يعنى بالسرد القصصي والروائي
د. بشرى البستاني || كاتبة عراقية
ليس للظلام سوى معنىً واحدٍ
هو حقيقةُ النور
وليس للنور اسمٌ
سواك أنت.
محمد آدم
يقولون في مدينتها إن الخيول ترى في الليل أجنحة الملائكة فتصهل،
سألته: هل ترى الخيول في مدينتكم أجنحة الملائكة؟
ضحك، وأخبرها أنه يرى أجنحة الملائكة تظلّه إذ يغطي شعرها الحريريُّ وجهه، برائحته ذات العبير الكثيف، ولونه البرونزي المائل للسمرة.
ريح رطبة تجتاح المكان، تحمل في هبوبها رائحة الشبو الليلي طالعاً من حديقة بيتها، وهو يملأ الشارع عطراً له بوحُ الجنان.
تغمض عينيها المليئتين بالدموع وتلصق وجنتها بخشب المنضدة البارد، الليل قد توغل، وهي بانتظار الفجر الذي سيأخذها إلى الجنوب في مهمة صعبة، وحيدة إلا من جروحها الثقيلة، طراوة المائدة الملساء يذكرها بطراوة كفيه وهما يضغطان بحرص على فقراتها العنقية التي تشكو سوفان انحناء دائم فوق لوحات الرسم وأدوات التشكيل، وتقول: أهذه كف عامل بناء، من يصدق..!
لم يدرس الهندسة المعمارية ليكون عامل بناء، لكن الإصرار على البقاء في الأرض اضطره إلى الرضى بما يتاح من الأعمال، ولم يكن أمامه غير ذلك: نقل الحجارة والاسمنت، بناء الجدران، تسليح السقوف، وأعمال أخرى سرية توكل له بين آونة وأخرى، يغيب فيها عن زملائه أياماً، ثم يعود بعدها متفائلاً يواصل عمله معهم بحب، ويتقاسم وإياهم الخبز والبسمة والطرائف، لكن بساطته وعذوبته لم تنسِ أحداً منهم احترامه.
في آخر لقاء لهما قال وهو خارج:
قد يكون هذا هو اللقاء الأخير،
كوني شجاعة، قالت وهي تشم باطن كفه: أنت أكثر شهامة من أن تفعلها.
قال لكنهم بلا شهامة، ابتلعت دموعها، وراحت تدفع شعرها إلى الوراء،
تحاول الابتسام بجهد، مد كفيه وأعاد شعرها إلى كتفيها، قبّل جبينها وخرج..
هاتفُ المساء يرجوها أن تنتظر سيارة في الفجر تأخذها إلى الجنوب.
هاتف المساء يقول: ان اقارب بحاجة إليها، فهم ليسوا على ما يرام.
هاتف المساء يضرب جرس الخطر في حياتها الطافحة بسعادة بالغة الجروح.
قلقٌ مجنونٌ يهز أرض البيت الذي أحباه معاً.
صراخٌ صامتٌ يملأ عليها البيت نشيجاً.
تتحرك بوجع في الزوايا.
يا إلهي .. ماذا تفعل بانتظار الفجر؟
كل شيء مظلم وصامت إلا أنينُ فقرات عنقها، ونشيج لوحات لم تنتهِ بعد .
تنتظر رأيه بالخطوط والألوان كي تدفعها باللمسات الأخيرة نحو الأطر التي يعدها بيديه. في الفجر يعلن بوقُ سيارة خافت عن حضوره، وتندفع سيدةٌ فارعة الطول نحو المقعد الخلفي، وتهرع السيارة بسرعة لافتة تشقُّ ضباب صبح باكرٍ باتجاه الجنوب.