يعنى بالسرد القصصي والروائي
محمد حسين السداوي | قاص عراقي
يايمه اللي وزع الحظ ما ذكرك ..ما لاحك منه شي ..؟!
هل فعلا هناك من يوزع الحظ ..؟! وإذا كان موجودا فأين ياترى يكون ..؟! أفي عالم الغيب ، أم في عالم الدنيا ؟! أم هو سرٌ خاص عند المحظوظين لايبوحون به لأي احد .. الكثير من هذه الاسئلة كانت تمر في باله فيما مضى ، عندما يسمع كلام أمه ، التي كانت لاتفوت مناسبة كتأخره عن الزواج او انتظار التعيين ، ألا وتعيد نفس السؤال الذي هو في الحقيقة ليس سؤالا بقدر ما هو عتابا غير مباشر لموزع الحظ ذاك، الذي يبدو انه نسي ابنها تماما حين وزع هباته ، وكان يبتسم طويلا وهو يؤكد لأمه بأنها تبالغ بموضوع الحظ وأنه ليس هناك حظا بالمعنى الذي تقصده ، فيسألها وشفتيه تزداد انفراجا ( من اين تجيئين بهذا يا امي ..) فترد غاضبة ( غير من سوء حظك ..) فيضحك عندها ويروح يلاطفها ( لماذا سميتني سعد اذن ) فلا ترد ، فيرد هو بدلا عنها ( لأنني سعد فعلا .. ولا اشعر اني قليل الحظ ، بالعكس انا محظوظ جدا ) فيذكرها بالاخطار التي كانت محدقة فيه ايام دراسته في سنين الطائفية وكيف نجا منها بأعجوبة ، ومن شفائه من الامراض الكثيرة التي كانت ملازمة له كالربو وضيق التنفس ، فتسارع الى حمد الله وتؤكد بأنها غير ناسية فضله عليهم ، إلا انها كانت تختم قولها بطلب خجول ( بس اريد من ربي يفتح باب رزقك .. )
لكنه كان يفكر حينها لا اراديا بتلك الاسئلة التي كانت تضفي عليه وهو يتأملها شيء من سحر الخيال ،الذي يجعله متأملا وهو يتخيل موزع الحظ ذاك ، وهو يوزع الحظوظ ، فيكون تارة كملك كريم ، جالس على عرش وامامه الناس تنتظر حصتها من هباته ، وتارة اخرى كأنوار مضاءة تسقط على من تشاء ، ليصبحوا فجأة محظوظين ، حتى كان يحلم احيانا بهدية كانت تأتيه من مصدر غامض ، ويروح يخبر أمه بذلك فتستبشر وتجعله يؤمن فعلا بأن هناك خبرا مفرحا سيسمعه ، وعندما لم يحصل شيء ، كان يتأكد بأن احلامه تلك لم تكن سوى بتأثير كلماتها التي كان يستمتع بها جدا حين يسمعها ، وعندما مشت السنين به وهو الان على مقربة من الاربعين ، بلا عمل دائم او تعيين وبلا زوجة واطفال ؛ وجد نفسه مبتعدا عن ذلك التأمل الذي كان يغمره ، حين كان يفكر بموزع الحظ واستبدله بشعور طافح بالجدية ، كأن هناك شخص حقيقي وعليه مقابلته مهما كلفه الثمن ، ولم تنفع محاولاته العديدة في التخلص من هذا الشعور ؛الذي كان يعلم في قرارة نفسه بأنه لاقيمة له ، ولا يمكن ان يبقى يفكر فيه بهذه الجدية ، رغم ذلك استسلم له عندما اقتنع بضيق الحلول الاخرى ، التي جربها كثيرا ولم تنفعه ، فلم يبقى مكان الا وقدم اوراقه فيه ، ولم يترك وساطة يعرفها لم يجربها ، ولم يحدث اي شيء .
من اين يبدأ ؟ والى من يتوجه الذي اصبح بحاجة ماسة للحصول على نصيبه من الدنيا ؟ ان الامر بدا غريبا عليه ، فليس اي شعور يَسهل تطبيقه في الواقع ، إنتابته وحدة غريبة ، كاد ان يبكي ، شعر بأنه لاحول له ولا قوة ، شعر فعلا بهذا وتمنى ان يخبر جميع ممن يرددون هذه العبارة ؛ بأنه الصادق الوحيد المعني بها ، خطر في باله ان يدق ابواب القوى الخفية ، لكنه لا يعرف السبيل اليها سوى صديق قديم كان يبيع الاحجار الكريمة والخواتيم .. تساءل عن ماذا يمكن ان يفعل له ؟ فهو حسب مايتذكره ؛ لايقل عنه بؤسا .. لكن لم يجد امامه سبيل متاح آخر ، فقرر ان يتصل به ، بعد ان وجد حسابه على الفيس بوك ، تفاجئ بتغير شكله للافضل ، فقد صار اكثر وسامة ووجهُ نَظِر ، وتفاجئ اكثر عندما قرأ انه يعمل موظفا في وزارة النفط .
اول ما قال له ، بعد ان تكلما قليلا عن حياتهما ، وذكره بلقبه (سعد الوسط )، الذي كان اصدقائه يطلقونه عليه ايام الاعدادية ، بسبب موقعه في لعبة كرة القدم وايضا درجاته التي كانت لاتتعدى الستينات والسبعينات ، حتى انهم تفاجأوا عندما اقترب معدله في السادس الى التسعين ، قال ( يجب ان تؤمن اولا ..) فتساءل في نفسه إن كان مؤمنا بهذا ام خيارا لابد من تجربته ( لم يعد عندي ايمان آخر غيره .. كما انها احجار منقوش عليها آيات من القرآن كما اعرف ، وانا اؤمن بالقران ، اي انه ايمان فرعي .. صحيح ؟ ) وأكد ما قاله ، واضاف بعض الاحاديث والوقائع التي تذكر وجود الاحجار واهميتها في حياة المسلم بشكل عام وليس للرزق فحسب ، وتوقع سعد كل ذلك ، إلا انه لم يكن يتوقع بأن البول في الحمام يذهب الرزق او يقلله ، كما أخبره به ، وود لو يُقنعه اكثر لكنه سكت ، وبعد ان اعطاه خاتما وتميمة على شكل حرز مغلف ، قال مبتسما والخاتم والحرز في يده ، وهو يشير اليهما ( هل هذان هم السبب في تعيينك .. اريد تمائم خاصة للتعيين .. ) فضحكا سويا ، وشك صديقه بأنه يلمح لشيء ما ، لكنه لم يبين له ذلك ، فقط اكتفى بشرط مشيئة الله .
عرف سعد بعد ذلك وبشكل يسير ؛ سبب تعيين صديقه ؛فقد كان منتمياً لأحد الاحزاب السياسية ، ولأن هذا سببا شائعا للتعيين ،لذا لم يستغرب كثيرا ، وعرف ايضا من خلال الفيس بوك تعيين اثنان من اصدقائه ، وبيسر ايضا ومن خلال بعض الاصدقاء المشتركين ، فالأول _المعروف بتملقه وذكائه _ قد تعين مُعيدا في الجامعة بوساطة أبيه معاون رئيس الجامعة ، والثاني الذي كان مدمناً على السهرات في البارات ، قد تعين بتوصية من احدى الراقصات التي كانت تبدو معجبة جدا به ، ورغم ذلك لم يفقد حماسه في تجربة التمائم التي كان من المتوقع ان يتركها بعد معرفته كل ذلك ، وقال لنفسه ، كأنه يريد ان يُقنعها ( لعل هذا حظ ايضا .. ان يُعين الحزب انصاره .. او الراقصة صديقها، وحتى من كان أبوه في هكذا منصب ، فربما يكون الامر اصعب في هذه الحالة ؛ كون العيون مفتوحة عليه .. )
طبق كل شيء قاله له ، وصار الخاتم والتميمة لايفارقانه ، لكنه نَسي ان يقول له ماذا يفعل بعد ان يلبسهما ؟ هل يبقى ينتظر ؟ وماذا ينتظر ؟ لم يبق هكذا طويلا حتى أعلن مجلس المحافظة عن تعيينات بصفة عقود ، فظن ان المفعول بدأ يعمل ؛ وهو ينظر للخاتم ، فجمع اوراقه وقدمها ، ولكن لم ينفع الامر مرة اخرى .. فقد ظل يفتش اكثر من مرة عن اسمهِ في القوائم من غير جدوى ، ووجد اسمه في النهاية موجود في قائمة الاحتياط ، ودقق في نقاط مفاضلته مع الاخرين ؛ فوجد انه كان قريب جدا من الاختيار .
لم يكن هذه المرة وسطاً ، بل كان على وشك الفوز ، فقد كان في المرات السابقة لايتعدى موقعه وسط الجدول البياني في مسابقات التعيين ( فقد اخترع هو هذا الجدول ) الا ببضع درجات صاعدة او نازلة ، ولم يفسر لنفسه ماهو هذا الجدول الذي يصفه بالبياني ، فماذا يمثل خطه الافقي والعمودي ؟ لايدري ! إلا ان مرتبة الوسط كان يعتقد بأنه غادرها ، ولكن لم يتغير شيء فما زال من الواضح بأنه يحتاج ولو قليلا الى شيء من التوفيق.
لم يكن هذا بالشيء الجديد ، ولكن هذه المرة _ جراء تذكيره بلقبه ربما_ اخذ يفكر بلقبه ( الوسط ) ويطبقه على حالات مر بها ؛ مثل الحب ونصيبه من الوسامة واختصاصه في الكلية وحالات اخرى ، فوجد ان معظمها قد بلغ بها درجات متميزة ، كالحب مثلا ، ففي الكلية كان على علاقة غرامية بفتاة جميلة جدا ، ولم يكن اي شيء وسطيا في علاقتهما ، انجذابهما كان قوياً ، حتى انهما كانا يتبادلان القبل طويلاً وكادا ان يقعا في المحظور ، لولا مسكَ نفسه في الوقت المناسب ، والامر نفسه تقريبا في اختصاصه ( الهندسة المدنية ) فلا يعتبر هذا من الاختصاصات المتوسطة القيمة ، فقد دخل الهندسة بمجموع يقرب التسعين في الاعدادية ، كما انه لايمكن ان يوصف بأنه ذي شكل مقبول ، بالعكس كانت وسامته بادية على ملامحه ، حتى ايمانه او تدينه يمكن ان يقال بأنه لا يشبه الكثيرين به ( على الاقل بالقياس بجيله ) ، ولم يعقد هذه المقارنة بلقبه مع حياته من باب تفنيد انه وسطي في الغالب ، فهو لم يكن يسيئه كونه وسطاً ، كما انه لا يشعر بأنه مختلفا عن الاخرين بشكل كبير ، بل بالعكس هو يعتقد بأنه يشبه كثيرا من الناس ( رغم ان ذلك ليس دقيقا بالذات بما يتعلق بقصة حبه واختصاص دراسته فضلا عن وسامته ) ، فالوسط في نظره هي مرتبة الناس الطبيعيين ، الذي يعتقد بأنه طبيعي مثلهم ، لكن ليتبين ماهو السر او العائق الذي يمنعه من الاستقرار في وظيفة حكومية ؟!
كل ذلك لم ينفعه ، ولم يخفف شعوره بالظلم ، وصار الان على استعداد بالجهر بصفاته تلك بوجه من هو اقل شأنا منه ، سأل امه بلهجة من يريد ان يتأكد من شيء ما _ ( حدثيني عن بائع الحظ ذاك .. )
اجابته بلهجتها المعهودة
_ عندما تجده .. حدثني انت عنه ، شوفه وين كان نايم ..
_ انه لاينام .. انا من كنت نائم
فَوَجَدت كأنه يوافقها على رأيها بأنه لم يتحرك كما يجب
_ انه ذنبك اذن .. انك بعيد عن طريقه .. بعيد عن جماعتك اللي تعينوا .. _صحيح .. انا امشي في طريق وهو يمشي في طريق آخر تماما ..كما انني اكتشفت بأنه ليس موزعا للحظ كما تقولين ، انه بائع له ..
لم تقل شيئا ، ونهضت متثاقلة ، مبتعدة عنه ، اكمل وصوته بدا يرتفع
_ موزع الحظ القديم ؛ مات .. قتلوه بائعي حظ اليوم ، لا احد اليوم يهب شيئا ، كل شيء يباع ، وبأثمان غالية ..
تذكر خياله السابق عن واهب الحظوظ ، فأبتسم ثم اخرج التميمة ، ونزع الخاتم ، ووضعهما في يده ، تأملهما وقال بعد ان سمع صوت امه يعلو بالدعاء
_ بائع الحظ صار سيء السمعة يا امي .. هجر الممالك القديمة ، مملكة الدعاء والخواتيم والتمائم ، واستبدلها بالبارات ، والضمائر والاخلاق ..
عندما رجعت امه ، جلست بجانبه ، لم تقل شيئا ، قال بشكل اكثر هدوءا ، وبلهجة واثقة كمن يطمأن احداً عزيزاً
_ اعتقد اني سأتعين قريباً .. فقط اريد ان أستعد
بعد مدة ليست طويلة ؛ اصبح سعد الوسط يخرج يوميا في الصباح ولا يرجع الا ظهرا ، يبدو انه تعين فعلا كما قال لأمه ، وكان يرد بالإيجاب على من يسأله (بشر هل تعينت ؟) ويقول بعدها عندما يقال له كيف ( عند بائع الحظ .. وجدت حظي اخيرا ..) ويضيف سريعا حالما يرى الآخر ساخراً غير مصدق ( فقط ابحث عنه في طريق آخر غير طريقك .)