يعنى بالسرد القصصي والروائي
هادية آمنة | قاصة تونسية
بهتت أناقتي, تهوّش شعري وطال ذقني وبان الكدر على وجهي منذ أُلقيَ بي خارج معهد الصادقيّة. عكفت لأيّام صامتا في غرفتي ثمّ خرجتُ لأتسكع طوال النهار أذرع أرباط المدينة وحواريها. تركت أحلامي خلف ظهري ولممت أدباشي وعدت إلى الجنوب إلى قريتي.
كنت أقبع لساعات واجما تحت أشجار سانية القُبِّي. ما عدت أحتمل نظرات الخيبة التي كحّلت عيون أمّي بظلمة تحاول مداراتها بابتسامة باهتة ترسمها على شفاهها المشققة كلما مدّت لي اللقم الشحيحة.
ـ أحمد ولدي.. كلّ شئ يُمكن تعويضه إلا الصحّة
بعد أذيال ليل قاتم مؤرق حملت أوجاعي بين ضلوعي ألقيتُ نظرة وداع على بيتي ومن فيه شددتُ الرحال إلى الجزائر كنت أريد الإنصهار مع تلك النار المتأججة هناك علّني أتطهّر من آلامي.
في السوق سألت صبيّان القصّاب محمد بوجمعة تطلع الصبي إلى الحقيبة التي كانت تتأرجح بيدي قائلا.
ـ تونسي؟ مرحبا بك, سي محمد واقف هناك
ثم سبقني بخطوات معلنا عن حضوري
حدّق الجزّارُ في وجهي ممررا يده على لحيته البيضاء وكأنه يبحث في ذاكرته عن شئ أفتقده ثم ابتسم وتقدم مني قائلا
ـ أنت تونسيّ من قفصة. أنت أحمد ولد التليلي
ياه إنني أرى الأيام التي جمعتني بوالدك. لقد تغيّرتَ كثيرا.
كان يتحدثُ راسما بنبرة صوته المتهدج خطوط ذكرياته وكلما جاء واحد من أصحاب الدكاكين المجاورة مسلّما إلا وقال لهم إسمي مشفوعا بأصلي التونسي الممزوج بجُمل قوامها عبارات الثناء.
رغم ما تنغلقُ عليه نفسي المشطورة بين قوّتين قوّة تريد الثورة لتحقيق العدل وقوّة أخرى تتخبطُ معفّرة بغبار العجز الباحث عن مورد رزق بعيدا عن عيون الأهل الذين نُكبوا في مصيري التعليمي إلا أنني شعرتُ بسكينة حين أخذ محمّد بيدي قائلا.
ـ إيمانك بقضيتنا المُشتركة هو الذي جاء بك إلى الجزائر.
نظر إلى المارة أمامه قائلا
ـ يحبّون أرض أجدادهم, يسيرون عليها في وهن المُستعبد, يُقبَرون في جوفها الهدف نبيل يستحق الفداء بالدم.
نظرتُ إلى الأفق الغاطس في ظلمة الغروب وقلت في مرارة
ـ عيون السماء تُحدّق في الأرواح الصاعدة المبتعدة عن حسك الأرض وأشواكها.
وقف حينها قائلا في مرارة
ـ لقد دفنّا البارحة شبابا أخرجوهم الجندرمة من ديارهم فجرا. أعدموهم ضربا بالرصاص أمام أهاليهم
ثمّ أردف في صوت عميق
"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربّهم يُرزقون "
قلت "صدق الله العظيم" وساد صمت بيننا قطعه صبيّ حافي القدمين بأسمال بالية تكشف عن ضلوعه الناتئة مدّ يده النحيفة قائلا بصوت منكسر خفيض
" يا كريم.. يا كريم "
لفّ سي محمد في قرطاس قطعة لحم ومدّها للصبيّ الذي التمعت عيناه داعيا
دار على أعقابه, راكضا, غاب عن أنظارنا في زحمة السوق
*****
سار الحصان خببا جارا العربة في ممرّحفّت به أشجار الصنوبر والصفصاف صعد مع هضبة ينهب المسالك , هارسا بالعجلات الأعشاب النابتة على أطرافها. وقفنا أمام منزل منفرد. هشّ كلب لاستقبالنا مبصبصا بذيله.
شاع المرح في أعطافي حين تحلّق بنا جمع من الرجال يسلمون بحفاوة لقد وصلهم خبر نزولي ضيفا عليهم. تحلقنا حول طعام العشاء ثمّ احتسينا الشاي المغمور بأوراق النعناع.
ينعطف الشبيه على شبيهه في المبادئ والميولات. كنت أستمع في استمتاع متوهّج لكلمات الرجال الحماسيّة وما تحتويه من خُطط لجمع السلاح ومباغتة المستعمر وقنص الخونة.
بعد منتصف الليل بدأوا في الانصراف فُرادى وعلى دفعات مارين بالمسالك الضيّقة والتخريمات يتوارون بعدها في العتمة.
سرت قشعريرة في جسدي بعد سماعي لطلقات ناريّة أعقبها نباح كلاب. تفرّستُ في تقاسيم وجه مضيفي الذي يشي بالصلابة رغم غزو التجاعيد. اعتلت شفتاه نصف إبتسامة وقال
ـ قُتل الخائن.
بعدها طلب مني أن أنام. انصرف مخلّفا ضوضاء عارمة داخلي .هواجس أبعدت النوم عن جفوني رغم تعبي, كانت الأحداث تمرّ في رأسي كقطار سريع تململت في فراشي, شعرت بحاجة إلى شحنة من الهواء , رميتُ بجسدي خارج الغرفة عبأتُ أنفاسي من طلّ الليل ثمّ عدتُ أدراجي أحكمتُ شد الغطاء على جسدي ثمّ دفعته عنّي في عصبيّة .
" كيف سوّلت لي نفسي مغادرة الدار دون الإعلام بوجهتي " ؟
أشفقت على أمّي من حجم الكمد والحزن الذي سببته لها .كم من مرّة ناشدتني أن أبتعد عن السياسة وأن أركّز اهتمامي فقط على دراستي كانت تقول
" بعد تحصيل الشهادة والوظيفة لك أن تفعل بعدها ماشئتَ "
كنت أدرك أن أعباء دراستي وإقامتي في العاصمة كانت تُستقطع من قوت إخوتي
آواني صديق والدي. جعلني شريكا له في شغل الجِزارة.
اشتغلتُ بالنهار ككاتب عموميّ .أحّرر الرسائل والعقود أمّا بالليل فكنت أزاول التعليم في معهد ثانويّ خاص.
بين السوق المركزيّة والاجتماعات الليلية لحزب الشعب الجزائري تعرّفت على العديد من الشخصيات الوطنيّة مثل مصالي الحاج وفرحات عبّاس وأحمد فرنسيس وأبو منجل.
بين المدن والقرى الجزائريّة التي زرتها وقفتُ على جبروت المستعمر وطغيانه واستغلاله الفاحش لعرق المكدودين. بشاعة جرائمهم نتحدث عنها في مرارة وقهر كم من القرى أبيدت حرقا وكم من الحوامل بُقرت بطونها في لعبة مقامرة للجنود السكارى وكم من فتاة صغيرة أغتصبت أمام عيون والدها...
تعاظمت همومي وانفطر قلبي على أبناء وطني تونس وأبناء وطني الثاني الجزائر.