضرة في الأنف"، وتستعير الثانية فكرة السياسي المخضرم هنري كيسنجر: "الطبيعة الشخصية Character تحدّد مصيرَها Fate". إنّه توغّل تصاعديّ محفوف بأكثر الحُجج الاستعارية خطورةً على قارئها الضمني المغترِب عن الزمان والمكان الواقعيّين، والمحايث لأقصى البنى السردية الحكائية بُعداً وانعزالاً عن سحر الخيال القصصي الصرف. 
 سيتبيّن للقارئ الخارجي_ عكس القارئ الداخلي_ أنّ عبارات الحِجاج التي يبنيها عبد الله طاهر في قصصه، هي على الضدّ من عبارات الوصف والحوار التفسيريّة في السرد الكلاسيكي (تخلو محاججات عبد الله طاهر من جمل الحوار) إذ أنّها مصمَّمة لتصوير حياة من نوع آخر_ مراوِغ_ يستطيع بوساطتها انتزاع شخصيات من براثن "التحليل النفسي الفرويدي"_ خاصة النسوية منها_ والتجسيم الذكوري، البصري والذهني، لأقلام الرجال من الكتّاب والرسامين. 
  كيف استطاع الكاتب_ المراوغ_ استحضار الفلاسفة ومناقشتهم، رغم "السقوط الحر" لأخيلته من ناطحة سحاب يسكن شقّة فيها، على علو عشرين طابقاً؟ هل كان ذلك بتأثير "التفارق العكسي" للدلالات، الذي جعل لغتنا تهتم "بالعلامات أكثر من المعاني"؛ والشخصيات شظايا متطايرة في مجرى الزمن؟ وكم يلزمنا من المعرفة الفلسفية المكتسبة_ يلزمه هو الكاتب_ للوصول إلى ما وصله تلامذة سبينوزا في اكتشاف "طريقة تفكير بالزمن" لكتابة قصصهم؟ لكنّنا نتذكر في أثناء السؤال عن هذه المفارقات الزمنية، أنّ قرّاء الكاتب هم داخليّون _ جبريّون مثله_ كما أرادهم، ولا يحق لغيرهم الشكّ في حقيقة الانبعاث والتخليق السرديّ الحرّ من سلطة الزمن وتأويلاته الخارجية. 
 يسبق الكاتبُ الفعلي قرّاءه_ على أنواعهم_ بالتساؤل عن سبب احتفاظه باسمٍ عراقيّ، وانقسامه بين مكانين، البصرة وأمستردام، ويستند لبرهان من ستيفن هوكنغ حول "تشظي الكائن" للتقرّب من برهان وحدة الوجود السبينوزي. ستساعده كتابة قصة عن الاشتباه/ التشبّه بشخصية بورخيس على عقد "مغزى قدريّ" غير محتسَب "في أمكنة ذات تاريخ وتأويل جمالي لا يمكن لكاتب قصة، قادم من الشرق إلى الغرب، أن يلجمها ويحبس معانيها إن شاءت التحرّك والإدلاء بأسرارها والتعبير عن مجازاتها الواحد تلو الآخر". 
 أليس هذا كافياً لعقد برهان متعدّد المقدمات والنهايات، يتشظّى الى مجموعة من الدعابات، في مسار أشعة الزمن الملوَّن، والمكان ذي التاريخ الخيالي_ ولن يقف قارئ ضمنيٌّ معترِضاً حقيقتَه السردية، إلى جانب شطر من أشطار الكاتب المقسوم، إلا على وفق تأويل منفعل ببرهانه القدَريّ؟
 كافٍ وغير كافٍ، مع أنّ البرهان الأخير يُثبِت كتابة قصةٍ خالية من الحبكات_ شأن قصص بورخيس_ غايتها: "توسيع محيط دائرة القصّ فيها، وكذلك حرية التخيّل والاستذكار، وجعل المعنى اللا تجانسي فيها معنى ذا مغزى دائم التأجيل".
 ملاحظة: مجموعة (دعابة الكاتب) لعبد الله طاهر مرشحة على القائمة الطويلة لجائزة ملتقى القصة في الكويت هذا العام.

 

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي