loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

هلْ تكذِب اللُّغة؟

breakLine
2023-03-18

قراءة في كتاب "اللّغة والكذب" لهرالد فاينرش


مجتبى المعن | أكاديمي عراقي

 

تخلَّتْ اللّسانيّات عن نقد الكذب وذمّه والتّغنّي بِمَحاسِن الصِّدق ومدحه، وابتعدَتْ عن وجهة النّظر الأخلاقيّة (الدّينية-الفلسفيّة) في تناوِل الكذب، ولَم تُقدِّم رأيها بِتصنيف الكذب في ضِمن المنظومة القِيَميّة الصّالِحة وغير الصّالِحة. وفي المُقابِل، لَم تُتناوَل مَسألة الكذب هذه مِن النّاحية اللّغويّة الصّرفة، وإنْ كانَتْ ثَمّة بعض المَلحوظات المَبثوثة في بحوثٍ مُتفرِّقةٍ أُشِير إليها واعتُمِد عليها وانطُلِق مِنها في تحليل ظاهِرة الكذب، وتُعالِج اللّسانيّات الكذب بِإجراءٍ تحليليّ بِوصفه استراتيجيّةً تُشاطِر الصِّدق في تمظهرات الخِطاب.

الكذب موجود في الكون، فينا ومِن حولنا، ويُمكِن على وفق هذه النّظرة تعريف الإنسان بِأنّه: كائِن قادِر على الكذب. وهذا التّعريف دقيق دقّة تلكَ التّعريفات الواصِفة الإنسان بِأنّه: كائِن حيّ قادِر على التّفكير، والكلام، والضّحك. وقَد يكون بالطبع تعريفًا ينمّ عن كراهيّة لِلبشر، لكنّه حقيقيّ، ترى الفلسفة مُتمثِّلةً بـ(أوغسطينوس) أنّ الكذب يحدث عندما تكمن نِيّة الخِداع وراء قول الجُّملة، في حين ترى اللّسانيّات أنّ الكذب يحدث عندما تكمن وراء الجُّملة (المنطوقة=الكاذِبة) جُملة أخرى (غير منطوقة=الصادِقة)، تتقابَلان في علاقة تناقضٍ، تقابُل حرفَي الإيجاب والنَّفي: (نعم/ لا).

وإنّ ظاهِرة الكذب تتمّ بِاحتوائها على جُملتَين، لا جُملة واحدة! إحداهما نسمعها ولا تتطلَّب زيادة توضيح في حدّ ذاتها ولكنّها غير صادِقة، والأخرى لا نسمعها، وتظلّ مُنطَوية على الحقيقة. وهذه الجُّملة صادّقة، وهي لا تُخبِر بِأيّ شيءٍ مُختلِفٍ عن الجُّملة الكاذِبة، غير أنّها عكسها تمامًا، وهذا يعني لغويًّا أنّ الجُّملة الصّادِقة مُطابِقة تمامًا لِلجُّملة الكاذِبة بِاستِثناء حرف النَّفي (لا). وإنّ الجُّملة الصّادِقة ظلَّتْ غير منطوقة لكنّ حُكمنا بِأنّ الجُّملة المنطوقة كاذِبة وعلينا تشخيصها بِوصفها استِعمالاً مُشوَّهًا لِلّغة، يعتَمد أساسًا على افتِراض وجود هذه الجُّملة غير المنطوقة -هذه الجُّملة بِالذّات وليس جُملة أخرى- في الفضاء الواقعيّ لِلحقيقة. ودون هذا الافتِراض يصبح الحديث عن الكذب غير وارد إطلاقًا، وعلى وفق المُقارَبة اللّسانيّة لِلكذب يُمكِن عدّه مَظهَرًا لازدواجيّة الخِطاب، لا لازدواجيّة التَّفكير مثل ما يرى الفلاسفة.

ولا يُمكِن أنْ ندرج كلّ ما هو غير حقيقيّ في المَعنى الحَرفيّ لِلجُّمل تحت عنوان الكذب! فـ(الاستِعارة) مثلاً، لا تُمثِّل خدعةً، وإنّما هي انصهار لِحِساب احتِمالات المَعنى المُتوقَّعة، وسبات توقّعاتيّ ينتهي بعد أنْ يتحدَّد المَسار الاستِعاريّ، وتُفعَّل الجُّمل المُطابِقة لِلفضاء الواقعيّ، ويكون مَدلول الاستِعارة مُحدَّدًا، ودقيقًا، وملموسًا، ومِن غير المنطقيّ أنْ نقول: إنّ دِلالة الكلمات حقيقيّة، ودِلالة الاستِعارات غير حقيقيّة، فالكلمات بِلا سِياقٍ فارغة، لا حقيقيّة ولا غير حقيقيّة، والكذب غير مُرتَبِطٍ بالاستِعارات، واللّغة لا تكذِب علينا ولا نكذِب على أحدٍ بِاستِعمال المجاز؛ لأنّ أفكارنا تصل إلى المُتلقّي نقيّةً غير مُشوَّهةٍ إذا كانَتْ صادِقة، سواء أبنيناها على الكلمات العاديّة أو الاستِعارات. والمُفارَقَة أنّ ((هناكَ مِهَن بِأكملها يَعتقِد النّاس مُسبَقًا أنّها تدفَع أصحابها مُجبَرين إلى الكذب، مثل: رجال الدّين، والسّياسيّين، والمومسات، والدّبلوماسيّين، والشّعراء، والصّحفيّين، والمُحامِين، والفنّانين، والمُمثِّلين، ومُزَيّفِي العُملَة، والسّماسِرة، ومُصنِّعي المَواد الغِذائيّة، والقُضاة، والأطبّاء، والعشّاق، والجنرالات، والطّباخين، وتجار الخمور)).

وتقتَرن بعض الكلمات بِما هو علامة على الكذب فتُعَدّ كاذِبةً مُواضَعاتيًّا، والكلمات المعزولة كلمات وهميّة! وحدها الكلمات في الاعتِبارات اللّسانيّة كلمات حقيقيّة، ويُمكِن في كثيرٍ مِن الأحيان أنْ نُقيم الحُجّة على كذب الكلمات، فكلمة (ديمقراطيّة) تُنزَّل في اللّغة العربيّة مَنزِلة المفهوم، وتُعرَّف في استِعمالنا اللّغويّ بِأنها: شكل مِن أشكال الحُكم تنبَثِق فيه سُلطة الدّولة مِن الشَّعب الّذي يفوّضه بِحسب قواعد سياسيّة مضبوطة لِمَن يختاره بِكلّ حُريّة بِالانتِخاب لِتمثيله. فمُجرَّد تأثيل لفظة (ديمقراطيّة) غير كافٍ، وكلّ مَن يسعى إلى شكلٍ مِن أشكال الحُكم لا تعود فيه السُّلطة إلى الشَّعب وليس فيه تفويض بِحسب قواعد مُحدَّدة عبر انتِخاب مَن يُمثِّله بِحُريّة، ويستَعمِل مع ذلكَ كلمة (ديمقراطيّة) للإشارة إلى ذلك الشّكل من الحكم، فهو كاذِب، وكلّ مَن يُحاوِل تدعيم مِصداقيّته فيزعم أنّها (ديمقراطيّة شعبيّة) يكذب أكثر وأكثر، لكنّه يخدع نفسه؛ فالكذّابون يكشفون أنفسهم دائمًا بِمبالَغَتهم في الاحتِجاج.

 

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي