loader
MaskImg

حوارات

بريد السماء الافتراضي حوار مع الشاعر العراقي مظفر النواب

breakLine


كتابة وحوار : الشاعر العراقي أسعد الجبوري

▪︎▪︎

في اللحظة التي نفض فيها الغبار عن جسده،وغادر مقبرة دار السلام في النجف الأشرف،ضربنا معه موعداً على ظهر أحد القوارب السياحية العائمة على مياه دجلة من جانب الكرخ،إلا أنه نصح أن يكون مكان إجراء هذا الحوار في مقهى الهافانا بدمشق،وهو ما وجد لدينا قبولاً سريعاً.
ودون ترتيب ،سرعان ما تبخر الشاعر العراقي مظفر النواب من على خطوط الأثير ،مختفياً من تلك المرآة الضخمة.
لم يكن مظفر صديقاً مقرباً مني،فقد تعرفت عليه بالصدفة في منطقة المالكية في القامشلي السورية ، بعد أن قمنا باجتياز الحدود العراقية بمساعدة من عيسى سوار آمر قطاع زاخو للحزب الديمقراطي الكردستاني الذي وفرّ لنا سيارة وحرساً وساعدنا على قطع نهر الخابور بواسطة عجلة ضخمة لدراكتور ليلة السابع من مارس 1974 لنصبح على الأرض السورية.بعدها ذهب كلّ منا بطريقه عدا لقاءات عابرة.
دعنا لا نتذكر ليلة عبور نهر الخابور الجارف بعد أن نجحنا بالهروب من العراق.سندخل في الجوهر.في الشعر وحواس العالم وتجليات الأواح.وهنا أسألك يا مظفر:

س:أتظنُ الليلَ تراباً والشعر أفضلُ ما تنمو بخلاياه من النباتات ؟
ج/ذلك هو معتقدي بالضبط. الليلُ ترابُنا الذهبي السائل والجميل الذي ينمو بترابه المتعبون والعاشقون وأصحاب السوابق من المغامرين بالحرية.

س:أهو ترابٌ أم أن الليل قُماشُ من الأرواح لتدفئتها؟
ج/هذا الكلام صحيح. فالليلُ ترابٌ من قُماشة الأرواح بالتأكيد،وأضيفُ إلى ذلك إنه دمعةَ المَجَّاجِ للخمرِ وصرخةُ الأنين المكبوتة وأصابعُ الحبر التي لا تنكسر.

س:لماذا غرامُ الشعر بالليل يا مظفر؟
ج/ربما ليسترَ الشعرُ عُريّهُ في مرآة الليلِ، ولا يستفزّ المُحتجبين المقنعين، ممن يستعملون الظلام دثاراً لأفعال يمكن أن تكون جرمية أو بها عارٌ ثقيل .

س:والشعر.ما الذي يُمتعهُ بالأسود المُعتم الغامض؟
ج/ قد لا يفكر الشعرُ باللون،إلا أنه يسكنُ داخل ظلّهُ. فظلُ الشعر هو الليل تماماً،ومن الصعوبة بمكان فصل الشعر عن ظل الجسد الشعري ذاته. 
س:ألا ترى الليلَ ملهى للكواكب والأنجم ومجرى الأكوان؟
ج/بالتأكيد .الليلُ قيامة نجوم الله فينا وعلينا.
س:وهو سموات التيه التي ما أن يضع الشاعر عليها قدمه،حتى يتحلّل ويذوب مندمجاً بالآلهة.أليس عندكَ أحساسٌ مثل هذا ؟
ج/نحن سموات مُكسَّرة،وربما لا نصلح إلا للشعر.
س:متى يتحوّل العَرقُ من خمر أبيض إلى ما يشبه لّون الليل؟
ج/يحصل ذلك حينما تتحوّل الكؤوسُ إلى معتقلاتٍ لا فرار منها إلا إلى جحيم الأنفس المنفية المُضطربة الثملة بحمى الغروب.

س:هل كنت جسداً مأكولاً ؟
ج/كنت. ولكنني حفرتُ فيه نفقاً وهربتُ.
س:أيهما كان الأقرب إليكَ،صوتُ الورق أم صوتُ الريل ؟
ج/لا هذا ولا ذاك.فأنا ،وعندما ناديتُ على ((حمد )) في لحظة من التصادم العاطفي الروحي الوجودي،إنما كنت في العمق السيكولوجي متقمصاً شخصية المنادى عليه. وآنذاك اجتمعت بداخل القصيدة المشاهدُ كلّها،فكنتُ القطار راكباً ومسافراً ومنتظراً ومهووساً برؤية العربات القاطرة – المقطورة وهي تشقق لحومنا على طرقات مجهولة، حتى أنني أدركتُ حجم حَيّرتي على تراب تلك الأرض القديمة المليئة بفحيح الأفاعي وسُمومها .
س:ماذا تقصدُ بأفاعي الأرض القديمة. هل تجرّعت بعضاً من سُمومها؟ 
ج/ كنت أنتمي إلى أرض الأفاعي السياسية .فكلُّ تاريخي كان مسموماً وتعصف به الثعابينُ بفحيحها المتطاير كالسهام.
س:هل من أجل التخلص من  التاريخ ،حاولت الاستنجاد بـ ((حمد))؟
ج/كان كتابي (الريل وحمد)) استعراضاً تراجيدياً لأيام حمراء لم يقو الزمنُ على تحمل صدماتها. لذلك كلما رأيتُ قطاراً من القُطارت ،سرعان ما أشعر بتمدّد سكّك الحديد برأسي ،وكأنها تستدعي العجلات لسحقِ ما بجسدي من بقايا خلايا لأستريح. 
س:ولمَ تأخذكَ الرغبةُ أو تكبر برأسك للتمتع بأصوات سّامة وبدّوّي عجلات حديد.أهو الخيار المازوخي الذي لم يبقِ لكَ من خيارٍ سواه ؟!!
ج/قد يكون ذلك صحيحاً شعرياً. ولكن ما من فرصة لعراقي مقهور، ولا يتمادى بضخ ذلك الفحيح السّام بجسم سلطة مهووسة بالكراسي وبالقتل وبالسجون ونصب المشانق وتجهيل الناس.
س:ولماذا يفعل ذلك العراقي على حدّ علمك؟
ج/ربما ليعيد صياغة نفسه من جديد ،فيكون مخلوقاً حديدياً مُلقحاً ضد الخوف والاستكانة والنوم .
س:عن أي خوف تتحدثُ أنتَ ؟
ج/ليس في بلاد ما بين النهرين غير حديد القيد.أو القيد الحديدي المُسمى شعبوياً بـ ((الكلبجة)).تلك التي برع الأولون بتصميمها ،ليعقبهم آخرون بجعلها رديفاً لخاتم الزواج أو إسوارة العروس. 
س:ألا تعتقد بأن السيد جلجامش استعبط العراقيين يوم اخترع لهم (شوكة) ما سُمي بالخلود في ملحمته السومرية تلك؟ 
ج/بالتأكيد نعم.فجلجامش أراد إقناع العراقي بضرورة التنازل عن عينيه ،يترك الأولى حفرة للبكاء،ويجعل من العين الثانية تنوراً لحرق الأحلام وثياب العرس والكتب المشهود لها بالمعارف وغزل البنات. 
س:من برأيك الأجدر بكتابة الشعر الشعبي في العراق؟
ج/حمالو الأوجاع والحطب وقاطفو الأنجم المبلّلة من أعين الأطفال.فالشعر الشعبي ترسانةُ بلدٍ أضاعَ جميع مدخراته في جيوب لصوص أكثر دهاءً من علي بابا والأربعين حرامي. لقد فَقَدَ العراقُ جلّ ما كان تحتفظ به متاحفهُ الوطنية والإنسانية والحضارية .
س:ألا أتظن بأن دستور البلاد العراقية ،يتوجب أن يكون دستوراً نفسيّاً بالدرجة الأولى؟
ج/بلا شّك. فالخراب النفسي الذي أصاب العراقيين،قادنا إلى خراب بيولوجي مُحكم التدمير والتلوث والشعوذة والجنون أكثر اتساعاً من مستشفى الشماعية.
س:كيف تسلّلتْ كلّ تلك وهذي الأحزان إلى العراقي،لتشق لحمه وتنمو بداخلهِ إلى ذلك الأجل غير المسمى؟ 
ج/ لم تشق تلك الأحزان لُحوم العراقيين لتنمو بدواخلهم،ولكن الأحزان تعسكرت بزمنهم وبحواسهم ،فصرنا عبيداً للحزن السيد .
س:عبيداً لإطاعة الحزن تقصد؟
ج/نعم.فمخاوفنا تلال وأحزاننا بحار وميتاتنا تقاويم وأعراسنا ونصوصنا جراح ،نحن مُدوّنات أسطورية لا خبرة أو عِلم لنا بكتّابها وبمؤرخيها الأكارم.

س:بدأت بالنزوع إلى الريف عبر الشعر والسلاح.هل جاءت تلك الفكرة بدافع رومانسي ثوري؟
ج/أجل. وجدت نفسي مشغوفاً بالريف العراقي وتفاصيله الدقيقة الممتدّة من الشعر الشعبي إلى فكرة تبني الكفاح المسلح في الأهوار.
س:هل كانت الثورة في الشعر بيضاء وأخرى حمراء في السياسة ؟
ج/إذا أردت الحقيقة،فإن العراق هو النسخة الحمراء في الشعر وفي السياسة وفي القتال وفي الضغينة .

س:والحبّ.لِمَ لمْ تأتِ على ذكْره؟!!
ج/الحب ((طلابة جبيره)) لا تحتاج قلباً بل أكثر من قنبلة تحت الضلوع بالضبط. 
س:لماذا خرجتَ من الأرض مذعوراً من المرأة وخائفاً منها ؟
ج/أنا نجحت بالصيام عن النساء،وبعدم الانهيار أمام تفاصيل أجسادهنّ.تلك مهمة لا يقوى عليها إلا الراسخون بالحرية.
س:هل تعتقد بأن المرأة للحرية ،مثلها مثل الحبوب الخافضة للحرارة ؟!
ج/بالضبط.والتأثر النسوي مرضٌ ،خاصة عندما يصبح الحبُ طريقاً سالكةً إلى الجحيم.

 

س:ولكنك استغرقت طويلاً بالغرام وكتبت قصائد في الحب.فهل ما سبق ودوّنته كان للطرف الآخر المثلي ؟
ج/لم أجد حرجاً بما يفعله الحمض النووي صاحب الجينات الوراثية.هناك صراعات حادّة ما بين الهرمونات ،تبدأ برحم الأم ولا تنتهي بالأسباب العضوية لفسيولوجية الجسم.
س:كأنك استسلمتَ لكيميائيات الدماغ وتفاعلاتها بتصنيع الجنسية المثلية. ما ردّك ؟
ج/ لو طرحت هذا السؤال على سيغموند فرويد،لأعلن لك   
(( أن جميع البشر مُخنثين بالفطرة ولديهم «ازدواجية كامنة»، وإن تجاربهم الشخصية مع الآباء والأمهات تجعلهم أما مثلي الجنس أو أشخاص عاديون)).
س:هل في الشعر مؤنث ومذكر كما تظنُ؟
ج/لا أعتقد بذلك.فالإناث في الشعر تخوتٌ افتراضية للذكور،مثلما الذكورُ كهوفٌ حقيقية للإناث.هذا الاندماج الحيوي هو من يصنع شعراً يهزّ الرؤوس والأفئدة على حدّ سواء. 
س:واللغة العربية .. إلى أي طرف منهما تميلُ برأيك؟
ج/اللغةُ العربية قريبة من المرأة كرجل.
س:كيف تسلل مظفر النواب من الشعر الشعبي إلى الفصحى؟
ج/بواسطة ضغط الأصدقاء .فقد استيقظت ذات يوم لأجد نفسي منخرطاً بكتابة الشعر العمودي يوم كنت طالباً في الجامعة.وهكذا بدأ حزني يتسرب من الشعر الشعبي إلى طواحين أعمدة الفراهيدي.  
س:أيهما كان الأقرب إليك:الشعر العمودي أم الشعبي ؟
ج/لقد اندفعت بقوة الهجاء السياسي إلى قصائد الأعمدة،ربما لأنني وجدت فيها الغرض الأعظم الذي تعوّل عليه الأحداث السياسية في العالم العربي.
س:كنت شاعر بذاءات صاعقة للذوق العام .أكان ذلك مطلباً لتوسيع حلقات الشعر لتبدأ من الحوض الصغير إلى الأكبر جماهيراً؟ 
ج/أنا توسعتُ شعرياً يوم ضاقت الناس بأخلاق اللغة وخجل الآداب.
س:كسرتَ باب الأخلاق وفسقتَ بالتقاليد . هل ذلك ما يفعله الشعراء الثوريون مثلاً؟
ج/أجل. كسرتُ وفسقتُ وتوسعتُ دون إذن من لغة أو من ثورة أو من أحد، مثلما فعلها من قبلي الكثيرُ من شعراء العرب في الجاهلية وما بعدها.
س:كيف وجدت الموتَ يا مظفر؟
ج/ليس سوى قارورة خمر ،ما أن أدخلوا بها رأسي،حتى تسرب النوم لجسمي ،وانفتحت أمامي زنزانةٌ كانت مليئة بالغيوم. 
س:وهل رأيت الشيطان هناك؟
ج/لا.ولكنني سمعته  على باب الجنة وهو يغني ((ليل البنفسج)) .فنهضتُ من نومتي تلك، وأنا أفتش عن زجاجة عَرق المستكي دون جدوى.
س: وسهرتَ على باب الجنة متأملاً أن يفتحوا لك الباب ليدخل شيوعي مثلك إلى الجنة؟!
ج/لقد وصلتني الطمأنينة من الإبليس التفكيكي الذي كان يحمل صحيفة أعمالي،وهو يوزع على الحشود الواقفة عل الخط الفاصل ما بين الجنة والنار شراباً بطعم البارود. 
س:وهل كان ذلك الإبليس من جماعة الفيلسوف جاك دريدا ؟
ج/لا أعتقد .ولكنه كان مستشاراً للربّ فيما يخص قراءة النصوص واستجلاء المعاني بعد تفكيك هياكل اللغة.المهم أن الرجل أخبرني بأن قصائدي بسيطة ولا تحتاج معانيها للتشريح.
س:ألمْ يعدكَ بوظيفة ما ؟
ج/لا.ولكنه أمر مجموعةً من حراسهِ بمرافقتي إلى خيمة القذافي،حيث تمت مهمة التسلم والتسليم.
س:ماذا تقصدُ بمهمة التسلّم والتسليم؟
ج/أقصد أن معمر القذافي أجلسني على جانبه فوق بساط الريح،وأمر حراسه بالإقلاع، بعد أن فاجأني بتحويل الكتاب الأخضر إلى أغان عاطفية مطبوعة على أسطوانات راح يرمي بها فوق رؤوس العراة من المحشورين السماويين . 
س:وهل حملت تلك الأغاني تأثيرات من أسلوبك الشعري ؟ 
ج/نعم. فالعقيد معمر القذافي استهوى شتم قتلته على طريقتي ذاتها.أليس هو من زرع ذلك الغلام الليبي في روحي وفي بيتي وفي قصائدي سنوات طوال يوم كنت في بلاد الشام؟  
س:كيف استطعت العودة لسوريا التي هجوت رئيسها بقسوة والعيش في دمشق بسلام،مثلما عشت في الخليج ومت على سرير أمراء نلت منهم بأسفل النعوت؟!!
ج/لم أعتقد يوماً بأن أحداً ممن هجوتهم بسياط الكلمات الدونية قد سامحني.ولكن شغل دوائر المخابرات كان الفعل الأقوى بإدارة الصراعات ما بين الأنظمة،وهكذا تم ترتيب أوراق الغفران والتسامح معي ضمن ما يُسمى بالصفقات القذّرة.وعليه فقد نمت في فندق الشام بغرفة محروسة من قبل عناصر المخابرات السورية،إلى أن قضيت نحبي على السرير الأميري في الشارقة برعاية خاصة من الشيخ سلطان القاسمي.   
س:ألا تعتقد بأن الشاعر فيما لو غرق بالهاجس السياسي واستغرق فيه أكثر ،سيكون من الصعب عليه تنقيح نفسه من تلك الأدران حتى لو كان في الفردوس؟ 
ج/سأحاول الظهور أمام العرش بابتكار شخصية تستغني عما كنت عليه.
س:هل هو الخوف من النار؟
ج/بالتأكيد نعم.بالتأكيد لا. وربما ستتوفر لي فرصة مشابهة لعملية الهروب من الله على غرار ما حدث في سجن ((نقرة السلمان)) الذي أسسه الانكليز عند احتلال العراق 1914 في صحراء السماوة.