loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

قِرى الذئب

breakLine

 

سعيد عدنان || باحث وأكاديمي عراقي

 

للذئب نصيبٌ من قِرى الشاعرِ القديم ، ونصيبٌ من شعره ؛ ذلك أنّه صاحبُه في صحرائه القاحلةِ المجدبةِ  ، وأنيسُه حين ييأس من البشر !   كان  الشاعر القديم يُزهى بإطعام الطعام ، على شحّته ، ويُديرُ الكلامَ عنه ،  ويجعلُ منه  شيئاً يستمدّ منه مجداً وفخرا  . وهو في حاله تلك لا يقف به الأمر عند إطعام الناس ممّن يطرقه ليلاً ، أو يلمّ به نهاراً ؛ بل يمدّ قِراه إلى ذئاب الصحراء إن ألمّ به ذئبٌ منها ، والتمس عند ناره المعروف ! 
وفي الشعر القديم مواردُ شائقة من أحاديث الذئب وقِراه ، قد افتنّ بها الشعراء القدماء ،  وكأنّهم  ، على تعاقب العهود بهم ،  لا يريدون  طيّ حديثه ، والانصراف عنه ؛  حتّى في زمن العبّاسيين  فإنّ  منهم من أطاف به فصوّر شيئاً منه في شعره .
غير أنّ ما أريد أن أقف عنده هو موردٌ في أصمعيّةٍ جليلةٍ قالها أسماءُ بنُ خارجة حين ألمّ به ذئبٌ ساغبٌ ذات ليلة ! 
أمّا أسماء بن خارجة فإنّه شاعر مقلّ ، نشأ قبل الإسلام  ، وعُرف بالسيادة في قومه ، وامتدّ به العمر حتّى تُوفي في زمن ولاية الحَجّاج على العراق . كان شريفاً مُمدّحاً ، قبل الإسلام وبعده ، معدوداً في الصدارة من الرجال ؛ يقترب من ذوي السلطان حيناً ، ويبتعد حيناً ! قال عنه الحَجّاج حين بلغه موتُه : " هل سمعتم بالذي عاش ما شاء ، ومات حين شاء ؟ " . وكان ابنه مالك شبيهاً به ؛ بالشعر والسيادة ؛ ولي بعضَ أعمال الحجّاج ، وكانت حاله معه بين الرضا والغضب .
وإذا كانت  قصيدته هذه ، التي رواها الأصمعيّ ، ممّا قال بعد  الإسلام ؛ فإنّها ، مع  ذلك ،  مطبوعةٌ بطبابع الشعر القديم الذي قيل قبله  ، وليس فيها من جوّ  الدين الجديد شيءٌ غير بيتٍ واحدٍ يصف به جاريةً فيقول :
بنتَ الذين نبيَّهم نصروا ... والحقَّ عند مواطنِ الكَرْبِ 
ولولاه  لم يخطئ من يعدّها جاهليّةً صرفا  ؛ إذ هي ابنةُ هذا الشعر القديم الذي نشأ في البادية ، وفي جوّها ، وانطبع بطابعها ، وسار على نهج الشعراء الأوائل في صياغة أشعارهم  .
استهلّ الشاعرُ قصيدته بالصبابةِ التي تتخلّجُه ، والعاذلةِ التي تباكرُه ؛  يريد دواءً يستشفي به منهما ! لكنّه ، مع ذلك ،  يذكر الصَبابة  مزهوّاً بها فَرِحاً  ؛ أمّا  العاذلة فإنّه لا يذكرها إلّا ليعصيَها ، وليقولَ لها : إنّه صلبٌ قويُّ ليس للعذل منفذٌ إليه ، وإنّها ذاهبةُ العقل قد غاب عنها الصواب : 
إنّــي لَسائلُ كـــلِّ ذي طِبِّ ... مــــاذا دواءُ صَبـــابةِ الصَّـــبِّ
ودواءُ عــــاذلةٍ تبـــاكرُنـي ... جعلتْ عِتــابـي أوجــبَ النَّحبِ
أوَ ليس من عَجبٍ أسائلكمْ ... مــا خَطبُ عــاذلتي ومـا خَطبي 
أبــها ذهـابُ العقلِ أم عتبتْ ... فأزيـــدَها عَتْبــــاً علـــى عَتْبِ

حتّى إذا فرغ من بثّ صبابتهِ ، وتقريع عاذلتهِ ، مضى إلى شأنٍ أجلّ ؛ فأقام نفسه في مقام الفخر ؛ فافتخر  بقوّته ، وجسارته ، وركوبه الأهوال ، وبكرمه الذي أصاب منه الذئب شيئاً جزلا . وأوّل ذلك المقام أن يركب الشاعرُ الفلاةَ الغامضةَ النواحي ، المخوفةَ الأرجاء ، التي تُنسي الدليلَ هدايته ، وتُهلك الفرسَ الجواد إعياءً ، ليس فيها إلّا خفقُ أرواح الموتى ،  وتجاوبُ أصوات الجنّ  : 
بل ربّ خَـــرقٍ لا أنيسَ بــه ... نابـي الصُّوَى مُتمـاحلٍ سهْبِ
يَنْسَـى الدليـــلُ بــــه هدايتـَـه ... من هولِ مـا يَلقَى من الرُّعْبِ
ويكــــادُ يهلِكُ فــــي تنـــائفهِ ... شاؤُ الفريـغِ وعَقْبُ ذي عَقْـبِ 
وبه الصَّدَى والعزفُ تحسِبُه ... صَـدْحَ القِيــانِ عَزفْـنَ للشَّرْبِ
كابَدْتُـــه بـالليــــــلِ أعْسِـــفُه ... فــــي ظُلْمــةٍ بسَواهــمٍ حُـدْبِ
فإذا أتمّ ذلك ، وأحرز منه ما يُريد ، روى قصّته مع الذئب الساغب الذي ألمّ به ؛ فوصفه بأنّه بادي الشقاء ، محرومُ الكسب ، قد طال به الجوع ! ثمّ يبدو له أن يسائله عمّا أضاع في سالف عمره ، وعمّا أهدر  ؛  من دون أن يستبقي شيئاً ليوم ضغف وفاقة ! ويلومه أنّه لم يكن  حكيماً ، ذا لُبٍّ ؛  إذ جعل ما اكتسب يتبدّد منه !
ولـــقد ألـــمّ بنــــــا لنَــقريَهُ  ... بادي الشقاء مُحـارفُ الكَسْبِ
يدعُو الغِنى أن نــال عُلْقَتَـهُ  ... مـــن مَطْـعَمٍ غِبــاً إلـــى غِبِّ
فطــــوى ثَمِيلَتَـــه فألحَقَــها  ... بـالصُّلْب بــعدَ لدُونَـةِ الصُّلْبِ 
ياضلَّ سعيُك،ما صنعتَ بما ... جمّـعتَ مـــن شُبٍّ إلـــى دُبِّ 
لــوكنتَ ذا لُـبٍّ تَـعيشُ بـه  ... لفعلتَ فـعلَ المــرءِ ذي اللُـبِّ
فجعلتَ صالحَ ما اخترشتَ وما ... جمّعتَ،من نهبٍ إلى نهْبِ
لكنّه ، مع ذلك ، أراد أن يُري الذئبَ وجهَ الحزم والقوّة ؛  حتّى لا يطمعَ به ، فيتعدّى مقام المُعتر ، طالبِ المعروف  ، إلى مقام المتربّص الغشوم ؛ فقال له : إن كنتَ جئتَ لشرّ فقد لاقيتَ من هو أشدُّ منك وأقوى  ؛ في أيدينا سيوفُنا ، وليس لنا إلا هي ، وهذه الركائب ، فدعنا واذهب إلى أهل الغنم ؛ فإنّك بالغ منهم ما تريد . ثمّ نحن لا نعرفك ، وليس بينك وبيننا نسب ،  ولا جيرة :
وأظنّــــه شغْبـــاً تُــــدلّ بــــــه ... فلقــد مُــنيتَ بغايــــةِ الشــغْبِ 
إذ ليس غيرَ مُناصلٍ نعْصا بها ... ورحــــالِنا وركــائبِ الـــركْبِ
فاعمِدْ إلــــى أهل الوقير فإنّمـا ... يَخشى شذاكَ مُقَرْمِصُ الزرْبِ
أحســبتَنا ممَّــــن تُطيــفُ بـــه ... فــاخترتَنــا للأمــــنِ والخِصْبِ
وبغيـــرِ مــعرفــةٍ ولا نســـبٍ ... أنّــى وشَعبُك ليس مــن شَعْبـي
وحين يسمع الذئبُ ، ويرى بأسَ صاحبه ؛ لا يملك من حاله إلّا أن يستخذيَ ، ويُظهرَ حاجته ، ويدلَّ على مبلغ الجوع منه ، وهو في مزجر الكلب ، لا يدنو :
لمّـــا رأى أن ليـــسَ نافـــعَه ... جِــــدٌّ تَهـــاوَنَ صـــادِقَ الأرْبِ
وألــــحَّ إلحــاحـــاً بحاجَتِـــه ... شكـوى الضَّريرِ ومَزْجَرَ الكلْـبِ
ولــوى التكَلُّـحَ يشتكي سَغَباً ... وأنــا ابـنُ قاتــلِ شــدّةِ السـَّـــغْبِ
وإذ يستبينُ الشاعرُ حالَ الذئب ، ويرى الضُّرَ الذي مسّه ؛ يرجعُ على نفسه فيدرك أنّه قد قسا عليه ، وناله بشديد اللوم ، وأنّ من الحقّ أن يُضيّفَه ، ويدفعَ عنه المسغبةَ ؛ فيقف بين أبله ، بيده سيفُه ، يختار أسمنَها لتكونَ جَزَراً للذئب وعياله ، ويقضي حقّ ضيافته :
فرأيتُ أن قــد نلتُــه بـأذى ... مــــن عَذْمِ مَثْلُبـــةٍ ومـــــن سَبِّ
ورأيـتُ حقّــــاً أن أُضَيّـفَه ... إذ رام سَلمــــي واتقــى حرْبـــي
فوقفتُ مُعْتـــاماً أزاولُــها ... بمــهنَّــــدٍ ذي رونـــقٍ عضْـــــبِ
فعرضتُه في ساقِ أسمنِها ... فاجتازَ بيــــنَ الحـــــاذِ والكـــعْبِ
فتركتُــــها لعيــالهِ جَزَراً ... عَمْــداً وعلّـــقَ رحلَـــها صَحْبـــي 
وموردُ الذئب ، من بعدُ ، في الشعر القديم لا يُخفي مرامي الشاعر ؛ ظاهرَها وباطنَها . وإذا كان من ظاهر المرامي عند أسماء بنِ خارجة في هذه القصيدة التمدّحُ بالكرم والشجاعة والإقدام ، فإنّ في  باطنها ما  يذهب إلى تصوير الإنسان وقد أفلت زمامُ أمره من يده ، وتقلّبت به الحال فأصابه الضُّرُ والفقر ؛ وكأنّ الشاعر خلع على الذئب أحوالَ من رأى من الناس ممّن أضرّ بهم الزمان  من بعد سوء تدبيرهم ! 
وقد اختلف لحنُ الشاعر ، وهو يخاطب الذئب ، من لوم وتقريع ، إلى زجر وتأنيب ، ثمّ إلى إشفاق وعطف ! وربّما دسّ في طيّات خطابه ، وهو يلوم ويقرّع ، سخرية من هذا الذي لم يُحسن الصنع في إدارة شأن حياته ! 
إنّ موارد الشعر القديم ثريّةٌ لا تفتأ تتجدّد ، وتُتيح من المعاني ما لا ينفد ...!

لوم وتقريع ، إلى زجر وتأنيب ، ثمّ إلى إشفاق وعطف ! وربّما دسّ في طيّات خطابه ، وهو يلوم ويقرّع ، سخرية من هذا الذي لم يُحسن الصنع في إدارة شأن حياته ! 
إنّ موارد الشعر القديم ثريّةٌ لا تفتأ تتجدّد ، وتُتيح من المعاني ما لا ينفد ...!

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي