loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

قميص الدم

breakLine
2022-10-18

قراءة في قصيدة (زهرة الغسق)

 


جعفر حسن / كاتب بحريني


 
يطالعنا يوسف حسن  بقصيدته الموسومة بـ (زهرة الغسق)  ويوسف حسن هو هذا المحتشد الغائب عن سمت العالم، الحاضر في نيران أتونه، المتوهج حين يغامر مغامرة جديدة في هذه القصيدة، وهي تضيق عند خاصرتها، لتتحول إلى امرأة جميلة، تزداد فتنة بتلك الفواصل الثلاث التي تجتاح جسد القصيدة، لكنها لا تنفصل بوشائجها عن ذلك التمدد الفاغم للتجربة الحياتية التي تتدفق في النص لتكون لحمته وسداه، و من غير الشاعر يستلهم نيران الجسد الحي، ليوقد الضوء الساقط في البعيد من خلال تكاثف الكلمات المستعذبة والمعذبة، لتحمل بين فواصلها جماليات غريبة، مداهمة، تتفارر نحو أفق يقترب من السدرة، يستحضر في هذه القصيدة خليفة ابن يعقوب، يوظف ثنائية الحاضر الغائب، بصورة تكاد تحكمها تلك الجدلية المتصاعدة في حدة الصورة بين الغياب والحضور، بين الأنا و الآخر، الغياب عنده رهن بالإجبار، و الحضور محض اختيار، مشحون بنسيج يشده حينا إلى التراث وأحيانا يسقط ظله على مرمى حجر منا، بينما الحضور مخبوء في تلك الموجودات العذبة التي نسميها الكلمات، وربما رقت تماما لتكون في تلك اللحظة النقيض الساكن بين الجرح و حد السكين.
 
إن ما يثير حقا هو ذلك الشعور الذي يتملكك و أنت تقرأ في نهر القصيدة ماء الذات التي يتملكها ذلك الإنشداد نحو آلاتي من خلال ما نسميه المشروع الإنساني، أي مشروع كان، حضاريا، ثقافيا، اجتماعيا، و مهما كبر أو صغر المشروع، إنما يمتد أو يتقلص على قدر الذات التي ينطلق منها، ولكون الإنسان حاو على ذات تعي الوجود من حولها، في الوقت التي تدرك فيه إنها واعية بذاتها، إنما تتأسى لإدراكها إمكانات إحباط مشروعها و انتهاء وجودها، كما تشعر أن الكون من حولها بارد مظلم، لا يمكن أن يأبه بأي حال من الأحوال التي تعتريها، في الوقت التي تظن فيه إنها قادرة على تحريكه لصالحها على اعتبار إنها امتداد له، لذلك يعبر الشاعر تلك العتبات التي تتحول فيها الكائنات إلى مسمياتها حين تدخل فضاء اللغة التي يتملكها الشاعر، فيدخل اللعبة التي يجيدها رقصا، إنه يتجاوز ضمور الذات و إنكساراتها حين يعبر من خلال أطياف اللغة، ليحرك تلك الكائنات لتبوح بما يكتظ في مكنونات روحه، فنلمس باليد تلك الحركة العنيفة لتلك الكائنات المادية و الثقافية، الجامدة و الحية، حيث تتكاثف في قصيدة (يوسف حسن) لتعبر عن حالات الوجود المختلفة، و إن كانت تنسرب في ذلاقة الكلمات.
 
في هذه القصيدة يتكاثف فيها التشفير، و استخدام الرموز الموزعة بين أعراف الحداثة و نهر التراث، على الرغم مما للتراث من حساسية شديدة، وحضور قوي، قد يستعصي على الأديب، إلا أنه يفرد للشاعر جناحين من زبد البحر ليطير في فضاء كون تسيطر عليه الذات فتسميه الكلمة، و حيث يمد جسوره العصية ليطال رموزا إنسانية عامة مثل (اليمامة)، مزاوجا إياها بالرموز التراثية الخاصة بالتراث العربي حيث يتواشج الرمز مع النشيج الضالع  في ألف ليلة و ليلة أو ينبلج من القرآن الكريم، ليتراصف مع ذاكرة بنيناها منذ الطفولة التي الفت سفن الرموز التي تطل علينا من زوايا التراث مثل الطاقية التي يضعها الشاعر بين قوسين، و التي ترمز إلى تلك القوى السحرية التي تجعل من يلبسها قابلا للاختفاء، ربما للهرب من الأعداء أو لمراقبة المجرمين أو لمجرد فعل التلصص، ولكن اختفاء الشاعر هنا خفاء إجباري نابع من سلطة الآخر الذي لا يستطيع منه هربا، و بالتالي إخفاءه لم يكن نابعا من امتلاكه لتلك الطاقية السحرية، و إنما لامتلاك الآخرين لتلك القدرة العجيبة على إخفاء من لا يتسترون على ما أخفوا، لكن الذات الشاعرة تتأبى على الإجبار وترفضه من خلال تمردها المستمر في فعل الفضح حين تمتلك العالم من خلال الوعي بالفعل الفادح، لذلك تعاود ذاته الظهور للنظر إلى لعالم من خلال "عورته السفلى"، المكان المحرم فيه، إنها العودة إلى منابع الطفولة فمن منا لم يتلصص يوما وهو طفل، ليكتشف محرمات المجتمع في براءة الأطفال لذلك كان أن ،
 
"لا (طاقية) لي
لذلك أخفوني
لكني كنت اطل على العالم 
من ثقب في عورته السفلى ." . 
 
إنه يكتشف الألم الممض في الحالات الإجبارية المقيدة بالضرورة التي ترميه فيها الكائنات البشرية المعادية، و الذين يظهرون في القصيدة بصفتهم ضمير يحيل إلى الآخرين (هم)، إن الذات الشاعرة تتجاوزهم وتتجاوز ما يسببونه من آلام من خلال إفلاتها نحو فضاء الحرية التي تفتحها القصيدة في تصوير تلك العلاقة العجيبة بينه وبين الكائنات الأخرى، وهي تمثل فضاء جماليا للمشاعر الإنسانية الرحبة التي هي الفضاء الآخر للذات لتفلت من ضغط الواقع نحو سمو الإنسان، لتكتسب القصيدة قانونها الذي من خلاله تنتج الدلالة الرامزة التي تقوم على حوارية بين الذات الشاعرة والكائنات الأخرى التي تتواصل مع حالته الخاصة، لتفتح له طريقا للعبور من الألم الكامن في اكتشاف ضراوة الكائنات البشرية التي تمارس الكذب لتبرير أغراضها المعادية عبر تاريخها الطويل إلى جمالية الحب الذي تتعامل به تلك الكائنات المتماهية مع الذات، لتبرز الوجه الجمالي للمشاعر الإنسانية التي تضاف إلى تلك الكائنات، فالزهرة ليست إلا انكشافا للذات أمام وعيها، حيث تجلى الشاعر أو ذاته في مرآة الماء، وهل هناك دلالة أقوى من ارتباط الماء بالحياة والعذوبة و الرقة و الصفاء، و ما يستجره الماء من تداعيات التجدد و الحياة، خصوصا إذا ما كان في التيه، والتيه في تراثنا يستجر الصحراء، إننا أمام قمة الرواء في اشد حالات العطش، لذا 
 
"لمحتني في مرآة الماء 
زهرة غسق من زهرات الدفلى 
كانت مثلي القوها في التيه هي الأخرى 
اقتربت مني 
كشفت لي ما تحت القمصان "
 
إن لحظة الكشف هنا ترتبط بالقميص الذي يأخذنا في رحلة نحو عوالم من التداعيات، ماذا يوجد تحت القمصان، الصدر، الجنس الذي يساوي المحرم، المساوي للوعي، و ما هي دلالة القمصان، هل هي قمصان يوسف في رحلته (قميص الشهوة، قميص الكذب، قميص الرؤيا)، ولماذا نزعت زهرة الدفلى تلك القمصان؟ هل لتتجلى الذات بكل براءتها وجمالها؟ ماذا تحت قمصان الزهرة؟ الرائحة ألفاغمة، الفاكهة المخبوءة في الغيب المحرم، العري الكامن في الأشياء! ولماذا تحتاج إلى ذلك الغور الذي تدليه لنا القمصان؟ لماذا تتلبس الذات كل تلك الأقنعة؟ لماذا نحتاج إلى كل ذلك الفعل المجهد حتى نرى؟ ولماذا كانت حالات الذات ملتبسة إلى الحد الذي تتلون فيه القمصان مرارا؟ و لكن القميص في المقطع القادم ـ على الرغم من غيابه ـ إلى أن هناك دلالات على حضوره في اللعب الفني في ذات الحقل من القصة، وهو يتأسس على الصدق الشمولي للحدس الوجودي، إنها تتمثل في لحظة الكشف الإنساني البارع للكذب /الغياب، في
 
"اعلم أن قد ابيضت عيناك 
و اعلم أيضا أن قد ازرقت 
هل آمنك عليه .. كما .. 
اعلم انك لا تدري 
لا تبصر إلا ما حولك 
غشاك ـ فغشيك 
أدركك العسس الليلي 
حتى أضحيت بلون الليل الحائل 
لا تغضب 
قالوا الذئب و لو قالوا غير الذئب 
لصدقناهم"
 
إننا أمام الإحالة المضمونية للقصة الكاملة للكذب المقصود في التراث العربي الإسلامي ـ  والتشكيك الذي كان يبديه يعقوب النبي لبنيه عندما جاءوا ليأخذوا أخاهم يوسف ليمتاروا، ويشكل القميص هنا حضورا في الغياب، إنه ما تسكت عنه القصيدة في هذا المقطع (غشاك /فغشيك) ليمثل الغلبة المطلقة للكذب الذي يصل إلى قمته في وجود القميص، والقول بأنه الذئب، إذا فالقميص هو قميص يوسف الذي خانه إخوته، و القوه في غيابة الجب، أليس الجب هو التيه، هو الغياب، التغييب القسري، القهري، لحامل الرؤى، إنه اصطفاف قوى الظلام أمام قوى النور، و أي كذب هو كذب الاخوة، و أي كذب هو كذب الأحياء الحضور على الحي الغائب، والحكم عليه بالموت والنفي في عالم التغييب، ذاك مصير يوسف الذي تحرسه قوى السماء فكيف يكون مصير يوسفنا الذي تغتاله قوى القهر والظلام؟ 
 
إن الإشارة في (قالوا الذئب و لو قالوا غير الذئب لصدقناهم) لتحمل الحضور المطلق للشاعر الرافض لكل التلفيق الإنساني على مر التاريخ في اشد حالاته الخاصة و العامة، حالته الخاصة التي تتمثل في الكذب على النبي الذي يتصل بالغيب، ويعلم من أمر الدنيا مالا يعلمه بشر، وحالته العامة في الكذب مطلقا كما يظهر في الكذب على الذئب، في قولهم إن الذئب هو الذي افترسه و لو قالوا الكلاب البرية أو غيرها لم يتغير جوهر الكذب في شيء، و ربما كان افضح له، لكن الاحتمالية المفتوحة للواقع هي التي جعلت اخوة يوسف يكذبون، لان الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يكذب و يعرف انه يكذب، و هو يفعل فعله ذلك لأمور كثيرة من مصالح الحياة، ذلك لتكذيب وقائع الحياة، لكن من كل شجرة الاحتمالات المتفرعة لا يحدث إلا حدث واحد منها في الواقع، لكنه في ذات اللحظة التي يتحقق فيها يبدأ في التشجر من جديد لعدم انتهاء احتمالات التحقق في الوجود، خصوصا عندما تكون المسألة خاضعة تحت خاصية الإرادة والقدرة ضمن محددات الواقع، لكن الشاعر هنا هو الذي يعيد صياغة المسألة المتعلقة بالاغتيال في الخفاء باعتباره يشترك في عملية الكشف عن الغيب لأنه يعيد تزييف المزيف ليصل إلى الصدق النابع من قاع التجربة الإنسانية في الشعرية.
 
والشاعر هنا لا يملك إلا أن يتجلد أمام هذا المشهد الوجودي الشمولي للكذب، رغم أن المعاناة تخرج بين الحين والآخر على الرغم من الشاعر، لتعكس ذلك الخوف من الغياب في حضور الكذب 
"لا تغضب 
حين اغني 
تأخذني أطيافي وتجنحني 
تحلق بي 
تبعث من مرقده تعبي 
تقيم اللهو، تلون لي أحزاني 
سامحني 
قد انساق وراء الحلم (على غير هدى) 
و أنغم أشجاني 
قد أنسى 
قد يفلت مني ألم ساه، 
أو يتمطى تعب واهن،
أو نغم تستند الروح على ساعده ،
قد يخطر لي في اللغو الجاثم صوت لا اعنيه و لا يعنيني ."
 
إن الإشارة المعماة في ضمير المخاطب في (لا تغضب) يعاود الشاعر طرحه مرات متعددة ليتجلى حاضرا من خلال التساؤل الذي تطرحه القصيدة (من هذا) لكنه يعاود الاختفاء حين يحرك الشاعر وعيه، ليجرجر القارئ في مزلجة الإيقاع حيث تظل القصيدة ملتزمة لعبة الخفاء و التجلي في قطبيه
 
"عذرا 
لا اعرف من لكن الإيقاع يحاصرني 
يذبذبني 
أتمنى أن لا اعرف 
لكن عربات السوق تجرجرني 
تهزئني الأطفال و تلعنني 
هل شاهدت كلاب جليد الإسكيمو ؟!"
 
إن ما ينقذ الشاعر من بين براثن النوسان بين قطبي الحضور و الغياب في لهب يتصاعد من نار الصحراء هو ما يشبهه، و هل يمكن أن يشبه الشاعر إلا شاعر مثله، يأخذ بيده في تيه الوجود الإنساني، ولكنه يبقى معلقا بين أتون الذات، و تضاريس الحياة ليستمر في الإبداع و الكتابة، ليحترق بنار المعرفة التي تفتح آفاق الكشف المطلق في إعادة الولادة، إنه التجاوز الإنساني، و العبور من خندق الموت إلى أسطورة التجدد في هباء العنقاء حين 
"أنقذني لهب العطش الصاعد من نار الصحراء 
و هديل يمامة كانت تلتمس الماء 
حين أطلت، 
رأت ما يشبهها 
ظنتني فرخا خاناه جناحاه 
أدلت بالريش و بالأعواد الخضراء 
فتعلقت بهديل المنقار الصاعد 
بين أتون الجوف وتضاريس الفجوة".
 
إننا هنا أمام قمة القصيدة، الختام، الذي تبدت فيه الذات أمام الآخر، الذات المنفية والآخر المعادي، الذات المتكاثرة في رموز الوجود و كائناته التي تضج بالقيم العليا للإنسانية، والآخر الذي يجتث وجود الشاعر و ما يشبهه، إن الضمائر المستترة في القصيدة توحي بالكثرة كما في (أخفوني) تلك الكثرة التي تتمثل في اخوة يوسف المعادين و المتواطئين على الكذب في اكبر الجرائم، محاولة قتل النبي و إخفائه و ربما ظهر أيضا في رمز السلطة (ابن سعد)، لكن الآخر المتكاثر في مفردات الوجود يمثل الجهة الأخرى المشابه للشاعر على الرغم من أنه دائما يشكل فردا في مواجهة المجموع، إنه النبي المسكون بالغيب، و ما سيأتي مسكون بالبشارة المتوارية التي تتفارر أبدا صوب الموت، صوب الوجود المأزوم  في مواجهة المؤامرة "إنما سبقت إلي الموت وهو قريب"، لكن الوعي بالشعر وبقضاياه و بوجوده يلح على الشاعر ليفضح فيها ما يراه من أمور تتعلق بعملية الإبداع نفسه، مندمجا في فضح تلك الغلالة من التغييب و في الكشف الكلي لما يتجلى في الخاطف من الترميز في
 
"عفوا 
هل استثني هذا الإيقاع 
الناغر كالقمل في جسدي 
لا اعني أن اسقط في ذاتي 
لا اعني أن اجعل من عاطفتي المشروخة مرآتي 
اعرف ماذا تعني العاطفة البلهاء 
اعرف ماذا في تشكيل القمر المدهوس بفخذ الهاء 
أي ثراء يستقطبه الرمز الأسطوري ـ إشعاع الفني التقني ـ إغواء التكوين 
الجوهر ـ الخلق اللغوي ـ افروديت الأنثى الرحم النهر الخالد 
اعلم أيضا : ماذا يعني الثبج اللزج الرهج السائد 
ماذا يعني عند الأحبار الحبر الرائد 
التجريب التغريب التغييب 
الواضح في التشفير البرقي 
و الغامض في مالا ادري قفا ـ كفا ـ يقفو 
القافية الكوفية 
قوقعة الوزن التطريب ."
 
ماذا بعد، قصيدة جميلة يشكل مقطعها الثالث اجمل ما كتب يوسف حسن من وجهة نظري الشخصية، و لكن الشاعر مشدود إلى الأمام، إلى ما هو أجمل، إلى تلك النجمة التي لم يضعها في زنار القصيدة بعد، وما زلنا ننتظر القادم الجميل.
 

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي