loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

رواية " حي 14 تموز " لسهيل سامي نادر .. بين المرح والبؤس

breakLine
2023-03-15

محمد مزيد  || كاتب عراقي

 

تستفزك هذه الرواية  " حي 14 تموز " للكاتب المبدع سهيل سامي نادر، تحرك المياه الراكدة في عقلك لتنبش في داخلك، الذكريات المريرة التي عشتها مع الطغاة، واية طغاة ؟ هم أولئك الوحوش الذين بتروا آذان البشر، وقطعوا الرؤوس ، على الشبهة والظن ، هم أولئك الذين ركلوا الحياة العراقية المسالمة  منذ بداية السبعينات وساقوها الى الخراب، من خلال تحشيدهم للناس بالدخول الى ايدولوجيتهم القائمة على معاداة كل اقانيم الجمال، وضرب الدين والشيوعية والحرية والسلام بدون هواده، وانك اذا لم تدخل في صفوفهم فانت معاد لهم يجب تصفيتك او تدجينك تحت شعار مقيت اطلقه كبيرهم " العراقي بعثي حتى وان لم ينتم " . 
اننا امام رواية تسير باتجاهين تحتكم الى التنافذ بين السرد والتحليل، فمن السرد تنطلق رحلة شبان تسميهم الرواية " مجموعة البؤس والمرح " يعيشون في حي بغدادي يسمى " حي 14 تموز " انظر الى دلالة الاسم 14 تموز وهو يشير الى اليوم الذي قام به مجموعة من الضباط يقودهم عبد الكريم قاسم بالثورة او الانقلاب على العائلة المالكة التي حكمت العراق منذ عشرينيات القرن الماضي ، وما تشكله هذه الدلالة من محمول يجيز لنا ان نطلق عليه بؤرة كل فعل الكتابة لدى سهيل سامي نادر في هذه الرواية . 
تبدأ الرواية بلعبة صغيرة، سرعان ما تكبر، وتتفرع وهي لعبة سردية اكاد اقول عنها " معتمة " تحتاج الى مصباح كشاف لمعرفة خطوطها المتداخلة، فحكاية هؤلاء الشبان أبناء  محلة 14 تموز تستهويهم صفحة معينة في مجلة الإذاعة والتلفزيون الأسبوعية، تحرر الصفحة امرأة اسمها " مياسة"، ترد على أسئلة قراء في الحب والغرام وامور الحياة الاجتماعية، ويحتار هؤلاء الشبان في جنس " مياسة " اهي امرأة حقا ام رجل ؟ ويضربون الاخماس بالاسداس لمعرفة ماهية " مياسة " ! 
لا تعطينا خطوط السرد الأولية نفسها بسهولة ، ثمة شاب معوق ولاديا في قدمه اسمه منير، يذهب الى روائي وصحفي معروف قبل سفره الى خارج البلاد للعيش في المهجر، يضع امامه " فلوبي " فيه رواية كتبها عن مجموعتهم ،ولما يفتح الروائي الفلوبي، نقرأ رواية داخل رواية ، ونعرف ان الرواية الثانية تتحدث عن معاناة وجراحات وعذابات العراقيين وبالذات هذه المجموعة التي تعرضت الى سياط الطغاة من خلال زجهم في صفوف " الحزب القائد" عنوة ، وسوقهم الى حرب الثمانينات ، وعندما تبحث عن اعمار هؤلاء الشبان الذين اغرموا بمياسة لا تنبئك الرواية باعمارهم " بل هم بؤساء بسبب شبابيتهم يضعون على عاتقهم ما فشلوا بحمله لا يمثل الشباب سن الامل بل سن الضجر ص 13 " .
تقسم الرواية الى قسمين القسم الأول سمي باسم " المؤانسات " والثاني سمي ب " المراثي " لا نعثر في الأول على شخصية بعينها تقود خطوط السرد لتكون بؤرة الحدث ، فهناك فالح الذي يتحدث بمنطق الباحث الاجتماعي علي الوردي لكن بطريقة مبتكرة ص 27 يقول فالح " الجميع يخفون انفسهم خلف ادعاء ما ، المتدينون غير متدينين اعتادوا الكذب والغش، اليساريون متصوفون من جماعة الحلاج، الشيوعيون منذورون دينيا بالعذاب والنقد الذاتي والذبح، والبعثيون هؤلاء لا يصلحون ابطالا روائيين بل مواضيع للتحليل النفسي والتاريخي وكتابة شعر معبأ بدوافع غير شعرية " ص 27 ، وهناك شخصية صالح ، فهو مشروع افساد المشاريع كلها ( يقصد مشاريع الفكاهة والمرح ) والاثنان فالح وصالح متفقان على تقنية لعبة كرة الطائرة الأول يرفع والثاني يكبس ، وقالا " اننا جميعا حلزونات تلتف على نفسها لا تصلح ان تروي عن نفسها ولا ان يروى عنها ولها " ص31 مع هاتين الشخصيتين فالح وصالح والسارد منير ، يمكنك ان تتعقبهم في تنافذ السرد مع التحليل غير انك تحار أحيانا في نسب اقوال بعضهم للبعض الاخر، لكن نثر الروائي سهيل سامي المختزل الجميل يغطي على هذا الخلل البسيط. ان ما يوقعك في الارباك صعوبة الاستمرار في قراءة هذه الرواية ، لأنك تقرأ فصولا من العذاب والقهر والالم شهدته بكل جوارحك ومازال ماثلا في الذاكرة بقوة، كما يمكن ان اجيز لنفسي هذا التعبير، اننا تقرأ خوفنا وقلقنا وذعرنا حين كنا نخشى تعقب البعثيين لخطواتنا في الدروب والشوارع او في المكاتب التي عملنا فيها ، ولا اظن كاتبا كبيرا مثل نادر كان يتقصد إيذاء القارئ الذي عاش تلك المراحل القهرية، وان يبث في نفسه الشعور بالخيبة، بالقدر الذي يهمه توثيق تلك الحقبة المدمرة، اننا حقيقة نريد ان ننسى تلك المرحلة ، غير ان الرواية تذكرنا بها في كل سطر منها واعتقد ان الرواية التي تنقل الوقائع الدامية تحتاج الى قلب لم يطعن بتلك الذكريات التي جاءت بها ، سألت بعضا ممن قرأ الرواية قالوا انهم غير قادرين على التماهي معها بسبب ما تحمل من صدق الألم ولغة مسبوكة نثرية عالية الجمال كما لو كانت تعيد نبش ذاكرتنا بالجراحات التي مررنا بها . 
في القسم الثاني المسمى بالمراثي وهو القسم الخاص بالحرب الإيرانية وما تسببته من قتلى ومفقودين وثكالى وارامل اعاد لنا الروائي التذكير باجواء القهر نفسها حتى نصل الى فصل انتحار صالح الذي هو عندي واحدا من اجمل واروع الفصول، بسبب ما يختزنه من دلالات عميقة كشف بها سهيل نادر عن مقدرته الكبيرة بحياكة نسيجه السردي . 
تقول الرواية " ان الحياة العراقية المعاصرة مليئة بمعارك المرويات وتداخلها، مروية تقضي على أخرى مروية تعدل مسار أخرى " ، وتقول أيضا " كانت الحياة آنذاك تشبه قدر ماء يغلي على نار تاريخية لا تنطفئ القليل من المتع والكثير من الهواجس الى حد ان المرء يشيخ وهو في العشرين " .. هاتان العبارتان ، تكشفان عن كيمياء التاريخ الذي عشناه في كنف تلك الأيام السود وكيف تحولت فيها الحياة الى غابة يفترس بها الحزب القائد " ابناءه " البررة . 
اندثر البعد الجغرافي للحي 14 تموز في الوجوه المشوهة للأحياء العراقية والبغدادية التي ساءت احوالها بعد هيمنة الطغاة، لتعيث فيها جرذان الحزب القائد ، لقد سحقت كل منابع الجمال وما عاد يمكننا ان نرى بارقة امل في الحياة في ظل طغيان الشعارات الزائفة التي تسير على هديها الجموع خانعة ذليلة تسير الى مذبح الحروب والحصارات والبطش اليومي والملاحقة على الشبهة والظنون للبحث عن المخالفين . 
ان الموروث الصحراوي للعائلة التي حكمت العراق ابان عهد " الحزب القائد " جعلت الحياة متصحرة شديدة الغبار، شديدة البؤس تفتقر الى المرح ، نالت الأجيال التي عاشت في كنف ذلك الموروث الصحراوي من الغبار الذي اعمى العيون وملأ الصدور بالتراب ما نالت، كما دفنت تحته ( أي التراب ) كل تطلعات الشباب الذين كانوا يعشقون الحياة بعيدا عن ايدولوجية الصحراء والبداوة، دفنوا وهم احياء وانتهى مصيرهم ليحل محله عصر الغياب ، فانتهى المرح الى البؤس ، مرة والى الابد ، كما يبدو .

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي