loader
MaskImg

حوارات

حوار صحفي مع الشاعر العراقي عدنان الصائغ

breakLine

حوار صحفي مع الشاعر العراقي عدنان الصائغ

 

عدنان الصائغ شاعر عراقي 1955، غادر العراق عام 1993، وعاش في عمان، وبيروت، ثم لجأ إلى السويد، ومنذ عام 2004 يعيش في منفاه بلندن، كتب الشعر مبكراً، من دواوينه " انتظريني تحت نصب الحرية" و" أغنيات على جسر الكوف" و "العصافير لا تحب الرصاص" و" سماء في خوذة" و "مرايا لشعرها الطويل" و"غيمة الصمغ" و "تحت سماء غريبة" و"تكوينات" نشيد أوروك "قصيدة طويلة" و"تأبط منفى" و"نرد النص " دعي لقراءة قصائده في العديد من المهرجانات في أنحاء العالم، كما ترجمتْ أشعاره إلى لغات عديدة، وصدرت منها (7 ) كتب بالسويدية والانكليزية والهولندية والايرانية والإسبانية والروسية والفرنسية، كما تناولت تجربته الشعرية عدة أطاريح ودراسات جامعية للدكتوراه والماجستير في عدد من الجامعات العراقية والعربية والأجنبية، حصل على الجائزة الأولى للشِعر، في مسابقة نادي الكتاب الكبرى، في العراق عام 1992 عن قصيدته "خرجتُ من الحرب سهواً". وجائزة هيلمان هاميت العالمية للإبداع وحرية التعبير عام 1996 في نيويورك، وجائزة مهرجان الشِعر العالميعام 1997 في روتردام، والجائزة السنوية لاتحاد الكتاب السويديين عام 2005 في مالمو.

 

الصائغ عندما تقوم بخلق الجمال من حولك، فأنت تستعيد روحك


حاوره | أحمد السالم

- انتظريني تحت نصب الحرية" ماذا كنتَ تنتظر؟ وهل تحققت تلكَ الحرية بنظرك ليُبنى لها نصب؟


عدنان الصائغ :  منذُ تفتح وعيي الشعري والإنساني كان هاجسُ الحرية هو الحلم الأول والقِـدْحُ المُعلّى لدي. لذا حمل أول ديوان لي في العراق هذا العنوان الأثير، وهذا الرمز الكبير، لديَّ ولدى العراقيين والعالم. أعني: الحرية بفضائها المطلق، وأعني: نصب الحرية للفنان جواد سليم.
وهي الكلمة السحرية، أعني الحرية، التي لها ذلك الشرط الجوهري والارتباط السرمدي بالشِعر، مثلما لكل الفنون والآداب والأفكار والعلوم. 
أما هل تحقق ذلك الحلم – الحرية، فهنا ينفتح السؤال أمامي بكل مواجعه ومخاطره، فاتحاً شدقيه لالتهام كل ما يصله من إجابات ولا يشبع ولا يرتوي.
وتلك لعمري معادله صعبة وشائكة استنزفتني للإجابة عليها - بعد وصولي للمنفى - سنوات عدة وصفحات جاوزت الـ 780 صفحة ضمها كتابي "القراءة والتوماهوك، ويليه، المثقف والاغتيال"، ويمكن لمقدمته أن تلخص وتختصر لك الفكرة:
إن بناء الأوطان وكذا الإنسان "لا يتأسّس إلَّا بالحبّ الذي لا يتأسّس إلَّا بالإنسان الذي لا يتأسّس إلَّا بالحرية التي لا تتأسّس إلَّا بالوعي الذي لا يتأسّس إلَّا بالمعرفة التي لا تتأسّس إلَّا بالقراءة التي لا تتأسّس إلَّا بالكتاب الذي لا يتأسّس إلَّا بالكاتب الذي لا يتأسّس إلَّا بالحياة التي لا تتأسّس إلَّا بالجمال الذي لا يتأسّس إلَّا بالفن الذي لا يتأسّس إلَّا بالإبداع الذي لا يتأسّس إلَّا بالتجريب الذي لا يتأسّس إلَّا بالبحث الذي لا يتأسّس إلَّا بالإستشراف الذي لا يتأسّس إلَّا بالانفتاح الذي لا يتأسّس إلَّا بالأمان الذي لا يتأسّس إلَّا بالسلام الذي لا يتأسّس إلَّا بالقانون الذي لا يتأسّس إلَّا بالعدل الذي لا يتأسّس إلَّا بالمساواة التي لا تتأسّس إلَّا بالحق الذي لا يتأسّس إلَّا بالضمير الذي لا يتأسّس إلَّا بالأخلاق التي لا تتأسّس إلَّا بالتربية التي لا تتأسّس إلَّا بالتعليم الذي لا يتأسّس إلَّا بالتطور الذي لا يتأسّس إلَّا بالحوار الذي لا يتأسّس إلَّا بالفكر الذي لا يتأسّس إلَّا بالحرية التي لا تتأسّس إلَّا بالاستقلال الذي لا يتأسّس إلَّا بالإنسان الذي لا يتأسّس إلَّا بـ.....
... وهلم جرا، دوراناً أزلياً: صعوداً، أو هبوطاً؛ في فلك رقي الحضارات، أو اندحارها. والخ، والخ.."
أنها دائرة متواصلة، وذلك لأن فعل الحرية وجوهرها مرتبطان ببناء الانسان وكذا الأوطان، قبل كل شيء وبعد أي شيء. وهذان البناءان معاً مرتبطان بالثقافات والأديان، وكذا بالاجتماعي والأخلاقي والسياسي والاقتصادي والخ.. 
نعم، إنها محاولة؛ لبناء مملكة الإنسان، ليكون العالم – الوطن – الروح؛ واحةً مفتوحةً للخضرة والإبداع والشمس.. ولنعيش جميعاً بعيداً عن الحروب، عن الطغاة والغزاة والظلاميين، عن الجهل والجوع والخنوع، وعن الشعارات أيضاً.

 

- كيف لك صياغة كلماتك حتى تكون مؤثرة في نفوس الآخرين؟

عدنان الصائغ :  ذلك مطمحٌ كبيرٌ يحلمُ به كلُّ شاعرٍ راح يشقُّ طريقه وسط أمواج الكلمات والصور والأفكار، ليصل إلى شواطيء مطمحه وقارئه. وبصوره أعم لدى كل صاحب مشروع إبداعي فكري وغيرهما. الكل يسعى لذلك الهدف السامي، المثير والكبير، باتجاهات شتى وأهداف متعددة وصياغات متنوعة متجددة. لكنَّ الفوز به يحتمل أحيانا أموراً أخرى غير التي نراها ونعرفها، وليس الامر في عصرنا هذا، وإنما بكل الأزمنة والأصعدة، فثمة سرٌّ لمْ ولنْ يدركه أحدٌ.
وإلَّا قل لي ما السرُّ في أن تحظى ابتسامة الموناليزا (وهي لا شكَّ عظيمة) بتدفق ملايين السواح إلى متحف اللوفر للوقوف أمامها وابتسامات تساويها أو تضاهيها براءةً وبراعةً تجدها في آلاف اللوحات والتماثيل عبر العصور. بل حتى دافنشي ربما لا يدري: لماذا هرع الناس زرافاتٍ ووحداناً للوحته تلك، وترك الأخريات، وهن لسنَ أقل إبداعا وإبهاراً، بل ربما بعضها - من وجهة نظرٍ ابداعيةٍ نقديةٍ صرفةٍ - يفوق ويعلو. وهذا الحال والمآل ينطبق على فان كوخ وسيزان وفائق حسن إلخ، وعلى المتنبي والسياب ومحمود درويش إلخ، وعلى ماركيز ونجيب محفوظ ومحمد خضير إلخ، مثلما على اِنغمار برغمان وصلاح القصب وجواد الأسدي إلخ، وإلى آخره من الأعمال والأمثال والأقوال، أشخاصاً ونتاجاً ومواقف وسِيراً وإلخ وإلخ..
وأعودُ إلى سؤالك مرةً ثانيةً كي لا تظنَّ أني نسيته وانشغلت بأمرٍ يحاذيه، فأقول: حاولتُ - في جلِّ كتاباتي - ولا أزال أن أعبّر بلغة وشكل وايقاع أقرب إلى نفسي، تخرجُ من قلبي إلى قلبي أو إلى قلوب الآخرين. وينطبق هذا الأمر على الموضوعات والأفكار وطريقة التناول، واجد بعد رحلة أربعين عاماً أن بعض نصوصي أو شذرات منها قد وصلت وظلت تردد لدى بعض قرائي للآن. فكثيرا ما يستوقفونني على قصيدتي "خرجتُ من الحربِ سهواً" أو حتى عنوانها، أو نشيد أوروك او مقاطع في مسرحية صديقي المخرج غانم حميد في "الذي ظلَّ في هذيانه يقظاً، أو شذرات وشظايا من "مرايا لشعرها الطويل"، أو ديوان "تأبط منفى". وتلك سعادة ما بعدها سعادة لأي كاتب نصٍّ كبر أو صغر.


- الكوفة حيثُ العراقة والتاريخ والشعر، يعني المتنبي وغيرهم من الشعراء، عدنان الصائغ امتداد لهذهِ الكوكبة؟


عدنان الصائغ : هذا شرفٌ كبيرٌ أتمنى أن أستحقَّهُ وأنالَهُ، وهو حلمٌ راودني وأنا صبي بصحبة أبي، عابراً جسر الكوفة وبيدي الصغيرتين وريقة مدرسية بيضاء، أتأمل النهر وانعكاسات النخيل وغروب الشمس، وأستوقف أبي لأكتب شيئاً وهو يضحك على هذا الصبي الذي سيؤخرهُ عن مشواره في "الصوب الثاني" كما يُطلق على الجانب الآخر من النهر والمدينة. وكانتْ أَنَاتهُ وأَريحيتهُ واسعتين، رغم عِلَّته التي ماتَ بسببها مبكراً، وكان ذا حكمة رغم عدم تعلمه القراءة والكتابة. 
وقد كتب أستاذي في متوسطة الكوفة صباح راهي كتاباً عنوانه "من جسر الكوفة، إلى أصقاع العالم" تناول فيه تجربتي مع الشعر منذ أن كنتُ طالبه المشاكس ولليوم. وقد استوقفتني بل أربكتني جملةٌ - كالتي ذكرتَها في سؤالكَ الكريم - في مقدمة كتابه التي يقول فيها: "وجدتُ لزاماً عليَّ أن أتوقّفَ عند جسر الكوفة، ومن ثمَّ أتوقّفَ عند الشاعر الذي كتبَ أغنياته فوق ذلك الجسر، فعُرفَ أحدُهما بالآخر. فالقاصدون الكوفةَ لا بدَّ أنْ يتذكّروا شاعرها القديم: المتنبي. والعابرون جسر الكوفة لا بدَّ أنْ يتذكّروا شاعرها المعاصر: عدنان الصائغ". 
أعود فأقول: نهلتُ من الكوفة ومكتباتها وبيوتها الكثير الكثير، وتعلمتُ من تاريخها وأساطيرها الوفيرَ المثيرَ. كنت أمشي وأنا أقرأ أبيات الشعر منقوشةً أو مطرزةً على رخامِ ليواناتها وخشب أبوابها، وأسمع صرخات القتلى تحت أيديمها الذي شهد حروباً طاحنةً، وأصغي إلى أجراس خرير نهرها جارفاً معه الطميَ والحضاراتِ والانكساراتِ، وأتلمس في زرقة أمواجه وخضرة أعشابه تلك النبضات الحبيسة لعشاقٍ مرُّوا وقضوا بصمت دون ان يتهامسوا أو يتلاقوا..


- أين يقف الصائغ بين شعراء الحداثة العرب؟

عدنان الصائغ : حداثتي  إن صحّ أو جاز لي ذلك القول  تنبعُ من وجعي وتنور أمي وتراب وتراث حيِّنا.
وإذ كنتُ أحاول ومثلي الكثيرون أن يضعوا بصمةً او خربشةً على جدار الحداثة العربية الغاص بصهيل خيول غابرةٍ ومعارك عابرةٍ وتجارب وخيبات. إلَّا أنني حقاً لمْ أُشغل نفسي ومساري بهذا الأمر ولا بغيره إلَّا ما ندر، تاركا لقصيدتي أن تشق طريقها أو حداثتها بالشكل الذي تمليه رؤيتها وتجاربها ونجاحها وانكساراتها وقراءاتها وحفرياتها ومخاضاتها.. وتاركاً للنقاد والقراء والعصر أن يضعوني في الخانة التي يرونها.. 
هناك تجارب كثيرة مهمة تعجُّ بها ساحتنا الثقافية الشعرية الآن. والكلُّ يحاول موطئاً أو موئلاً، حقلاً أو شبراً. وأذكرُ دائماً مقولة بورخيس: "إذا بقي من أكبر كبار الكتاب سطراً واحداً، فيكون قد عمل شيئاً عظيماً". وكل هذا لم يهدِّيءْ من سعير السباق عند بعضهم، وقد واكبته وواكبتهم منذ ثمانينيات القرن الماضي ولليوم. وأذكر أول قصيده كتبتها في مقهاهم، مبتعداً بنفسي ونصي عن هذا الغبار:
"ودَلَفْتُ إلى مقهى الأدباءِ.. وحيداً، مرتبكاً، أتحاشى نظراتِ الشعراءِ الملتفين على بعضهمُ، وحواراتِ النُقّادِ… وجدتُ لنفسي كرسيّاً مهترئاً.. أَتردَّدُ بعضَ الوقتِ، وأجلسُ منحشراً قربَ دمي المتوجّسِ، أرنو لوجُوهِهمُ مُلتذّاً.. أتذكّرُ أنّي أَبْصَرتُ ملامحَ بعضهمُ تتصدَّرُ أعمدةَ الصحفِ اليوميَّةِ، والكتبَ الزاهِيَةَ الألوانِ… سعلتُ قليلاً من بردِ الطُرُقاتِ، وأقبيةِ الأعوامِ الرطْبةِ، والريحِ!… خشيتُ بأنّي سأعكّرُ صفوَ تأمُّلِهمْ بشحوبي وسعالي…
حاولتُ بأنْ أَتَلَهَّى بتصفُّحِ ما بين يدي من صحفِ المقهى… 
كانتْ نفسُ الأوجهِ تبرزُ من خللِ الأَسْطُرِ، تحدجُني ببرودٍ لمْ أفهمْهُ!… 
جاءَ النادلُ… لمْ "يتواضعْ" أحدٌ أنْ يطلبَ لي شاياً! 
فطلبتُ من النادلِ… أنْ يأتيني بالبحرِ، وزقزقةِ الغاباتِ المنسيَّةِ في كُرّاساتِ طفولتنا، ورسائلِ حُبِّي الأولى تحت وسادةِ بنتِ الجيرانِ، ونوحِ نواعيرِ أغانينا فوق ضفافِ الكوفةِ، والقمرِ الحالِمِ، والدِفْلَى، وأراجيحِ العيدِ، وركضِ الصبيةِ تحت رَذَاذِ المطرِ العذبِ، وأشعارِ الحبِّ المخبوءةِ في قمصانِ التلميذاتِ، ورائحةِ البرديْ.....‍‍!
هزَّ النادلُ كَتفيهِ ذهولاً، ومضى يضحكُ من أحلامي المجنونةِ..
– لا بأسَ!… سأطلبُ شاياً!‍‍‍‍‍‍‍‍
كان المقهى يغرقُ في ثرثرةِ الروَّادِ، وغيمِ سجائرِهم،.. 
وأنا وحدي أغرقُ في غيمِ دمي الماطرِ فوق الأوراقِ، وأرصفةِ العالمِ،.. منشغلاً بقصيدةِ حبٍّ بائسةٍ بدأتْ تَنقُرُ نافذةَ القلبِ – بكلِّ هدوءٍ – وأُحِسُّ خطاها تتسلَّلُ عبرَ دمي والأَدْغالِ المصفرّةِ.. 
قلتُ لعلَّ الفاتنةَ الدلِّ تُشارِكُني طاولتي، والغربةَ!..
في خجلٍ.. أخرجتُ – من المعطفِ – أوراقي البيضاءَ كقلبي…
حدجتني الأعينُ!.. وابتدأتْ هَمَساتُ النُقّادِ، الشعراء، تحاصرني… 
لمْ أتمالكْ نفسي..! لملمتُ بقايا أوراقي، وخرجتُ إلى الشارعِ – مندفعاً – تحت نثيثِ الأمطارِ وريحِ الغربةِ والكلماتِ المجنونةِ.. أبحثُ عن طاولةٍ هادئةٍ في هذا العالمِ…
تكفي لقصيدةِ حبٍّ بائسةٍ، 
وأغاني رجلٍ جائعْ"


- الشعراء مسؤولون عن هذا العالم، كما يمثلون وجه الجمال والحب، هم يسعون لرسم حلول لقضايا العالم كيف ترى هذهِ المسؤولية؟

عدنان الصائغ :  نعم أنها مسؤولية جليلة تقع على عاتقنا جميعاً. وكل المشتغلين في حقول الجمال والثقافة والفكر والتربية والعلوم وإلخ. الجمال سينقذ العالم كما قالها دوستويفسكي. وهناك مقولة بالإنكليزية للروائية والشاعرة والناشطة الامريكية أليس ووكر Alice Walker:
Whenever you are creating beauty around you, you are restoring your own soul.
أي: "عندما تقوم بخلق الجمال من حولك ، فأنت تستعيد روحك"
فهو: أي: الجمال، أي الشعر؛ أكسير الحياة الذي لا ينفذ ما دام القلب والفكر حيين ونابضين، في هذا الوجود اللامتناهي من حولك.


- بورخيس يقول أيضاً: "أؤمن بالشعور بالشعر وليس بتعليمه" كيف يؤمن الصائغ بهذهِ القضية ومدى حرصه على ايصالها للعالم؟

عدنان الصائغ : حقول الشعر والآداب والفنون تحتاج قبل كل شيء إلى الموهبة - والرغبة المجنونة. فجميع جامعات الفنون والآداب لن تستطيع أن تُخْرِج لنا فناناً إنْ لمْ تكن تلك الجذوة تعتملُ في داخله بالأساس. وتأتي الثقافة والتعليم والمعرفة لصقل الموهبة (وأحياناً قد تميتها) فلا أحد يعرف أو يضمن بوصلة الإبداع وكيف وإلى أين تتجهُ. إنه الجنون الخلَّاق بعينه. ولك أن ترى كم من شعراء وفنانين دخلوا الأكاديميات ولم يخرجوا منها سوى بلقب وتقاعد. لكن كم منهم من صعدتْ به الأكاديميات وصعد بها إلى ذرى عالية، وخذ طه حسين وطه باقر وأدونيس مثلاً.


_ في عام 1996 كُتبَ في "جريدة بابل" بأنك خائن ووصفوك بالمعادي، وتلقيت تهديدات كثيرة، كيف وجدتَ هذا؟ وما عدد الكلمات التي سُحقت بين الحب والحَرب؟

عدنان الصائغ : كانت وستظل قائمة سوداء في جبين من كتبوها. نُشرتْ الأولى في جريدة "بابل" التي كان يملكها عدي صدام حسين (بتاريخ 13 تشرين الأول 1996) طالت أكثر من 100 اسماً منهم: نازك الملائكة، مظفر النواب، فاضل العزاوي، لميعة عباس عمارة، سركون بولص، فوزي كريم، كريم العراقي، جمعة اللامي، عبد الكريم گاصد، ياسين النصير، حاتم الصكر، زاهر الجيزاني، أحمد المشتت......).
ثم تلتها قائمة ثانية نُشرتْ في صحيفة "الزوراء" التي كان يشرف عليها عدي صدام حسين أيضاً (بتاريخ 2 آذار 2000) ضمت 32 أديباً وكان اسمي على رأس القائمة.
هذه القوائم والمطاردات والاتهامات وحتى التصفيات تظل تلاحق الكاتب في أوطاننا، وكأنها قدره الذي لا مناصَ منه إلَّا بالاستسلام أو بالسكوت. وكلاهما موت آخر وتصفية أقسى. فالأفضل أن أجابه أعداء الحرية والجمال بالكلمة بدلاً من المجابهة بأي شيءٍ آخر. 
هذا مبدأٌ آمنتُ به منذُ "العصافيرُ لا تحب الرصاص" 1986، بل منذ "محاكمه الشاعر دعبل الخزاعي" 1979، بل قبله، وكذا  في "نشيد أوروك" ببعص شظاياه التي قُدمت على المسرح وقتها: "هذيان الذاكرة المرّ" 1989، و"الذي ظلَّ في هذيانه يقظاً" 1993، وكذا "نصوص مشاكسة قليلاً"  2006، وكذا "نرد النص" 2022، وكذا لما سيأتي. فالكتابة هي خشبة الصلب التي أحملها وحملها دعبل وعلي الرماحي ولوركا والمسيح والحسين والحلاج وعلاء مشذوب والخ والخ 
فما هرسته أنياب الرقابات وقوائم التصفيات وسُرفات الدبابات من حياة المبدعين العراقيين والعرب وغيرهم في كل البلدان المحكومة بالديكتاتورية العسكرية أو الدينية، هو كثير ومرير. وسجل الوجع والهرس يئنُّ ويطولُ.. ومثلما هُرست الكلمة في وطني، هُرس الإنسان فيه وهُرس الحب والفكر والطبيعة (فالتلوث باليورانيوم وتصحر الأرض والجهل المتفشي مثلاً صارخاً).


- تكفيني كسرة خبزٍ بمساحة قلبي وكتابْ
فلماذا يحتجُّ الناسُ على حلمي، ويكيدُ لي الأصحابْ" بماذا يحلم الصائغ؟

عدنان الصائغ :  ذلك حقاً كلُّ ما أحلمُ به وأكتبته، وهو حلم الزهّاد الذين سبقوني والذي حكاه الخيام والرومي والمتصوفة: رغيف وخمر وشعر ومحبوب. وهذا ديوجين والغفاري وهادي العلوي.
لكن يبدو أنَّ هذا الزهد البسيط المسالم هو بمثابة تحدٍّ خطير للكروش المتخمة: سلطةً او مجتمعاً أو رجال دين، لذلك لن يهدأ لهم بالٌ حتى يخنقوا ويميتوا هذا الضوء، من نفيٍ إلى الرَبذة أو تصفيةٍ بكاتم صوت أو تشويهٍ بإشاعةٍ. 
وتروي لنا قصه ديوجين حين سأله الامبراطور عن طلبه، فكان أن جوابه يعرض عنه كي لا يحجب ضوء الشمس. كان هذا الطلب البسيط الحكيم الهاديء أكثر الاحتجاجاتِ دوياً وفلسفةً وزهداً يعادل معارضاتٍ كاملةٍ في برلمانات المعارضة اليوم وفي ساحات الاحتجاج.


- ذكرتَ في إحدى اللقاءات؛ أنَّ الشُعراء هم مِرآة الوجود والواقع، كيف تعاملت مع هذا الواقع؟ وما الذي لا زالَ مخفياً لم يعكسهُ عدنان بشعرهِ؟


عدنان الصائغ : كلما حدَّقتَ في المرايا كثيراً وتوغلت في عمقها، أخذتكَ المدياتُ الى مفازاتٍ أبعد ومجاهيل أخرى لا تخطر على بالٍ وهذا هو ديدن الشعر: الاكتشاف. 
وربما هذا ما عناه شاعرنا الكبير عبد الوهاب البياتي في قصيدته "اكتشاف" التي كتبها عام 1990 وشرفني بإهدائها لي، ونشرها في بعض المجلات العربية، ثم في ديوانه "كتاب المراثي" الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1995:
 "اكتشاف
إلى الشاعر عدنان الصائغ

أكتشفُ الأنفاقَ الحجريَّةَ في روحي
والمنفى والنارْ
ومقابرَ بغداد.
أكتشفُ اللوحَ المحفوظْ
والمقبوسَ المسماريَّ النابضَ في جدلِ الروحْ.
أكتشفُ، الآنَ، لماذا كانتْ
أصوات الموتى، تصعدُ من بئرِ شقائي
ولماذا كنتُ أخافْ
من بعضِ الأصواتِ الغامضةِ التعبى
تثقُبُ صمتَ الأنفاقْ.
أكتشفُ، الآنَ، البُعْدَ الخامسَ في مرآة الأشياء
وفتوحاتِ الأسلافِ الشِعريَّة في نار الكلماتْ
لكنِّي
وأنا أتماهى
في داخل روحي
أحترقُ الآنْ"


- دائماً ما يصاحب الفلاسفة والكتّاب والشعراء، "العزلة والمنفى" لماذا برأيك هذا الالتصاق؟

عدنان الصائغ : السبب في التصاق الشاعر بعزلته هو الابتعاد عن الأجواء المشحونة أو المقفلة في بعض النفوس والعقول انعكاساً لصراعات عصرها ومجتمعها وحالها، وهذا ما أشارت له قصيدتي تلك في الوطن وجوابي الذي أكتبه لك الآن في المنفى. وكأن الحال والمآل واحد لكل العزلات والاغترابات التي كابدها الكتّاب والفنانون والمفكرون على مرّ الأزمان والأوطان.
والعزلات أنواع ومقاصد: عزلة ابداعية قاطعة كالتي عمله بروست أثناء كتابته لـ "البحث عن زمن المفقود" عازلاً جدران غرفته بالفلين كي لا يسمع حتى صوت الشارع والريح. وقد فعلتُ ما يشابهها في بعض فصول "نشيد أوروك" في بغداد و"نرد النص" في لندن.
أو كما أغلق الشاعر حسب الشيخ جعفر بابه ونفسه لسنواتٍ، وأحمد مطر منذ قرابة ربع قرن وحتى الآن. وقد حاول الصديق الصحفي والكاتب فائق منيف اقتحام تلك العزلة المحاطة بالأسرار لسنوات حتى حظي بلقائه لمرة واحدة بعد جهد استنزفه شهوراً طوال كما حدثني هو بنفسه، وروى ذلك بحلقاتٍ متسلسلةٍ في إحدى الصحف. 
لكن من ناحيتي لا أؤمن بالعزلة التامة كحالة وجودية أو ابداعية، إلا فيما ندر. أنا سعيدٌ وفخورٌ أن أكون محاطاً بالأصدقاء أينما حللتُ، مختاراً صداقاتي بعناية ودراية، مؤمناً بالمقولة: ثروتي في هذا العالم هم أصدقائي (ويمكنني أن أضيف إليها: وكتبي).


- رواية الشرق المتوسط لعبد الرحمن منيف، ربما أطلق عليها رواية المعارضة، تميزت بتقنيات روائية حديثة أسست لجيل روائي ما بعد "نجيب محفوظ" كما يُقال، بماذا تميز شعرك؟ وكيف يمكن أن تتضح رؤيته في السلم أو الحرب عبر ما كتب؟

عدنان الصائغ :  من الروايات التي قرأتها مبكراً في حياتي وأدمنتها هي "شرق المتوسط" عشتُ مع بطلها وصراخه الطويل الموجع في سجنه ومغتربه. وفعلاً رغم صغر حجمها قياساً بأعماله الأخرى فأنها صارت علامة مميزه له ولجيله مثلما هي "موسم الهجرة للشمال" للطيب صالح وغيرهما، بل أن منيف نفسه حينما كتب "شرق المتوسط مرة أخرى" لم تضاهِ أو تتغلغلْ في الوجدان كما فعلت الأولى. وقد التقيته في بيروت عام 1996 وبحت له بصفاءٍ وحبٍ شعوري ذاك، فلمْ يجبْني إلَّا بابتسامةٍ محببةٍ وربَّتَ على كتفيَّ. ثمَّ أعقب أن العديد من أصدقائه وقرائه قال له مثل ذلك الرأي، ثم اتجه بحديثه لدفةٍ أخرى. 
ذلك لأن المبدع نفسه ربما لا يعرف أحيانا كيف تسير رواياته أو نصوصه أو لوحاته بين متلقيها.

 

- برأيك ما المعنى الذي يبحث عنه الصائغ في شعره؟ وكيفَ تسابق الزمن في هذا؟

عدنان الصائغ :  المعاني - مثلما الصور والأفكار - مطروحة في الشارع، كما عناها قديماً الكاتب العربي الجاحظ، وكما توقف عندها حديثاً الشاعر السويدي توماس ترانسترومر في قصيدته: "الحقيقةُ ملقاةٌ على الأرض. لكن لا أحد يجرؤ على التقاطها. الحقيقة تقع في الشارع. لا أحد يجعل منها حقيقته" (من ترجمة الصديق علي ناصر كنانة). وكنت معجباً بها. قراتها أمام ترانسترومر، ونصوصاً أخرى في حفل تكريمه في مسرح هيب في مالمو السويدية عام 1999.
لقد كان ولا يزال سباقي مع الزمن حول الشكل الجديد، يأتي من إيماني بأن البرك الساكنة لا تصمد طويلاً. لذا كان عليَّ البحث الدائم عن أشكال جديدة مبتكرة مثلما عن الصور والأفكار.
وهذا يأتي فعلاً بالدربة والمران والاطلاع: كيف نُلبِس المعني بصياغةٍ وأسلوبٍ جديدين -
وأقولُ: سباقاً مع الزمن، ذلك لأن الشكل أو الموضوع الجديدين اللذين تتناولهما الآن قد يصبحان قديمين ومكررين بعد فترة.. فالرهان هنا على البقاء الفني الخالد، وانظر لشاعرين عربين قبل أكثر من ألف عام اشتكيا قبلنا من هذا الأمر: "هَلْ غادَرَ الشُعراءُ مِن مُتَرَدَّمِ" و"ما أرانا نقولُ إلا رجيعاً ومعاداً من قولنا مكرورا".


- يقول رائد الفلسفة التأويلة "غادامير" في العلاقة بين اللغة والفهم، يفترض أنَّ الفهم هو تأويل لأنه يخلق الأفق التأويلي الذي من ضمنه يصبح نص ما ساري المفعول" كيف ما تكتب من نص وماذا يحمل من تأويلات للمتلقي؟

عدنان الصائغ :  كل نص. كل لوحة. كل أغنية. كل قطعة موسيقية. كل عرض مسرحي. هو محاولة تأويل دائم لفكرة غائبة، وقبض أثيري على شكل هارب. وهذا التأويل يقودُ إلى تأويل أبعد أو أقرب، تماماً كالمرايا المتعاكسة، وأنت واقف أو تسير بينها لا تدري ولا يدري المشاهدُ أي صورةٍ من صورك يمكن القبض عليها.


- كيف ترى واقع الشعر في العراق؟ وهل يشكل حلقة وصل لعصور لاقت ألقها في الماضي؟

عدنان الصائغ الشعر العراقي بالأخص في فوران دائم، وفي سيرورة وصيرورة لا يتوقفان أبداً، حتى في أحلك الأزمنة التي مرّ بها ويمرُّ: الديكتاتوريات، الحروب، الحصارات، الغزوات الطويلة والمتقطعة، المنافي والشتات، وكذا الرقابات والتصفيات والاغتراب. 
إنه يعيش هذه المناخات بعضها أو كلها ويأخذ منها مادته الغريبة وأشكاله الأغرب، ويواصل مجتازاً الأزمنة والأمكنة والأسلاك..
لهذا تراه دائماً يفاجئك بالجديد والمدهش.


-متى زُرتَ البصرة؟ وماذا تعني لك هذهِ المدينة الزاخرة بالثقافة والعلم والأدب؟

عدنان الصائغ البصرة تعني لي الكثير: ذكريات وأصدقاء وخليج وسياب ومحمد خضير وسعدي يوسف وطالب عبد العزيز وعبد الكريم كاصد وطالب غالي ورؤيا وكاظم الحجاج ومحمد عبد الوهاب، والقائمة تطول
وقبر الزبير والحسن البصري والنخيل والعشار والكورنيش والشناشيل وسلال التمر وبويب والمربد...
آخر زيارة لي كانت عام 2006 بدعوة كريمة للمشاركة في مهرجان المربد الثالث، لكن غادرتها مباشرة بعد أن ترجلت من المنصة وسط عاصفة تصفيق لمْ أشهدْ مثلها، لكن كانْ ثمة اصبع تشير مهددةً إياي بقطع لساني، لأنها رأت – أي هذه الإصبع – أنني تطاولتُ على الدين. وتلك قصة موجعة تحدَّثتُ عنها كثيراً وبالتفصيل، ثم لمْ أعدْ إليها – أي للقصة - وانتهى الأمر.

 

* بطولة "كأس الخليج ٢٥" في البصرة من خلال ما تُشاهد كيف تصف البطولة؟ وهل كنت تتمنى حضورك في هذهِ المدينة؟

- كانت البصرة بطيبتها وكرمها مثار دهشة الكثيرين الذين لم يعرفوها والذين عرفوها أيضاً، على الرغم مما مرَّ بها من فواجع وأحداث ومطاحنات ومليشيات، جعلت صورتها المشرقة لزمن طويل تتراجع على شاشات الفضائيات، حينما كانت تلك الخبيصة السياسية الدينية الطائفية القومية الإقليمية تأكل اليابس والأخضر. 
لكن ما أن حلت بها قوافل الزائرين حتى تحولت إلى مضيف طيبة وكرم وأُنسٍ طويل بطول شط العرب، بل بطول رافديه: دجلة والفرات. 
نعم، بالتأكيد كنت أتمنى الحضور، رغم أنني لست من هواة كرة القدم ومعلوماتي فيها كمعلوماتي في السياسة والاقتصاد. لكن لكي أمسح بعض الغبار الذي علق في ذاكرتي وروحي، وأغني في شوارعها بذاك الفرح الشِعري الطفولي الغامر.


* أخيراً أستاذ عدنان الصائغ أنا سعيد بهذا الحوار معك وجِّهْ - لطفاً - كلمةً للعراق؟

- الحبيب العراق هو من يوجِّه كلماته لنا، ونحن نعيدها إليه حنينا ومواويل وقصائد وابداعاً متنوعاً ومكتنزاً بتنوعِ واكتنازِ تراثه وحضاراته ومواجعه وتطلعاته. 
يمكنني الآن أن أقف أمامه بحبٍ وخجل وأقرأ ابياتي القديمة هذه، التي غناها ولحنها ابن البصرة الفنان طالب غالي: 
"أنتِ أحلى.. وكلُّ نبضي اشتياقُ 
                          أنتِ أحلى.. وفي دمائي العراقُ 
أنتِ..