loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

سيرافين

breakLine
2021-09-02

​​
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
هادي ياسين – كاتب وناقد عراقي

 
قبل افتتاح دورة العام 2009 لمهرجان ( سيزار ) السينمائي الفرنسي ، كانت جميع توقعات النقاد و المعنيين و متابعي الدورة ، راسخة ً ، بصورة شبه أكيدة ، بأن فيلم ( ميسرين ) ــ الذي يتناول شخصية اجرامية غامضة ، و كان قد حقق ايرادات باهرة ــ سيخطف عشراً من جوائز المهرجان . ولكن ما أن بدأ الإعلان عن الجوائز ، حتى راحت جميع تلك التوقعات تتداعى تباعاً ، حين فاجأ فيلم ( سيرافين ) الجميعَ بخطف سبع من تللك الجوائز : جائزة أفضل فيلم . و أفضل ممثلة لـ " يولاند مور " عن دور ( سيرافين ) . و أفضل سيناريو ( كتبه : لبناني الأصل " مالك نورالدين " ، و مخرج الفيلم " مارتين بروفوست " ) . و أفضل أزياء . و أفضل ديكور . و أفضل موسيقى .. و بهذا فقد استحقت هذه الدورة تسمية : دورة المفاجآت .
و قبل هذه الجوائز ، مجتمعة ً ، كان فيلم ( سيرافين ) قد نال جائزة ( الهرم الذهبي ) من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي ، الذي منح جائزته ـ أيضاً ـ الى ( يولاند مور ) كأحسن ممثلة عن دورها في هذا الفيلم . و معروف عن " يولاند مور " أنها ممثلة كوميدية ، أصلاً ، ولكنها أذهلت الجميع بدورها التراجيدي ، الذي كان يطبع حياة " سيرافين " الحقيقية . وهذه هي المرة الثانية التي تفوز فيها هذه الممثلة بجائزة ( سيزار ) .
و " سيرافين " ، هي ـ في الحقيقة ـ رسامة فرنسية فطرية . ولدت في الثالث من شهر أيلول ـ سبتمبر 1864 لعائلة معدمة في مدينة ( سنليس ) الفرنسية ، و توفيت في الحادي عشر من كانون الأول ـ ديسمبر من العام 1942 .. و في مصح عقلي . و واقع الأمر فأن هذه الرسامة كانت قد مرت كطيف عابر في تاريخ فن الرسم المعاصر في فرنسا . رسامة فطرية لا تعرف ـ مطلقاً ـ أحداً من الرسامين و لايعرفها ـ أيضاً ـ أي واحد منهم ، ولكنها دخلت من بوابة جانبية في هذا التاريخ ، بانتباهة من باحث و جامع لوحات آلماني اسمه " ويلهلم أوهد " ، انتبه اليها حين عثر على رسمة لها ـ صدفةً ـ فأنبهر بها . و هذا الرجل هو ذاته الذي كان قد أكتشف الفنان الفرنسي الفطري الباهر ـ موظف الكَمارك ـ " هنري روسو " ، و كان هو ـ ذاته ـ أيضاً : أول من اشترى لوحة لـ " بيكاسو " و لـ " جورج براك " .. و كلاهما مؤسس المدرسة ( التكعيبية ) في الرسم . و هذه هي خلاصة الحقائق ، أو المعلومات الواقعية ، التي كانت متوفرة عن الظل العابر لـ " سيرافين " . ولكن صناع الفيلم اشتغلوا ، مجتمعين ، ببراعة ، على تقديم كتاب أو قصيدة سينمائية باهرة عنوانها ( سيرافين ) .
ينطلق فيلم ( سيرافين ) من مدينة ( سنليس ) الفرنسية في العام 1914ـ عام الحرب العالمية الأولى ـ غير أن الحياة كانت لما تزل هادئة في تلك المدينة شبه المنزوية ، و المنطوية على طابعها البسيط ، كما قدمها الينا الفيلم . و يبدأ المشهد الأول بشمس صباح صافي السماء ، حيث كانت يد ( سيرافين ) تتلمس و تتفحص الأشنات في مجرى النهر ، و تلك كانت أولى الإشارات التي ستحيلنا لاحقاً الى الإندماج و التمازج الكليين بينها و بين الطبيعة ، و اللذين كانت رسوماتها ترجمة حرفية لهما ، فضلاً عن سلوكها اليومي الذي يعبر عن تآخيها النادر مع أبناء أو بنات هذه الطبيعة من خلال جولاتها في الروابي او عناقاتها العاشقة للأشجار أو الإسترخاء على أغصانها .. حتى لتبدو ( سيرافين ) ذاتها ـ من خلال الفيلم ـ كما لو كانت هي نفسها شجرة .. ولكن بهيئة امرأة .
من المؤكد ، فأن هذا الفيلم قد أثار فضول الجميع لمعرفة من هي " سيرافين " . فالنسبة العالية من المعنيين بالثقافة ، عموماً ، و بفن الرسم على وجه التحديد ـ بما فيهم الرسامون و معظم النقاد و المؤرخين ـ لم يكونوا على علم أو معرفة بإسم هذه الرسامة . ولكنه من الطبيعي جداً أن يكون صانعو هذا الفيلم قد أطلعوا على الكتاب الذي أصدره " آلن فيركوندولي " في العام 1986 بعنوان ( سيرافين .. من الفن التشكيلي الى الجنون ) أو على كتاب ( حياة سيرافين دو سنليس الرائعة ) لمؤلفته الدكتورة " فرانسواز كلورايك " و التي هي طبيبة أمراض نفسية و باحثة دؤوب في ميدان العلاقة بين هذه الأمراض و بين النشاطات المتميزة : كعلم الآثار و السفر و الفن . و عليه : فليس من المستغرب أن يكون هذا الفيلم الجميل تأليفاً آخر ، أو إعادة صياغة ، لهذين الكتابين.
يتناول الفيلم مرحلة متأخرة من حياة " سيرافين " ، حين كانت في الثامنة و الأربعين من عمرها و هي تعمل خادمة في بيوت وجهاء المدينة .. أمرأة تعمل بسكينة و هدوء و جد ، ولكنها فـَطـنة ، و أيضاً ذات خفايا و نوايا ، و نواياها كانت تتلخص في ما هو غير مالوف : سرقة دم الكبد الذي تنظفه في مطبخ العائلة ذات الوجاهة ، مثلاً ، أو سرقة الشموع الذائبة في محراب الكنيسة ـ و هي تعتذر بطريقة عابرة من السيدة العذراء ـ و كل ذلك من أجل أن تحضّر موادها الأساسية للرسم ، الذي لم يعلمه إياها أحد ، ولكن فطرتها ـ أو جيناتها ـ هي التي قادتها الى هذا الدرب غير المعهود . هذا الرسم هو الذي أعطى عنواناً لحياتها و لمرورها العابر ، كظل ، في تاريخ الرسم الفرنسي الذي كان ـ حينها ـ قد لعب دوراً قيادياً و رائداً في اعادة صياغة العالم .. من خلال الفن .
لايذكر الفيلم ، من ماضي " سيرافين " المؤسي ، غير علاقة عاطفية مع شاب هجرها ، فيما بعد ، لتلجأ الى أحد الأديرة ، كخلاص لمحنتها العاطفية الصادمة ، فيما تشير المعلومات الى أن " سيرافين " قد عاشت وحيدة ً في حياتها ، بعد أن فقدت ـ بالتتالي ـ أباها و أمها ، و التي ورثت عنها مهنة الخدمة في البيوت ، بعد أن كانت قد مارست مهنة رعي الأغنام . و من مهنة الخدمة ، هذه ، في البيوت .. ينطلق هذا الفيلم ، ليقدمها ـ رويداً رويداً ـ فنانة مثيرة ٌ لإنتباه أهل مدينتها ، ابتداءً من مخدومتها ، و من ثم صاحبة المنزل الذي تستأجر منه غرفةً بائسة ، مروراً برواد المعارض الذين كان لمكتشفها السيد " ويلهلم أوهد " اليد الوحيدة و الطولى في تنبيههم اليها ، من خلال ابرازها في تلك المعارض .
لقد كانت " سيرافين " ـ كما يقدمها الفيلم ـ تجد ( كشأن أي مبدع ) تعارضاً بين نقطة مضيئة في داخلها و بين الظلال التي يلقيها العالم الخارجي عليها ، و لأنها كانت كائناً مضاءاً من الداخل المتعارض مع الخارج الزائف ، أو المزيف ، فقد فقدت توازنها بسبب فطريتها . الأمر الذي انتهى بها الى مصح عقلي .. انتهت فيه حياتها ..... و انطوى سجلها الشخصي هناك . ولكن .. يا للمشهد الهادئ الأخير ، الباهر ، الذي يصور هذه النهاية .. و الذي استغرق دقيقتين كاملتين تماماً من السكون الأخاذ ... انه مشهد نادر ، لا ينهي به فيلمه إلا مخرج من طراز ( مارتين بروفوست ) الذي كان فيلم ( سيرافين ) هو فيلمه الثالث .

 


 
 

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي