loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

كرة القدم والحرب

breakLine
2022-11-27

 

 

 

فوزي يمين || كاتب وشاعر لبناني 

 

 

في حين كانت الحرب تقطّعُ أوصال البلاد، كانت كرة القدم تجمعُنا، مجموعة من الأولاد الفائرين نُوصل النهار بالليل ونحن نتخابط بعضنا ضدّ بعض بكرة مستديرة كالحظّ تماماً، وعند كلّ خسارة يُواسينا الأكبرُ سنّاً بيننا بالقول إنّ الذي لا يخسر لا يربح، لتخفيف الوطأة علينا أو ربّما لإبقاء الأمل بالغد مفتوحاً في سبيل تحقيق فوز مقبل، مردفاً لتعزيز موقفه المثل القائل "إنّ غداً لناظره قريب" المأخوذ عن بيت شعريّ لقراد بن أجدع الكلبي:

"فإن يكُ صدرُ هذا اليوم ولّى فإنّ غداً لناظره قريبُ"

وإذا كان في هذا البيت الشعريّ دلالةُ الوفاء بالوعد حتى وإن كان فيه هلاكُ الروح، غير أنّ أرواحنا الصغيرة لم تكن حينها تعرف الهلاك لشدّة ما كانت تستبدُّ بها حماوتُها الفتيّة، وإذا ما كانت تُصاب من حين لآخر بنكسات مؤقّتة فسرعان ما كانت تنهض منها وتدفع بنا من جديد إلى اللعب، مثلما كان يُصاب الكثير من الأبرياء في الحرب حولنا بقذيفة طائشة فلا يجدون حيلة في أيديهم سوى أن يلملموا شظايا جراحاتهم الساخنة ويكملوا الطريق.

كانت الحارة الترابيّة عتبةَ بيتنا، ما إن أفتح بابَه حتى أصبح في الملعب. لم يكن عندي شورت. كالعادة كانت أمّي مشغولة بشؤون البيت تنفضُ عنه غبارَه ليستوي نظيفاً ومرتّباً، وأبي في الخارج مهموماً بترميم السيّارات القديمة، هوايته المفضّلة، فتناولتُ شورت أخي الأكبر، الواسع الفضفاف، وشددتُ كامرَه حول محيط خصري النحيف عاقداً منه عقدتين قويّتين عند وسط البطن خوفاً من أن يسقط عنّي أثناء الركض. من أوّل لمسة للكرة، سيطرتُ على الحارة بساقيّ الرفيعتين الخاليتين من العضلات والتي اتّضحَ أنّ إحداها أطولُ بفارق ضئيل من الأخرى بفعل الولادة إذ علمتُ لاحقاً من طبيب لامع أنّ السبب يعود إلى أنّ القابلة التي ولّدتني من الممكن أن تكون قد شدَّتْ بواحدة أكثر من الثانية وهي تسحبُني، الأمرُ الذي ساعدني بإعطائي إحساساً طبيعيّاً بالمراوغة لم أكن لألحظه إلّا بمرور الوقت، وقد ساعد ذلك أيضاً الكثير من اللاعبين العالميّين، أبرزهم البرازيليّ غارينشيا. كنتُ أمشي بالكرة دون النظر إليها كأنّها جزء منّي، وأخطف الأنظار بتمريراتي الدقيقة القاتلة. أستقبل الكرة من المدافع وأدور بها، أُطبِق على خطّ الوسط بإحكام، إلى أن أجد الفرصة الملائمة لتمريرها إلى المهاجم حتى ولو من ثقب الإبرة كما لو أنّي أفتح قفل الباب بقشّة. هكذا أُطلق عليّ لقب المايسترو، لشدّة ما كنت أتحكّم بإيقاع اللعبة، أسرّعُها وأبطّئُها بحسب مجرياتها، ثمّ أوزّعُها بتناغمٍ على رفاقي، في إيقاع ساحر يبدو أنّه كان يجري منذ البداية في عروقي.

هذا الإيقاع، نفسه، ساهمَ لاحقاً في تفتُّقٍ مُبكِر لبراعمي الشعريّة فوق مقاعد المدرسة، إذ ما إن ألقى علينا أستاذُ اللغة العربيّة في الصفوف المتوسّطة أوّلَ درس عروضيّ حول الأوزان الخليليّة حتى وجدتُ نفسي أكتب بسهولة عليه بل أجيدُ اللعب به:

"يبكي ويضحك لا حزناً ولا فرحا كعاشقٍ خطَّ سطراً في الهوى ومحا"

كان هذا هو البيت الذي دوّنه الأستاذ على اللوح، للأخطل الصغير، بشارة الخوري، مستخدماً إيّاه لتطبيق تفعيلات البحر البسيط وهو ينشدُه بصوت دافىء تقبِضُ عليه لهجةٌ قَرويّةٌ حادّة خصوصاً عند التلفُّظِ بحرفَي المدّ الواردين في عرضِه وضربِه، غير أنّي في تلك المرحلة من حياتي ورغم إعجابي بعذوبة الشاعر وجمال إلقاء الأستاذ، لم أكن أبكي ولا كنتُ أضحك، بل كنتُ ألعب، وكلُّ ما كنت أريده هو أن ألعب، وظللتُ على هذه الحال لعشرين سنة تقريباً، مخطوفاً باللعب ومُتيقّناً من أنّ الكرة، كالبيت الشعريّ، يتحكّم بها إيقاعُها، شيطانُها الخفيّ، والتي بدا أنّي كنتُ بطبيعتي قادراً على الإمساك بها، أمتصُّها، أراقصُها، ألتفُّ بها على نفسي وعلى الآخرين، مُلقِياً السحر في عيون المتفرّجين مثلما ألقي أبياتي الشعريّة في آذان المستمعين.

كنتُ لا أزال في الثامنة من عمري حين اندلعت الحرب، وكان نادي بلدتنا واسمُه "السلام"- يا للمفارقة، قد بادر إلى إرسال كشّافين إلى الحارات لاصطياد المواهب الصغيرة لأنّ عدداً لا بأس به من لاعبيه الكبار كانوا قد تركوا صفوفه للانضمام إلى الصفوف القتاليّة على الجبهات. هكذا وقع الاختيارُ عليّ من بين مجموعة من الأولاد لأنتقل من الحارة الضيّقة إلى الملعب الشاسع، دون أن يشكّل هذا الانتقالُ فارقاً كبيراً بحيث وجدتُ نفسي كأنّي كنتُ أنفّذ في السابق رسمةً على ورقة صغيرة والآن أقومُ برسمِها هي ذاتها على ورقة بحجم أكبر. انضممتُ في البداية إلى فئة الناشئين، ثمّ لم تكد تمرُ بضعُ سنوات حتى غدوتُ في عداد اللاعبين المعروفين.

من مجزرة "بوسطة عين الرمّانة" التي اعتُبرت الشرارة الأولى لاندلاع الحرب الأهليّة والتي وقعت بين فريق فلسطينيّ وآخر من اليمين المسيحيّ، إلى بوسطة النادي التي كانت تقلُّنا في عطلة الأسبوع إلى خارج البلدة لخوض المباريات.

من وراء زجاج البوسطة تلك، تعرّفنا إلى لبنان. ننطلقُ من بلدة ساحليّة صغيرة في الشمال باتجاه مختلف الأقضية والمحافظات، عابرين الحواجز إيماناً منّا بأنّ لعبة كرة القدم هي جوازُ مرورنا الأكيد، وبأنّها تصالح ولا تخاصم، قافزةً فوق الفروقات ومتخطّيةً جميع الانقسامات.

ورغم هذا، انقسم اللبنانيّون ودخلوا بلا هوادة في حرب طاحنة، وانقسمت بالتالي العاصمة بيروت إلى "شرقيّة" و"غربيّة"، فانضممنا بحكم الجغرافيا مثل غيرنا من الأندية المسيحيّة إلى اتّحاد "الشرقيّة" حفاظاً على سلامتنا، بينما انضمّت في المقابل وللسبب نفسه الأندية الإسلاميّة إلى اتّحاد "الغربيّة". صار هناك اتّحادان، وصارت هناك بطولتان.

توالت المباريات وتوالت المجازر، فكان لنا من هذه الأخيرة النصيبُ الوافر بمجزرة ارتُكبت بحقّ بلدتنا الثانية التي نصطاف فيها، دخلها الغزاةُ فجراً تحت جناح الغدر ولم يكن فيها في ذاك الشهر، حزيران، سوى تلامذة يستعدّون للشهادة الرسميّة، وقد أودتْ بزعيمنا وزوجته وابنته الصغيرة وثلاثين من أهلنا بحجّة توحيد البندقيّة المسيحيّة، في الوقت الذي كان فيه البثُّ التلفزيوني المباشر للمونديال قد بدأ يفِدُ إلينا وبدأ نجم مارادونا يلمع في السماء.

وكما تطوّرت استراتيجيّةُ اللعب، بمرور الوقت، تطوّرت كذلك استراتيجيّةُ الحرب. ازدهر التكنيك والتكتيك. دخلت إسرائيل إلى العاصمة بيروت، فتصدّت لها المقاومةُ الوطنيّة، فانسحبت مُحتلَّةً الجنوب. خاض المسيحيّون حربَ تحرير ضدّ سوريا وحربَ إلغاء أخرى ضدّ بعضهم فدمّروا "الشرقيّة" على رؤوس أبنائها، إلى أن وضعت الحربُ أوزارها باسم اتفاق الطائف في السعوديّة، ليُنتخَب بعده أوّل رئيس للبنان- وهو ثاني رئيس للجمهوريّة من بلدتنا، ثمّ يُغتال في عيد الاستقلال بعد أيّام قليلة على انتخابه. ربحتْ ما كان يُسمّى بـأحزاب "القوى الوطنيّة"، وانتقل الاتحاد إلى "الغربيّة"، فانتقلنا بطبيعة الحال معه.

وكنّا إذا ما اشتدّت الظروف وانقطعت الطرُق ساحلاً من الشمال إلى بيروت، صعدنا التفافاً من صوب طريق ضهر البيدر المرتفعة 1500 متر عن سطح البحر لننحدر بعدها إلى سهل البقاع فبيروت، أو استقللنا من مطار القليعات في الشمال، طائرةَ سفر تابعة لطيران الشرق الأوسط، لنلعب، وبعد ربع ساعة من بدء المباراة تسقط قذيفة مدوّية بجانبنا فنعود أدراجنا ونحن نتساءل في سرّنا عن هذا الشغف الذي يجرفنا بلا كلل، صارخين من هلع: يا لنا من مجانين!

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي