loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

لقاء في بوليفارد هوسمان

breakLine

 

مهند كريم التميمي / كاتب عراقي

لربما لم نلتقي , لم نلتقي منذ زمنٍ طويل , لكن شاءت الأقدار والتقينا مجدداً في ذلك اليوم , بعد مرور عامان على لقائنا الأخير , وذات ظهيرةٍ محملة بالغيومِ والزوابع الممطرة المشبعة بالبردِ القارص ,,,, حينما كنت أقفُ على جانبِ الطريق في بوليفارد هوسمان في أحد شوارع باريس , منتظراً وصول ذلك الباص للعودة إلى المنزل , وبعد مرور الوقت فجاةً يهمس لي أحدهم عن قرب ( جوزيف ) !!! , ( جوزيف ) أهذا أنتَ حقاً ؟؟؟ , فنظرتُ للخلف وإذا بــ ( أبريال ) كانت تقف في الخلف وهي تحملُ بيديها بعضُ الأكياس الورقية , وهي في حالةِ صدمةٍ وتعجب !!!!! , ودونَ شعورٍ منها سقطت الأكياس من يديها أرضاً , ثم شرعّت ذراعيها واتجهت نحوي مهرولةً بقوة , حتى قامت باحتضاني أمام الجميع , دون أن تشعر بردةِ فعلها في ذلك الوقت , وهي تصرخ ربااااه , رباااه , ربااااه شكراً لك على هذه الصدفة التي كنت أنتظرها منذُ وقتٍ طويل , وهي ما زالت تلفُ ذراعيها الطويلتانِ نحو عنقي بشدة , وبعد لحظاتٍ عادت إلى الوراء خطوة ثم نظرت لي نظرات تُشيرُ إلى الغضب والتعجب قائلة ( ألا تخجل من نفسك أيها الرجلُ المتكبر ) أن تختفي فجأةً تحتَ ظروفٍ غامضة طيلةَ هذه الفترة الطويلة , دون أن تبحثَ عني أو حتى تقومُ بالسؤال علي , ما الذي دهاك يا رجل هيا انطق تحدث ؟؟؟ , ألستُ انا من تستحق السؤال عنها ؟؟؟؟ , باتت ( أبريال ) كعادتها تتحدثُ ، تسأل وتجيب في آنٍ واحد دونَ التوقف عن الكلام , أو حتى تنتظرُ رداً مني على حديثها الطويل جداً , وما بين حديثها الطويل وبين عتابها وعصارة غضبها المفرط , الذي كان يفتكُ في منتصفِ جمجمة رأسي فتكاً عظيماً , صمتتْ برهةً من الوقت ثم عادت من جديد , تنظر للمارة من حولها ثم تعود متفرسةً بي , وعيناها العسليتان تقدح شرراً وهي تقول ( لقد أتعبتني جداً , أجل أانهكتني , و أوجعت قلبي بحديثي الطويل معك ) !!!! أودُ أن تصحبني إلى أحد أماكننا القديمة , التي كنا نرتادُها من ذي قبل , نزورها ونجلسُ هناكَ ساعاتٍ طويلة دونَ كللٍ أو ملل , أتذكر تلك اللحظات الجميلة قبل إختفائك الخانق المزعج بالنسبة لي , أود احتساء مقهى , أجل يا جوزيف مقهى بالكامل , عسى ان يهدأ هذا الصداع الذي أصابني بسببِ كبريائكَ الذي صفعتني به , وأفعالكَ المتطفلة غير الناضجة , هيا أيها الرجل هيا , هيا لنرحل من هنا , إلى حيثُ كنا نجلسُ هناك , حينها احتضنت ذراعي اليسرى بذراعيها البيضاوان بشدة , ثم نظرت الي بنظراتِ تأملٍ مدججة بألفِ سؤال , كطفلةٍ صغيرة لم تبلغ العشرين عاماً عالقة بعشقِ أبيها , وهي تقول ( لقد أفجعتَ قلبي كثيراً , بسبب اختفائك المفاجئ عني ) , إنكَ لا تدركُ تماماً مالذي فعلته بي حقاً يا جوزيف , لقد انتهى بي المطاف لأن أكونَ طريحة الفراش لمدةٍ طويلة , لا يعجبني الخروج من منزلي لرؤية أحد , أو التحدث مع أحد اطلاقاً , كنتُ أراهن بيني وبين نفسي على نهايتي الوشيكة ، على موتي , كانت أبريال تتحدث دون توقف , مازالت تتشبثُ في بذراعي اليسرى بقوةٍ دونَ شعور , بينما كانت تنظرُ هنا وهناك ثم تتخطاني بخطوتين إلى الأمام , توقفت أمامي وما تزالُ تُمسك بي وعيناها الغائرتين تصوب عيناي بلهفةٍ واشتياق , كأنها تود أن تكشف عن سرها الدفين , سرها الذي كانت تتكتمُ عليه منذ سنين طوال دونَ أن تكشفَ عنه يوماً , ثم صمتت لبضع ثوانٍ عادت للتشبث بذراعي من جديد , يسبقها اللوم والحيرة وانشغال البال دون أن أنطق بأيةٍ كلمة حتى هذا الوقت , وفجأة  تنهارُ عبثاً بالصراخ وهي ترتعدُ غضباً , بما سببه صمتي لها وهي تردد ( جوزيف ) !!! , منذُ أكثر من ساعةٍ تقريباً وأنا أتحدثُ دونَ انقطاع , وأنت لم تحرك ساكناً أبداً ألستَ سعيداً برؤيتي مجدداً ؟ , حينها شعرت بأن تلك الذرات الصغيرة جداً , الأشبه بالجسيمات الغير قابلة للكسر , التي كانت تكتم على حسي ونطقي لتمنعني من الحديث معها دون سبب , بدأت تتفجرُ كـــ بركان كراكاتوا لتصهرها ثم تحولها إلى رذاذ فوضوي داخلي , لتحررَ نطقي من هذا الصمت القاتل الذي أشعلَ بداخلها نيران جعلتها تحترق , لتنتج تلك الرعشة الغائرة التي لا تستطيع السيطرة عليها في كل وقت , أو ذلك العَرَق الذي يملئ جبهتها وجبينها حتى راحاتِ كفيها الناعمتين , وفجأةً دون شعور قمتُ بقبضِ كفيها المتعرقتان بقوة قائلاً : أبريال !!! أنا لم أكن أنوي الإختفاءَ فجأة , لكنني كنتُ أعاني في ذلك الوقت , مررتُ بأزمةٍ نفسيةٍ جعلتني أبتعد دون أن أفكر بشيء , بشيء إطلاقاً يا أبريال , كل ما كنتُ أفكر به , أن أكونَ بعيداً , بعيداً جداً للحدِ الذي جعلني أقيمُ في منزلي لفترةٍ طويلة , دون الخروج لمقابلةِ أحد أو الجلوس في سان جيرمان لإحتساء قهوتي كالمعتاد , وذاتَ صباحٍ حينَ كنتُ غارقاً بالنوم المفرط , كان أحدهم يطرق باب منزلي بشكلٍ مفاجئ دون توقف , صحوت من نومي العميق وكان جسدي المتنمل , غيرَ قادرٍ على الحركة  بتاتاً , ورأسي المثقل من فرطِ  ذاكَ التفكير الذي كان يفتكُ به في كل وقت , حاولت النهوضَ مراراً وتكراراً ولم أنجح بذلك , عدتُ إلى النومِ مجدداً دون أن أشعر , وبعد مرورِ الوقت صحوتُ من نومي في الثالثةِ ظهراً , تذكرت ما بين الحلمِ واليقظة , بأن أحدهم كان يطرقُ بابَ المنزلِ في الصباح , دون أن أستطيع النهوض من فراشي لمعرفةِ من كان ذلك الطارق , ذهبتُ لاملئ إبريق الماء كي أسقي بعضَ النباتات المتواجدة في باب المنزل , وجدتُ أحدهم قد ترك لي مغلفاً بريدياً بجانبِ الباب لا أعلمُ ما بداخله , حملتُ المغلفَ وقمتُ بسقاء تلك النباتات وإغلاق الباب مجدداً , ثم وضعته بجانب التلفاز دون الإطلاع على ما في داخله , ذهبتُ لتحضيرِ قهوتي ثم عدتُ بها أتخطى قاصداً الجلوس على الأريكة , بينما كنتُ أحتسيها شيئاً فشيئاً قمتُ بتشغيل التلفاز , وبدأتُ بمشاهدة البرامج التلفزيونية , وما زال ذاك المغلف ملقىً أمام عيني , نهضتُ من مكاني حملتهُ ثم عدتُ مجدداً , قمتُ بفتحِ المغلف وإخراج ما كان يحمله من رسالة لي , بدأتُ بالقراءة وإذ بمسؤول قسم المبيعات , يريد إخباري أن رئيسه المتكبر المتهور , صاحب الشعر والذقن المصبوغ بالأسود , قد أنهى خدماتي هذا الصباح مع مرفقٍ بقيمة مائة فرنك فرنسي ك نهاية خدمة , هكذا أصبحتْ تسوء حالتي يوماً بعد يوم , كانت جميع الأشياء تَسوَدُ شيئاً فشيئاَ في حياتي وأمام عيني , لتجعل مني رجلاً بائساً عديم الفائدة , لا يستطيع فعل أي شيء سوى الاستسلام للنوم , نومٌ مفرط ٌ عميق يا أبريال , وبعد لحظاتٍ من ختام حديثي توقفنا في منتصف الطريق , وبدأتُ أتفرس في تفاصيل عيناها بشكلٍ غريب كأني لم أراها منذُ قرونٍ عدة , فجأةً خيمَ علي الصمتُ القاتمُ مجدداً , ليقبض على ما تبقى من أنفاسي المحترقة , وبعد لحظاتٍ قمت باحتضانها أمام المارة دون أن أشعر بذلك , ثم انفجرت بالعويلِ والبكاء بصوتٍ عالٍ , وأنا أقول : أنا رجلٌ فاشل , رجلٌ لا يصلحُ لأي شيء , أيُ شيءٍ على الإطلاق , و أبريال انهارت بالبكاء وهي تضع كفيها على خداي ودموعها تنهالُ على وجنتيها المحمرتان , يكفي ذلك يا جوزيف لقد أوجعتَ قلبي في لقائنا هذا , أقسم لك بأنني سأبقى معكَ وقربك , وأمضت تبادلني نفس الشعور وهي تتألم وتتمزق في داخلها مراراً وتكراراً , ربما شعرت بتلك المشاهد المؤلمة حقاً , ثم طلبت مني الجلوس على أحد المقاعد التي كانت بجانبنا , جلسنا سوياً وهي تضع رأسي على كتفها الأيمن قائلة : جوزيف عليكَ أن تُدرك جيداً أنك الرجلُ الوحيدُ الذي أؤمن به , ولن أتخلى عنهُ مهما حدثَ بيننا , يجب أن تثق بأن هذا الكتف , سيكونُ سنداً لك , سنداً صادقاً وفياً مخلصاً لك , في جميع الأزمان يا جوزيف , نهضتْ ثم قبلتني بين عيني , وهي ترسم بسمة على شفاهِها قائلة : هيا لنرحل الى المنزل يكفي هذا , لقد كان لقائنا شاقاً ومتعباً جداً هذا اليوم , وهي تُمسك بيدي تارةً تبتسمُ وتارةً تبكي دونَ شعور , فحملنا سوياً تلك الأكياس الورقية وما زلنا متشبثين بأذرعِ بعضنا البعض استأجرنا تكسي وتوجهنا إلى منزلها ومن ثم عدتُ الى منزلي من جديد ..

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي