loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

نوستالجيا المسرح.... " كلام بلا حروف" إستنطاق مشهدية الذات

breakLine
2023-03-19

 

نصير الشيخ / كاتب عراقي

 

 

ــ ثمة مايبهج أحياناً حين نستعيد شيئاً يلصفُ من تلافيف حياتنا، شيئا على شكل فعلٍ او حركة لها وقعها في البناء الشخصي،وخاصة ان كان مزداناً بسماته الثقافية وروحه الإبداعي.ومتزامنا بالطبع مع فورة الروح الشابة والمتوثبة من أقانيم القراءات الأدبية والفكرية والسابحة في عوالمها الشعرية وبمعنى القبض على هدفٍ أسمى..
من هنا أستعيد الكتابة عن حدثٍ لي مرَّ وتجربة مدهشة ومحاولة جريئة أنا الخارج للتو من شرنقة سلطة الأب وتقاليد العائلة الكنسية في التشديد على الوجود الدائم في فضاء البيت!! أقول تجربة مدهشة في وقتها إلا وهي " التمثيل" " الصعود على خشبة المسرح" الأئتلاف مع مجموعة لتقديم عرض مسرحي،والأصطفاف لفكرة متقدمة وعياً وفعلا يمثلها المسرح في العرض الصامت "كلام بلا حروف" فكرة وأخراج " عباس داخل"..تلك الدائرة التي وقفت تحت بقعتها الضوئية مرة واحدة.. لم تعاد لابسبب الرغبة في المعاودة بل للظروف التي مرت،وعجلات الأزمنة التي تناوبت على اعمارنا في جدلية الغياب والتخفي .
وأنا اعيد حساب تلك الخطوات المستمرة وربما المتمردة،التي قطعناها عبر شوارع مدينة " العمارة" ومساحات الأرصفة التي ضمت سجالاتنا،وأسيجة الحدائق المورقة أنذاك التي أتكئنا عليها وشهدت احتدام حوارنا..كلها برفقة الصديق المسرحي " عباس داخل حبيب" الطالب في معهد الفنون الجميلة في البصرة/ قسم المسرح / وانا الشاعرالفتي المتوهج بقراءاتي والملتاع بجمرة الآداب العالمية وفضائاتها الساحرة..هكذا الخطى تشيرالى منتصف عام 1980،وشبح الحرب يلوح ويخط سواداته على بنايات المدينة....حوار أستمرلأيام والنقاش يحتدم،نسبر غور ماقرأناه وماعرفناه من ضفاف الكتب وبطون المجلات الدورية الصادرة أنذاك في فن الشعر والفكروالرواية والفلسفة...جذبني عالم المسرح في مفهومه النظري عبر طروحات المحتهد دوما صديقي ورفيق خطاي وأبن منطقتي المجنون بفن المسرح "عباس داخل حبيب" ..هذا الحوار الطويل عن المسرح يستعيد مني صورة " التلميذ" بالدراسة الإبتدائية وحضوره عدد من العروض المسرحية التي كان يقوم بها النشاط المدرسي أنذاك..او ثمة فرق مسرحية تقدم عروض المسرح الشعبي على القاعة التي تكاد ان تكون وحيدة في المدينة " قاعة مسرح التربية"..


 قصيدة (( حفار القبور)) لشاعر الحداثة الأول (( بدر شاكر السياب)) كانت هي المتن النصي للعمل المسرحي،ومضمون العمل وشفرتهِ، البحث عن الحقيقة ومن ثم كشفها أمام الضوء في ظل أنظمة الفاشست..!! ولأن أرواحنا تواقة في حينها للجديد والمدهش ..بل وللجرأة،أصبحت الخطى تستعجل المسيرللتنفيذ والرهان مسبقاً على نجاح الفكرة/ العمل وجدة التنفيذ..وجدتنا متلهفين لتقديم النص عرضاً مسرحياً..أي نص ؟ نص خالٍ من الحوار....!!!
من أين أتتك الجرأة ياعباس..؟ وما أنت عازم عليه بكل هذه الجرأة في إختلاف الفكرة والعرض،مالذي يعتمل بدواخلك كي تنطق به، حركة وفعلامسرحياً جاداً لاصوتاً نجهرُ به أمام العامة وآذان السلطاتِ بكل وجوهها.فكان سيناريو((كلام بلا حروف)) نصاً وقف على عتبات التنفيذ وبأداء " المسرح الصامت بلغة الجسد البانتومايم"...إذن هو عرض إدائي بتعبيرية عالية تفوق اللغة المنطوقة يصل حمولته المعرفية وشفراته الدلالية الى متلقٍ بأقرب صورةٍ وبتكثيفٍ عالٍ ومعمق.خطوة تحسب لنا كفريق عمل بحساب إختلافها في لحظتها ووقتها ومنها..وفي قرارة إنفسنا وخطواتنا الجامحة، لا بدلالة التوثيق التاريخي للعروض المسرحية العراقية في هذا الفن المحدث تحديدا..
السيناريواكتمل..وأفكار العرض معدة للانطلاق، ويبقى المنفذون أي " ممثلو العرض المسرحي" هنا أئتلف عدد الأصدقاء ضمن فريق العرض تحدوهم رغبة تجسيد شخوص السيناريوتحت توجيهات قائد الأوركسترا " عباس داخل"...أصدقاء تعاطفوا مع الفكرة وحملوا جدة التنفيذ (( ظافر سلمان " رحمه الله"...سعد جلوب..سلام عبد الحسين..حامد عبد الرحمن..عامر عيدي في الجانب اللوجستي للمسرح إدارة وتقنيات ضوئية..ميسون خليل الممثلة المجتهدة دوما بدورالمرأة،والمقيمة الآن في مهجرها في إستراليا.وأخرون شكلوا مجاميع صغيرة في مشهدية العرض المسرحي.
بدأت البروفات صيف عام 1981،وعلى قاعة مسرح مبنى ا" لإتحاد الوطني لطلبة العراق فرع ميسان في حي الأسكان" أنذاك، ذلك أن العمل قد تبناه دعماً وأنتاجاً " الإتحاد الوطني" ممثلا برئيس الفرع " ماجد فاضل الزبون" والصديق الشاعر" ماجد عبد الصاحب" ممثل النشاط الثقافي أنذاك...وتائر العمل والحضورللبروفات تصاعدت مع لذة الإحساس بتقديم شيئ جديد،أنتاب صعودي على خسبة المسرح إحساساً من نوع مختلف إمتزجت فيه الغرابة مع الدهشة مع إرادة ما على أن اكون ..لاسيما شعوري وأنا انظر للمقاعد الفارغة في القاعة،يملؤني شعورغريب وسؤال مؤرق معا...هل أن المسرح له قداسة...؟ كيف لك يا" نصير" مواجهة الجمهورساعة العرض..؟
هل تكفي ثقافتك لمخاطبتهم، أم لابد لك من دربة وفعل ومعايشة وتقمص دورٍلإقناعهم بحضورك وبالتالي يحقق لك قيمة هذه التجربة الثرة.ومابين شدٍ وجذب وتعديلاتٍ "رقابية" من الجهة الداعمة والمنتجة وتخفيفا عن التأويلات السياسية وإشاراتها الضمنية في العمل،وطروحات الزملاء الممثلين واستنتاج افكار جديدة تتحول الى حركة وتجسيد جسدي معبروهذا هوديدن العمل "كلام بلا حروف" وجدة طرحه وتمثيله،فكان التغييروالحذف بيننا كخلية نحل، عاملين على إيصال لغة الأشارة وحمولاتها الدلالية الى متلقٍ نحسبه "نموذجي"..!!

ذلك أن قائد الأوركسترا" عباس داخل" بلغته الإحترافية، وخبرته المسرحية وذكاءه وفطنته، تدارك كل مايشوب العمل من تفسيرات في غير مكانها،وحافظ على إيقاع التمرين والبروفات واستطاع إدارة هذا الحوار الصامت وبفعل درامي شكله الممثلون، مستنطقاً فينا لغة الجسد وصراخ حوارنا الصامت (( البانتومايم))..
وحانت ساعة العرض على مسرح قاعة التربية الساعة الخامسة عصرا من يوم 20.8.1981، وسط حضورجمهور نوعي شغل كراسي القاعة...أبتدأ العرض وإطفأت الأضواء، وتحرك الممثلون وبدأت المشاهد،وأنا " أهرس الساعات في الخندق" على حد قول درويش..!!
قبل دخولي خشبة المسرح لإداء دوري " الدفان" إمتزجت لدي مشاعرجمة هي من مخاوف وزهوٍوجرأة وإزدياد نبضٍ قلب..كلهما مجتمعة قادتني للدخول ومواجهة عتمة القاعة وأنفاس الحاضرين...القاعة في حالة " دِمْ" اي " إظلام"...اندفعت تحت بقة الضوء الأصفرلأداء دوري " الدفان" الباحث عن الحقيقة ممثلة بوردة وغصنها، هو يدفنها بعيد عن اي اعين الرقباء والعسس الليلي ،ثم يحفر قبرها ليريها للعالم اي " الحقيقة" ...أدخل في دهشة وترقبٍ متلفتاً من حولي، خائفاً من المخبرين الذين شوهوا وجه الحقيقة او المعنى الإنساني،بعد ان دفنت الوردة في يومٍ ما، هاأنا استعيد إحيائها،واخراجها من قبرها، أضمها على صدري، أداعبها ، أشمها، ترافق هذا المشهد موسيقة تصويرية مؤثرة..ولحظة انغماسي في هذا العشق الإنساني،  يباغتني بطعنني من الخلف في ظهري نصل سكين جارح،تشلٌ حركتي، آخرُ صريعاً مضرجاً بدمائي، مشهد مؤثريؤكد مقتل الحقيقة ومعناها الإنساني في كل الأزمنة وبمختلف الأمكنة...مشهد أثارالحاضرين على صدقِ إداءهِ ــ طبعاً بحسب ما قيل لي بعد إنتهاء العرض المسرحي ــ يقابلني علة الجهة اليمنى من المسرح الفنان " ظافر سلمان" في اداء مدهش وصراعه في كيفية الصمود امام وحشية القوى لأنتزاع أدميته ومعناه، عبر تأديته الدوروتفجير طاقاته الجسدية وتعبيرية اصابع اليدين في فعل مسرحي مؤثروخلاب،شكل ثيمة مؤثرة لهذا العمل " المتفرد" .. لتنثروسط المسرح وتحت إضواءه الفنانة القديرة "ميسون خليل" لغة فرحٍ ممزوجة بأسى عبر رقصها التعبيري الذي يشي بإعادة الحياة وفصولها.
بقي أن نقول فيما يخص فكرة العمل " كلام بلا حروف" أن قصيدة السياب " حفار القبور" كان شخصية تستأنس بدفن الموتى الوافدين اليها من قتلى الحروب والنزاعات والموت بأنواعه مقابل ان يقبض ثمن عمله هذافي دفن الأجساد التي ترده وفي أي مكان من المقبرة " أنه الرزق الحلال" ،فيما أخذ سيناريو عباس داخل قلب المعادلة ووضع شخصية " الدفان" هي في كشف الحقيقة ومعناها الإنساني وتعرية وجوه الظلام وقوى الدكتاتوريات والفاشست.
إن العرض المسرحي (( كلام بلا حروف)) والذي استمر لمدة يومين وبحضور جمهور نوعي، هو تجربة إحسبها جادة وثرة وأنا استعيدها هنا بعد كل هذه السنوات،مابقي منها،من شاركني التمثيل والإداء،من اقتسمنا سويا لقمة الطعام في كواليس المسرح،من إضحكنا،ومن اختلف معنا، انها ورشة الحضور الإنساني في وقتها لشباب حالمين أن يقولوا ويفعلوا وكان المسرح دائرة الطباشير" الميسانية" التي إئتلفوا فيها وعبروا منها الى تخوم الوجود المعنوي لكل منهم..
24.6.2021                                                                                                
فولدرالعرض المسرحي / البانتومايم " كلام بلا حروف"

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي