يعنى بالسرد القصصي والروائي
أميرة العبودي
قاصة | تونسية
الكتابة والقراءة كانت، بالنسبة لشهرزاد، رئة حياتها الوحيدة التي تتنفس من خلالها في وحدتها، وغربتها عن أهلها. كان الليل امتدادًا لصمتها، وحين يلفها الظلام، كانت كلماتها تصبح رفيقتها الوحيدة. تقضي ساعاتٍ لا تعد، وهي تبني عوالم جديدة من الحروف، وتنقش كل فكرة في قلبها كما ينحت النحاتُ تمثالًا من حجرٍ قاسٍ. الكتابة كانت طريقها للخلاص، وسلطانها الذي تتحكم به على الحزن الذي بدأ يسكنها منذ زمن.
أمام صفحات الكتب، كانت شهرزاد تهمس إلى نفسها في صمتٍ، تجد في الكلمات عزاءً، وفي الجمل لوعة لا يمكن أن تُمحى. كانت تحاول أن تعيد رسم حياتها المفقودة، وأن تستعيد سكينتها المفقودة، وأن تلمّ شتات قلبٍ كسير لا يستطيع النجاة من الوجع. فكلماتها كانت طوق النجاة الوحيد من بحرٍ عميق من الألم.
لكن الألم، رغم المحاولات الدؤوبة للشفاء، كان لا يزال جزءًا منها، طيفًا يطاردها في كل زاوية من ذاكرتها. رغم أنها تكتب لتنجو، كان الحزن يلاحقها في كل حرف، وفي كل كلمة تُكتب على صفحات الليل الطويل.
وذات ليلةٍ، بينما كانت تقلب صفحات كتابها، توقفت عند جملةٍ طالما ارتجفت أمامها كلماتها: "من أقسى الأشياء التي قد تمر بها المرأة هي الخيانة". عادت الذاكرة تنقض عليها كالوحش الجائع، مسلطة ضوءًا ساطعًا على سنواتٍ من الوجع، والتساؤلات، والخيانة التي تكاد تُدمي قلبها.. تذكرت حبها الأول "رحال"، الذي قابلته لأول مرة في محطة القطار. تذكرت تلك اللحظات التي عبرت فيها عيونهم عن أشياء لم تُصرح بها الشفاه بعد، ذاك السحر الذي جعلها تسلم له قلبها دون تردد. تذكرت كيف كان يحكي لها عن أحلامه، وكيف كانت تتنفس في حضوره حياةً مختلفة. تذكرت تلك النظرات التي تبادلاها، وتلك الوعود التي قطعها على نفسه، لكن كل شيء انهار في لحظةٍ، حين أصبحت خيانة قلبه طعنًا في عمق روحها.
كيف لها أن تنسى؟ كيف تختفي آثار الخيانة التي تركها في روحها، وعقلها، وجسدها؟ كان كل شيء قد تغير في لحظة. في تلك الليلة، وبينما كانت تجلس في مواجهة عينيه، وهو يبتسم في وجهها، شعرت بأن كل شيء يتفجر داخلها. هجمت عليه، قلبها مشتعلاً، وكأنها عاصفة عاتية، انتزعت الهاتف من يده، وصاحت: "أتتحدث معها؟ أخبرني، هل هي أجمل مني؟ ماذا أعطتك؟ ماذا وهبتك؟ كيف تخونني وأنا أم أطفالك؟ أنجبت لك ثلاثة أبناء كالورد، وهبتك حياتي، واهديتك كلماتي، حاربت من أجلك عائلتي. كيف تخون حبي وثقتي؟"
"مع من؟ مع طفلة في عمر "بيازيد"، ابننا البكر؟ خمسة عشر ربيعًا، أتعلم ذلك؟! كيف تجرؤ على اللعب بمشاعر طفلة لم تتعلم الحياة بعد؟ بأي وجه ستقابل الله؟"
"يا حسرتي على نفسي! كل هذه السنين وأنا أعيش مع مريض نفسي، مراهق أبله!"..
"رحماك يا الله، كيف خدعني زيفه؟! وأنا شهرزاد المحامية التي لا تفوتني نقطة من كلمة! كيف صدقتُه؟! صدق من قال: "الرجال والزمان ليس فيهما أمان"..
صرخ في وجهها، رفع يده الصلبة، وصفعها بكل ما أوتي من قوة، وهو يقول: "أنا لست حقيرًا! أنا لست حقيرًا!"
"أنتِ لم تفهمي إحساسي، ولا مشاعري. مللتُ منك، ومن الكتب التي أخذتك مني! مللتُ من الروتين في حياتي. مللتُ من تمثيلك دائمًا دور المرأة القوية. نعم، خنتك لأنني لم أرى فيكِ الأنوثة التي يريدها كل رجل".
مسحت دموعها، لكن كيف لآثار الصفعة أن تمحى؟ أسرعت إلى ابنها، احتضنته بين ذراعيها، وأعادت القول في قهر: "كم أنت حقير! من كل نساء العالم اخترت فقط طفلة مراهقة لتخونني معها وتزرع فيها مرضك!"
أنت وغد، يا رحال، وعديم الإنسانية. لم يحتمل كلماتها، شعر بضعف حججه أمامها، فلم يجد من حلٍ يظهر به قوته سوى الضرب... سحبها من شعرها كما يُسحب الحيوان، وانهال عليها ضربًا. لم يرحم ضعفها، ولا طفلها الذي كان في حضنها. ضربها فقط لأنها صارحته بخيانته! والخائن لا يطيق رؤية نفسه في مرآة الحقيقة..
أفاقت روحها من ذلك الليل الطويل الذي امتزج فيه الحلم بالواقع، فوجدت نفسها جالسةً على أطلال الذكريات، تحاول أن تقف على قدمين مكسورتين. كانت جراحها تئن في صمتٍ، وكلما حاولت التنهّد، غاصت الآلام في صدرها أكثر. لكن هذه المرة، لم تكن الآلام هي التي تحركها، بل صوت طفلها الصغير، الذي كسر صمت الليل وأعادها إلى الحياة.
"ماما، أكملت حفظ جدول الضرب..." كان صوته كالوعد، كالأمل الذي لا يموت. كما لو أن الحياة تتجدد بين يديها في لحظةٍ واحدة. ولأول مرة، شعرت أن قوتها الحقيقية ليست في قدرتها على الكتابة، بل في تلك اللحظة التي احتضنت فيها قلبها الضائع، وقررت أن تعيش من جديد.
تحسست وجهها الذي ما زالت آثار الخيانة عليه، وابتسمت ابتسامةً حزينة، لكنها تحمل في طياتها أملًا. كان ليلها الطويل قد مرّ، وحان وقت إشراقة فجر جديد، حيث تترك خلفها كل ما يعذبها. لم تعد بحاجة إلى أوجاع الماضي، فقد علمتها الكتابة أن لا شيء يبقى للأبد إلا ما نختار أن نعيد خلقه من جديد.