loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

سطوح المياه وأعماقها

breakLine

سعيد الغانمي || كاتب وباحث عراقي


علينا أن نميَّز بين ثنائيَّة السَّطح والقرار، أي سطوح المياه الهادرة وأعماقها الهادئة، فهذه استعارة مائيَّة سيّالة، وبين ثنائيَّة الأعالي والأسافل، أو الذُّرى والسُّفوح، فهذه الثانية استعارة معماريَّة. ما يعنينا هنا الاستعارة المائيَّة الكامنة في ثنائيَّة السَّطح والعمق. وفي العادة، فإنَّ استعارة القرار أو العمق ترمز إلى الوصول إلى مناطقَ يشقُّ الوصول إليها ويعزُّ بلوغُها. وفي الأدب الحديث بالتَّحديد، كثيراً ما ترمز هذه المناطق إلى الحياة والحقيقة والنَّفس الإنسانيَّة.
وهناك حكاية يرويها أصدقاء الشاعر الرُّومانسيِّ الإنكليزيِّ الشَّهير شيلي، الذي لم يكن يجيد السِّباحة، لكنَّه مع ذلك انغمر في مياه أحد الأنهار، واستسلم لشهوة الانجذاب نحو قراره. غير أنَّ الصَّديق الذي كان برفقتِهِ أدركه في اللَّحظة الأخيرة، وحين سألَهُ عن سبب رغبته في الغرق، أجاب: "كثيراً ما كنتُ أرى قرار البئر، يقولون إنَّ الحقيقة تكمن هناك. وكان لا بدَّ أن أعثرَ عليها في لحظةٍ أخرى، لكنَّك ستجد صَدَفةً فارغةً. فهي طريقة في التَّخلُّص من الجسد".
تعلِّق مارلين درشاور في كتابها "مشاهد المياه الحداثويَّة: الماء والخيال والماديَّة في أعمال فرجينيا وولف" على هذه الحكاية قائلةً: "تتخلَّل السُّخرية كلام شيلي؛ فالتَّمييز الذي يحدثُهُ بين الجسد والعقل الباحث عن الحقيقة، بين الصَّدَفة (shell) والجوهر (essence)، يكمن في تلاعبه بالكلمات حين يشقُّ اسمه الخاص (Shelly) إلى الصَّدَفة الفارغة (empty shell). وتكشف عبارته "يقولون إنَّ الحقيقة تكمن هناك" عن الاقتران المتعارف عليه بين الحقيقة والعمق. على أنَّ هذا لا يقلِّل من تأثيرها: فشيلي يستمرُّ في التَّردُّد على قاع النَّهر، ويستمرُّ بعده الكتّاب في البحث عن الحقيقة تحت السَّطح" (ص 43). ثمَّ تناقش مارلين درشاور بعض الأمثلة المستمدَّة من أدب فرجينيا وولف حول كون الأعماق استعارةً للحقيقة أو الحياة أو النَّفس.
والحكاية التي يرويها الرُّومانسيُّون عن شيلي تظهر في شعر السَّيّاب قصيدةً كاملةً هي قصيدته "النَّهر والموت". وهي قصيدة مثيراً فعلاً، لأنَّها تبدأ بفكرة أجراسِ برجٍ يهوي إلى قرار البحر: (بُوَيب.. أجراسُ برجٍ ضاعَ في قرارةِ البحرْ)، وتنهي بفكرة أجراسِ موتى تسري في العروق: (أجراسُ موتى في عُروقي تُرعِشُ الرَّنينْ). وبعد سقوط الأجراس العالية في الحالتين، يغوص السَّيّاب في داخله ليرى دمه الذي تشتدُّ ظلمته في أوردتِهِ: (فيدلهمُّ في دمي حنينْ). على السَّطح يبدو للسَّيّاب كلُّ شيءٍ خادعاً:
الماءُ في الجرارِ والغروبُ في الشَّجَرْ،
وتنضحُ الجرارُ أجراساً من الحنينْ.
بلُّورُها يذوبُ في أنينْ.
لكنَّ كلَّ حركةٍ على السَّطح تقابلها رغبةٌ في الذِّهاب إلى العمق، إلى قرار النَّهر:
أودُّ لو أخوضُ فيكَ، أتبعُ القمرْ
وأسمعُ الحصى يصلُّ منكَ في القرارْ
صليلَ آلافِ العصافيرِ على الشَّجَرْ
....
أودُّ لو غرقتُ فيكَ، ألقطُ المحارْ
أشيدُ منه دارْ
يضيءُ فيها خُضرةَ المياهِ والشَّجَرْ
ما تنضحُ النُّجومُ والقمرْ
....
أودُّ لو غرقتُ في دمي إلى القرارْ 
(الأعمال الشعرية للسياب، طبعة دار العودية، 1/453).
يبدو قاع النَّهر وقرارُهُ للسَّيّاب شيئاً مختلفاً تماماً عن السُّطوح فوقه. ففي قرار النَّهر يكمن السَّيّاب نفسه، الذي يقول في قصيدة (مرحى غيلان): "أنا في قرارِ بُوَيبَ أرقدُ" (الأعمال 1/325). فالحقيقة التي يقابلها السَّيّاب في قرار النَّهر هي ذاته الأخرى، هي نفسه الراقدة هناك في القرار، نفسُهُ التي كان وما زال يبحث عنها.

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي