وكالة نخيل عراقي/ خاص
إنه هيثم بهنام جرجيس بردى، الكاتب العراقي، الذي وضع لنفسه مزاجاً إبداعياً خاصاً و أنتج الكثير من الأعمال الإبداعية وقد ترجمت بعض قصصه إلى اللغة الإنجليزية، والهولندية، والفرنسية، والإيطالية، والسريانية. وهو عضو اتحاد الأدباء العراقيين، وعضو اتحاد الكتاب العرب، وعضو نقابة الفنانين العراقيين، وعضو فخري مدى الحياة في دار نعمان للثقافة اللبنانية.
وقد أجرت معه د. رغد محمد سعيد حسن هذا الحوار:
س1: لا شك قد اطلعتم على كتاب ناتالي ساروت (إنفعالات) الذي جُنس بمصطلح قصة قصيرة جداً، هل تجدون هناك وجه شبه بين ما كتبته ساروت وبين النصوص القصصية القصيرة جداً التي تكتب وتنشر حديثاً؟
ج: قطعاً، ينبغي لكل من يحاول دخول فضاء جنس القصة القصيرة جداً أن يقرأ انفعالات ساروت فهي رغم كل ما قيل عنها عن دراية أو عدمها، ممن حاولوا نزع المصطلح منها وأدان المترجم فتحي العشري في تسميتها قصص قصار جداً وأنها رواية وما سواها من أحكام لا تستند إلى معيار وأساس نقدي، ورغم أن ساروت أسمتها "انفعال" وليس قصصاً قصيرة جداً، ولكن بنيتها وتشكيلها ومعمارها تنطوي على كافة أسانيد الجنس الجديد فكانت بحق الكتاب الأول بشكله الفني الذي دشنت فيه القصة القصيرة جداً مشوارها ويبقى المنار الأول الذي يضيء على فضاءات ومديات الجنس الجديد، وفي الشق الثاني من السؤال أقول ثمة بون واختلاف بيّن بين ما أسسته ساروت وما يكتب الآن من جلَّ من يكتب وينشر من قصص قصيرة جداً.
س2: هل يمكن أن نعد القصة القصيرة جداً قناعاً لتمرير النقودات إلى المجتمع أكثر من كونها فناً أدبياً يتماشى مع طابع العصر وتطوره؟
ج: القصة القصيرة جداً لا يمكن أن تتلفع بقناع فالمقّنع يبقى مقّنعاً حتى لو كان سلوكه وتصرفاً تقويمياً، ولكنه يكون عبارة عن (x) تعاين جسده بكل وضوح ولكنك لا يمكنك أن تدلف إلى ملامحه وتبصر ايماءاته حتى وإن وجه نقداً للمجتمع – رغم يقيني أن وظيفة القصة القصيرة جداً ليس توجيه النقودات حسب بل الكشف عن الواقع واستشراف المستقبل الخالي من النبو والخطأ، وتأسيساً على ما سبق نستطيع أن نشير إلى أنها فن أدبي يستخلص من جنس السرد (القصة، القصة القصيرة، الأقصوصة) روحها وبنيانها في صيغة تماشي العصر وتطوره المتسارع في اختزال أسطر بسطر واحد يعطي المعنى عينه وبذلك أستطيع أن أصرح بأن القصة القصيرة جداً هي السرد المستقبلي القادم، مع احتفاظ بقية المسرودات بحقها في الانوجاد والاستمرار.
س3: ما الذي دعاكم لمناصرة هذا اللون القصصي في البدايات على الرغم من كثرة معارضيه، أهو الايمان به أم الشعور بالحاجة إليه؟
ج: الذي دعاني إلى مناصرة ودعم، بل اتخاذه رسالتي الأساسية، رغم تحذير العديد من زملائي القصاصين –الشباب أيامئذ منتصف سبعينات القرن الفائت- بأنني أدخل طوعاً حقلاً مليئاً بالألغام وأنني أضع مستقبلي الأدبي على قرني ثور نزق أهوج وربما سأخسر المستقبل، ولكوني كنت وسأبقى مؤمناً بهذا الجنس السردي الجديد حد أنني علّقت مصيري به فأنني وسمت مجموعتي القصصية الأولى (حب مع وقف التنفيذ) التي صدرت عام 1989 غب روايتي القصيرة الأولى (الغرفة 213) التي صدرت عام 1987 ب "قصص قصيرة جداً" التي استقبلها النقاد بترحاب بالغ حفزني الأمر لمواصلة المشوار حتى سجلت لنفسي مكاناً ما في فضاء هذا الجنس، ولم يكن همي وهدفي هذا الأمر قدر ما كان محاولة وبعض القصاصين النزر الآخرين المجايلين في ترسيخ المصطلح، وفي ظني أننا أصبنا الفلاح في الأمر.
س4: هناك من يرى أن معيار جودة النص الناجح في السرديات القصصية القصيرة جداً توظيف تكنيك المفارقة وبخلاف ذلك لا قيمة جمالية للنص... كيف تردون على ذلك؟
ج: وهناك من يرى أن معيار جودة النص الناجح في السرديات القصصية القصيرة جداً توظيف الاستهلال والمتن والخاتمة الواخزة التثويرية، ومن يرى أن معيار الجودة تتوافر في الوحدات "الزمان، المكان، الحدث" إن تم توظيفها بشكل متقن في أعطاف النص، وهناك من يؤكد أن البناء هي الركيزة الفارقة للجودة، وآخرون يرون في طول النص الطوطم في جودة النص، ومن يرى أن زاوية السرد هي الحجر الذي لن يهمله بنّاء النص، ومجاميع أخرى يجدون أن التقتير في الوصف هو المنارة التي يهتدي إليها مجترحو هذا الجنس العصي، وهناك...، وهناك، وهناك،،،، وقي تقديري الخاص أن كل هذه العلامات وسواها أُخر هي من تحدد جودة النص الناجح.
س5: كيف يمكن للحيز الضيق جداً الذي يشغله هذا اللون من التسارد على الورق اختصار قضية كبرى أو موضوع شائك أو حياة كاملة ببضعة سطور؟
ج: يقول النفري "كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة"، ولعله، من حيث يدري أو لا يدري، أول من وضع اللبِنة الأولى لأسانيد هذا الجنس الصعب، وإن عبرنا كل هذه الأزمنة وتأملنا معطيات العصر وفي المقدمة منها السرعة، لوجدنا أن معظم حيوات عصرنا الراهن تعتمد على السرعة، فالأفكار وتنفيذها تعتمد على السرعة، شئنا أم أبينا، السرعة المرهونة بدقة التنفيذ والانجاز، وفي العين ذاته صواب الفكرة وتنفيذها، وما ينطبق على المثل الآنف، ينطبق تماماً على هذا الجنس الجديد في الطرح والتقصي والمعالجة، بلغة مشفرة موحية ومعالجة منطقية ناجزة، وليكن ذلك بِكَمٍ لا بأس به من سطور.
س6: كيف تقيّمون واقع السرد القصصي القصير جداً في العراق الآن؟
ج: أنا لست بناقد بالمعني الحرفي لهذه الخصيصة الصعبة ولكني متابع وقارئ وراصد لمسيرة القصة القصيرة جداً في العراق والوطن العربي وربما العالمي بكل أبعاده وتجلياته، وبناء عليه سأجيب على السؤال من وجهة النظر التي ذكرتها أعلاه:
لو استجلينا التجربة القصصية في هذا الجنس لوجدنا أن الريادة التاريخية والفنية أيضاً عراقية بامتياز، فالريادة التاريخية بالتأكيد عراقية من خلال نوئيل رسام والرديفة من خلال عبدالمجيد لطفي، وقد قمت بتفصيل ذلك في كتابيّ.
- القصة القصيرة جداً في العراق الصادر بطبعتين،، الأولى عن مديرية تربية نينوى عام 2010، والثانية بطبعة مزيدة عن دار الشؤون الثقافية عام 2015.
- القصة القصيرة جداً/ الريادة العراقية الصادر عن دار غيداء النشر والتوزيع- عمّان عام 2016.
ففي العراق ولد هذا الجنس فيم كان قصاصو الوطن العربي لا يعرفون كنهه، ثم كانت الإنعطافة الفاصلة حين اجترح كتابتها جيل الستينات في العراق الذي أضفى عليها أسانيد تستدعي الابتكار والحداثة والتأصيل، ثم ألبسها السبعينيون والثمانينيون رداء الديمومة والتجدد وإلى مطلع الألفية الجديدة والأسماء لا حصر لها، بيد أن انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وتبوأ ناصية الصفحات الثقافية البعض ممن لا يفرقون بين الخاطرة والكلام المسجوع والكلام الذي لا معنى له وتكريس مفهوم خاطئ من خلال الخلط بين القصة القصيرة جداً وقصة الومضة، وامتناع الجيل الجديد من الكتاب عن كتابة هذا الجنس ضمن القياسات القارّة لها والذي لا يزال الكتاب في العالم بأسره ينسجون نصوصهم على هديها، وانقياد جلّ الكتاب المعاصرين الجدد في العراق بما يفد إليهم من المدرسة النقدية المغاربية –إن صح التعبير- من خلال تكريس قصة السطر أو السطرين والتماهي الذي يحصل فيها بين هذا الجنس والقصيدة القصيرة، فصرنا نقرأ الحابل والنابل كما يقال ينوء بثقلها المصطلح، وعليه انسحب رهاني على مستقبلها بما تبقى من الأجيال السابقة والتي لا تزال تكتب قصصاً قصيرة جداً تُعد علامات فارقة في القصة القصيرة جداً في العراق، وإن كنا نتوجه صوب التفاؤل قد نرى بعض الكتّاب النزيرين الذين قد يحملون لواءها باقتدار إن عادوا للنبع الأول.
س7: صدرت لكم أكثر من مجموعة قصصية في هذا الأدب، أيها الأقرب إليكم؟، ولماذا؟
ج: أصدرت خلال ثلاثة عقود ونيّف المجموعات القصصية التالية:
1. حب مع وقف التنفيذ 1989.
2. الليلة الثانية بعد الألف 1996.
3. عزلة أنكيدو 2000.
4. التماهي 2008.
5. سفائن وفنارات 2018.
وسبق وأن سئلت هذا السؤال فيما مضى، وكانت إجابتي حينها وستكون إجابتي الآن وفي المستقبل: كلهم أولادي وكل منهم يحمل سمة من سماتي، وإن اجتمعوا معاً يحملون جلَّ سماتي.
س8: تُكتب القصة القصيرة جداً على نمط ثلاثة أنواع من حيث الحجم، القصيرة جداً والمتوسطة الطول والقصة الطويلة، بمنظوركم أي الأنواع أقرب إلى مصطلحها بعد استقراره؟
ج: يجب بادئ ذي بدء أن نفرّق بين كتابة قصة الومضة Flash Fiction وبين القصة القصيرة جداً Short Short Story، فالأول جنس حديث أيضاً يعتمد أسساً ونظماً تتشابه مع الثاني ولكنه يشبه إيماضة برق ثم ينطفئ تاركاً أثراً خاطفاً، فيما الآخر يكون نابضاً بالتماهي مع صنوه الأقدم القصة القصيرة Short Story، واذا ما تركنا قصة الومضة، التي، إن اعتمدنا على عدد الكلمات التي تتراوح ما بين كلمات يسيرة وخمسين كلمة "كما يُكتب الآن وتنبثق مسابقات في وسائل التواصل الاجتماعي" والتي يحاول البعض تكريسها كقصص قصار جداً، فإن القصة القصيرة جداً تعتمد ضمن المعيار ذاته إن اعتمدناه ما بين 300 إلى 350 كلمة أي بحدود صفحة فولسكاب كاملة، لكي تتجلى كل الأسانيد التي تتجبب بها وتظهر بوضوح.
س9: ما تقييمكم للنصوص العراقية القصيرة جداً في مجال هذا اللون الأدبي في العراق على نحو عام، هل ارتقت إلى مستوى النضج والكمال أم ما زالت في طور التجريب والتجديد؟
ج: قرأت قبل عقود جملة تقول: الكمال هو قبلة الموت، ولعمري أن هذه البدهية تنطبق تماماً على فحوى السؤال هذا، فعندما تكتمل دورة الحياة لجميع الكائنات تسعى نحو الموات ولا يعوزها شيء سوى أن يأتي الأهل من آباء وأبناء وأحفاد كي يودعوه بقبلة الوداع،... نعم أن القصة العراقية القصيرة جداً عبر عقودها الثمانية منذ نشأتها مستهل العقد الرابع من القرن الفائت ولحد الأن ولحد المستقبل القريب والبعيد تبقى تستدعي جميع إشارات التجريب والمسعى هو التجدد والتسرمد دون الموات.
س10: ما نظرتكم البعيدة لمستقبل هذا الجنس الأدبي؟
ج: ما دامت الذائقات تبدع وتبتكر وتستنبط فإنني أراهن على المستقبل المشرق لهذا الجنس السردي الجديد جنباً لجنب مع القصة القصيرة والقصة والرواية.
س11: هل أخذ القص القصير جداً استحقاقه من الشيوع والانتشار والدراسات الأكاديمية؟ إن كانت الاجابة بالنفي لم برأيكم؟
ج: نستطيع ـن نقول أن هذا الجنس أخذ استحقاقه من الشيوع والانتشار عبر النصوص الغزيرة التي نُشرت عبر عقود طويلة، ولكن الدراسات الأكاديمية تعتمد معادلة عكسية معه، أي بمعنى آخر، أن الدراسات الأكاديمية التي تناولت هذا الجنس الجديد لا يمكن أن تُذكر وأعزو السبب في ذلك لكون المصطلح، عبر مغامرات خاسرة لبحارين لا يمتلكون خبرة الابحار في يم السرد الجديد فتنكسر دقل سفائنهم وتتيه في أمواه البحر وتُفقد إلى الأبد، والناقد "انطباعياً كان أم أكاديمياً" يتجنب في خوض غمار بحر السفائن فيه إما ضائعة أو غارقة في الأعماق، وبناء عليه تكون وظيفة الناقد جد عسيرة إن لم تكن من المحال، ولكن هذا لن يمنع الناقد أن يغوص في الاعماق أو يقتحم السفائن التائهة بحثاً عن الدرر المفقودة.