loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

الحديقة

breakLine

ماجدة العتوم/ كاتبة أردنية

يكاد السيد حسان يتكرر دائما على ذات الصورة والهيئة، يلبس بدلته التي من فرط نظافتها وترتيب كيها تبدو كأنها جديدة، ينزل من بيته الكائن في الطابق الثاني في حي الحديقة، والذي اكتسب هذا الاسم منذ أسست فيه تلك الحديقة منذ حوالي خمسة عقود..يمضي بتؤدة نحو محل الفلافل الذي يوجد في ذات الشارع الذي توجد فيه شقته، يشتري ساندويشا من الفلافل وكأس شاي، يحملهما ويذهب إلى الحديقة، يجلس على ذات المقعد الطويل الذي اعتاد الجلوس عليه كل صباح، يتناول فطوره ثم يشرع بقراءة كتاب حمله معه ليقضي نهاره هناك.
السيد حسان علامة مهمة في المنطقة، فكثيرا ما يدل الناس على المنطقة من خلاله، وهو أب للجميع وصديق طيب وحنون، وهو الناصح الأمين لكبيرهم وصغيرهم، يحبونه ويصدقونه ويثقون به، رجل هادىء رزين، متعلم علم الأجداد، حافظ للقرآن وفاهم لكثير من القضايا الدينية ومتابع جيد للسياسة، يحفظ الكثير من الأشعار يرددها كلما حانت مناسبة، مثقف لا يخلو إلى نفسه إلا والكتاب في يده.
تقاعد السيد حسان من عمله قبل حوالي عشر سنوات، وذلك بعد أن فقد زوجته التي عاش معها عمرا قريبا من عمر الحديقة، فكما يقول أن الحديقة تم إنشاؤها بعد زواجه بها بثلاث سنين..له من الأبناء أربعة، بنتان وولدان، تزوجت البنتان، سكنت إحداهما في مكان بعيد حيث لا يراها إلا مرة في الأسبوع، والأخرى سافرت رفقة عائلتها إلى أحد دول الخليج، أما الابنان فيقيمان ويعملان معا في أحد الولايات الأمريكية..فقد معظم أصدقائه ورفقاء عمله، حتى صار وحيدا. لكنه كما يقول أن أهل الحي كلهم أهله، وكل بيوت الحي بيوت له.لكن بعد الأبناء عنه لا يعني نسيانهم له أو عدم اهتمامهم به، فهم يتواصلون معه دائما ويلبون له أي حاجة يطلبها، رغم قلة طلباته، كما إن ابنيه كثيرا ما يلحان عليه للحضور إليهما والعيش معهما، ليتمكنا من الاعتناء به كما ينبغي. لكنه في كل مرة يؤجل الأمر واضعا نصب عينيه ذلك السؤال: ماذا سأفعل لو ذهبت هناك؟
ليس بوسع رجل عاش عمرا كاملا في مكان ما التخلي عنه والذهاب إلى بلد غريب، ماذا يفعل بكل تلك الذكريات؟ كيف سيخلي نفسه منها ويمضي بعيدا؟ والسيد حسان هو سيد الذكريات..يحدث من حوله عن تلك السنة التي قررت فيها البلدية إنشاء الحديقة، عن استيقاظهم ذات نهار باكر جدا على صوت الحفر وغناء العمال، عن دهشة أهل الحي واستغرابهم مما يحدث فجأة، وحين علموا أن هناك مشروع حديقة قادم فرحوا وهللوا، وصاروا يتابعون الأمر ويقدمون الطعام والشراب للعمال ولا يترددون حتى في تقديم يد المساعدة. يقول السيد حسان: كانت حديقة صغيرة، لكنها أدخلت البهجة والسرور على قلوبنا وقلوب أطفالنا، كانت الحديقة مكونة من مجموعة من الأشجار الصغيرة التي كبرت معنا، اعتنينا بها كما نعتني بصغارنا، خاصة أن الحديقة أنشئت لكنها أهملت ولم تجد من يعتني بها ويتابعها، وكان هناك مجموعة من الألعاب التي تجدها في كل حديقة، مثل المراجيح والسحاسيل، وهناك مقاعد انتشرت في أرجاء الحديقة، كما رصفت الأرضية برمل صويلح الذي كان الأطفال يحبون اللعب فيه. كما وضعت حاويات القمامة في أماكن مختلفة وكنا نحرص كل الحرص على أن تبقى الحديقة نظيفة لأنها متنفسنا ومكان اجتماعنا. كنا نجتمع هناك في مساءات الأيام العادية وفي نهارات أيام العطل، يحضر كل واحد ما يتيسر له من طعام وشراب ومسليات، نتحدث ونغني ونراقب أبناءنا بفرح غامر.ولكن نظرا لقلة الاهتمام وقلة الصيانة فإن معظم ألعاب الحديقة ومقاعدها أصيبت بالعطب، شيئا فشيئا صارت الحديقة في وضع مزر ورغم مطالباتنا بإصلاحها، لكن مطالباتنا لم تجد صدى لدى المسؤولين، وكذلك شيئا فشيئا هجرت الحديقة إلا من قلة قليلة اعتادوا ارتيادها لأنها شكلت جزءا حميما من ذاكرتهم، وبالطبع أنا واحد من أولئك القلة القليلة.
لي في الحديقة ذكريات جميلة وحبيبة، زوجتي البشوشة التي كانت مثل الأطفال سعيدة بالحديقة، إلى درجة أنها كانت كثيرا ما تحاول أن تجد وقتا تخلو فيه الحديقة من الرجال لتلعب بالألعاب وتطير على الأرجوحة، زوجتي التي كانت تعد الفطائر اللذيذة كلما أمكنها وتوزعها على رواد الحديقة. أبنائي وهم صغار يتطايرون حولي وحول أمهم، لا يزال بوسعي سماع أصواتهم وهم يركضون ويضحكون وينادونني: بابا، تعال مرجحني، بدي أطير أعلى من كل الاولاد الموجودين..يصمت السيد حسان قليلا ثم يتابع: كبر الأولاد وتفرقوا من حولي...والأصدقاء!! كانت لنا أماس جميلة في الحديقة، نجتمع فنتحدث ونلعب الشطرنج والزهر ولعبة الورق..نتخاصم ونتصالح بعد هنيهات قليلة ولا نتفرق إلا ونحن في أحسن حال..رحل الأصدقاء أيضا..ويعود إلى صمته حزينا وغير قادر على متابعة الكلام.
ولا بد من الذكر أن السيد حسان يحرص كل الحرص على صحته، يمشي كثيرا في الحديقة وفي كل أنحاء الحي، يتناول الطعام بنظام وتحديد، يشرب الماء بكثرة. وكما يقول: أفعل ذلك ليس خوفا من الموت لأن الموت نهاية طبيعية، لكن خوفا من الوقوع فريسة للمرض وطريحا في الفراش، لا أريد أن أسبب القلق والازعاج لأحد، فلكل حياته ولا ينقصه الانشغال بعجوز مريض. ولذلك فإنه يرجو الله أن يموت واقفا مثل نخلة. 
مؤخرا، صار ابنه الأكبر يلح عليه كثيرا بالحضور إلى أمريكا والإقامة هناك، ليكون بين ابنيه، وصار يردد ذات السؤال: لماذا تظل وحيدا ونظل نحن مشتاقين لك وقلقين عليك؟ ورغم محاولات الأب لجعل ابنه يطمئن، لكن الابن صار ملحا إلى درجة أن السيد حسان وافق ووعده بالبدء باجراءات السفر. وبالفعل قام السيد حسان بتجديد جواز السفر والأوراق المطلوبة. وتم تحديد يوم السفر الموعود. وقد علم أهل الحي بالأمر، فحضروا لتوديعه، وتمني السلامة والخير له، مؤكدين على أنهم سيفتقدونه حتما.
وفي ليلة السفر، تلك الليلة الماطرة، قرر السيد حسان بعد تناوله العشاء، أن يجلس في الحديقة مودعا إياها، جلس الليل كله وحيدا، مستعيدا كل الذكريات الممكنة. وفي صباح اليوم التالي، وجد أهل الحي السيد حسان  جالسا على المقعد الذي اعتاد الجلوس عليه في الحديقة، كانت بدلته النظيفة المكوية بعناية، مبللة تماما..وكان يبدو مثل مستغرق في نومة هانئة..
وحين أقيم العزاء في شقته، لم يكن هناك أي حقيبة أو تجهيزات تدل على السفر، فقط وجدوا جواز السفر وفوقه ورقة صغيرة مكتوب عليها بخطه: إذا مت، ادفنوني في مكان ذكرياتي، ادفنوني في الحديقة.