loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

(بطولة عامل البوفيه)

breakLine


أحمد أبو دياب || قاص مصري


عبرت المسافة من البوفيه إلى مكتب المدير بصرامة وأنا منشغل فقط بالتأكد من نظافة السجّاد الأحمر، فقد كنت متأخرًا في تقديم الشاي صباحًا ولا بد من التعجيل بالقهوة له الآن، لا أريد إغضابه اليوم تحديدًا وهو آخر أيامه هنا في العمل فنغادر معًا، لذا لم يكن هناك فرصة للتلكّع والمزاح ومداعبة المارين، أو تقمص شخصيات المدير والموظفين ولا تقليد شخصية مهمة من زوّار المؤسسة في سمتها وسلوكها، حتى المرايا تجاهلت نداءها ولم أحفل بتحسس وجهي ولا حتى التأكد من ضبط هيئتي، فضبط مزاج المدير وإلا ضبطي أنا متّهمًا بتعكيره.
بينما أقترب من مكتب المدير وأنا أحمل إليه كوب القهوة بحرص زائد، فإذا بي أجده أمامي؛ حيث فوجئت بروح المدير وقد حلّت في جسد آخر واستبقتني إلى الباب، تراجعت خطوات مرتبكًا من هذا القادم الجديد، أسعفتني المنضدة القريبة مني حيث أرحت عليها الصِّيْنِيَّةُ لأحرر يديّ مما أحمل ثم أرفع إحداهما ومعها أرفع صوتي تحية للمدير الجديد، بادلني التحية في  حذر وهو يبسط يده على صدره كنوع من الامتنان، أفقت من سطوة هيبته بعد لحظات وهممت لأفتح له الباب، فاستوقفني بإشارة من يده مع إيماءة لطيفة برأسه ونظرة تقول: انتظر.
تراجعت ثانية حيث وقفت قبل قليل، وتوقف هو كذلك عن الدخول، ليريح حقيبته على الأرض، فأطاعته الحقيبة وانتصبت على الأرض بكبرياء رغم خفّتها وخلوّها، لكنّها شنطة المدير وهيبتها من هيبته، بدأ في خلخلة رابطة عنقه وجذبها قليلًا ثم شدّها جيدًا لأعلى، فعلها لعدّة مرات كأنه يحاصر أنفاسه كي لا تفرّ من صدره، المدير لا بد أن يسيطر على كل شيء ويحكم القبضة، حتى على الهواء الذي يجول في صدره هو شخصيًا، وإلا كيف يكون مديرًا! انتهى من تقويم رباطة عنقه وعدّل من موضع نظارته الطبية المستطيلة، ثم مرّ على شعره سريعًا بأصابعه الرفيعة كأسنان مشط، الغريب أنه فعل ذلك كله وبثقة من دون أن يضطر إلى التحرك قليلًا ناحية المرآة في الكوريدور، أهي ثقة في نفسه أنه سيتهندم بآلية بفعل الاعتياد، أم ثقة في أن من سيرى شيئًا غير منضبط في مظهره لن يجرؤ على الإشارة إلى ما قد يراه؟ لا ريب أن المراتب زادته ثقة وهيبة، وما زادتني الأيام إلا تهيّبًا وارتباكًا.
هو مختلف قليلًا عن المدير الحالي، فشبابه ما زال ينبئ عن نفسه، يميل إلى النحافة ويمتلك بشرة بيضاء، ولحية خفيفة دقيقة متناثرة على وجهه جعلته أميل إلى الوسامة رغم عدم انتظامها أو اكتمالها، واختلافه كذلك في سلوكه، فها هو يجيء ليمهّد استلام منصبه الجديد من نهاية يوم الخميس آخر أيام العمل في الأسبوع الحالي، مع أن قرار التنفيذ يبدأ فعليًا من يوم الأحد مطلع الأسبوع القادم، انتظرت في مكاني وتقدم هو وطرق الباب بخفّة وثقة، ثم جاء الجواب من الداخل بكلمة "تفضّل" ومعها جاء صوت رنين هاتف مكتب المدير، غاب المدير الجديد وانغلق الباب ثانية، انتهزت الفرصة وعدت مهرولًا إلى البوفيه لأتخلص من هذه القهوة التي أصبحت باردة، وإن كانت تصلح، فلا يليق أن أدخل بكوب قهوة واحد وهناك اثنان في غرفة المدير، صحيح أن المدير الجديد لا أعرف قهوته، لكنني سأفاجئه بارتجالي، ربما يرعى حفاوتي ويقدّر مبادرتي، وحتمًا سأعمل بملاحظاته وتوجيهاته بخصوص مواصفات قهوته من الكوب الأول الذي سيطلبه هو، وصلت إلى البوفيه والهاتف يواصل دقّاته بدون توقّف، كأن لا أحد في الغرفة من المديرَيْن!
أغلقت الباب خلفي فور ولوجي مكتبي، أو مكتب هذا الجالس أمامي لساعات معدودة فقط، ومكتبي أنا من الغد، أو بعد بعد الغد، بالتحديد بعد انتهاء العطلة الأسبوعية، لكنّ خروجه اليوم يعني بشكل ضمني أنني لا بد أن أكون متأهبًا للجلوس فور قيامه طواعية أو حتى سقوطه، كوليّ العهد الذي يظلّ جالسًا على يمين الحاكم منتظرًا أن تتبدل الأدوار... والكراسي.
وقبل أن تلتقي عيوننا أو هواجسنا، دقّ الهاتف فتراجع كلانا خطوة للوراء في مخيّلته وهو ثابت في مكانه وعلى مكانته، أيكون الهاتف لي؟ لم أخبر أحدًا حتى أهل بيتي ولا حتى أصدقائي أنني جئت مبكرًا لتهيئة مكان عملي الجديد قبل استلامه، حتى أكون قد فرغت بالفعل من ترتيب هذا المكتب وبثّ روحي ورائحتي فيه، ومحو أثر هذا الزميل القديم، حتى لو كلّفني الأمر أن أبقى في المكتب طوال يومَي الإجازة.
عليّ أن أحسم الأمر سريعًا، فهذه الرنين يتكرر للمرة الثانية، وقد سلّمت عليه وتبادلنا النظرات والمكانات، ونحن ما زلنا واقفين على حالنا لم نتبادل الأمكنة، فلقد جئت لأستحوذ على كل شئ هنا تقريبًا بحكم عملي، لكن ربما كانت هذه المكالمة بالتحديد ليست من مستحقاتي، أيعقل أن القرار تم إعادة النظر فيه قبل ساعات من التنفيذ؛ وهذه المكالمة تحمل لي تكليفًا بالعودة من حيث جئت وتبقي على مدير المؤسسة كما هو؟ لكن لماذا يظلّ هو أيضًا مثلي هكذا عاجزًا عن الردّ.
انتهت الدقّة الثانية لآخرها، ثم دقّ الهاتف مرة ثالثة وقد صار صوته أكثر ريبة وإقلاقًا، وفي لحظة تلاقت فيها الأيدي من دون اتفاق، همّ كلانا بالقيام من كرسيّه ومدّ ذراعه والتقاط سمّاعة الهاتف، فتراجع بسرعة هو في نفس اللحظة التي تقهقرت أنا أيضًا، وتبادلنا كلمة "تفضّل" مع ابتسامة متوترة، لكن لمّ يتفضل أحدنا، ووجدتني أغوص في مقعدي متظاهرًا بالعبث في بعض المتعلقات في حقيبتي، متجاهلًا الرنين.
من السخرية أني أنا المدير ولكنني أجلس أمام المدير، قريني الشيطاني الذي لا أحب أن أراه كما لا يحب أحد أن يرى قرينه، اعتدت أني خلف مكتبي على كرسيّ المدير، ومن يجلس قبالتي أيًا يكن فهو أقل مني درجة وشأنًا، إلا لو كان هناك استثناء لضيوف كبار، فهؤلاء كان مجلسهم بعيدًا عن المكتب حيث تعدّ لهم غرفة خاصة، وهكذا؛ أكون ولا أكون في لحظة واحدة، لحظة واحدة انفتح فيها باب مكتبي ومعها انغلق ملفّي كمدير هنا في المؤسسة، وكان علي الانتظار حتى أرى لأية جهة ستشدني القرارات الجديدة، النقل –كالموت- علينا حق، لكن الفراق صعب، فراق المَرتبة والمكانة والناس هنا، فراق هيبتك أو بالأحرى نفسك في حال قد آلفتها.
حتى هاتفي الذي لا يدقّ إلا ليذكرني بوجوده كل حين، قد قامت قيامته ولا يتوقف عن الرنين قبل أن يجلس إليّ بديلي، أهي مكالمة تزيد الطين بلّة وتقصيني تمامًا بدلًا عن النقل، أم أن زوجتي تهاتفني لتسألني عن الغداء وماذا ستعدّ لي مما أحب من الطعام لتلطّف عنّي قليلًا بعد أن أخبرتها بما جرى من أمر نقلي، أم يا تُرى مكالمة من موظف غافل عمّا حدث ولم يصله بعد أمر حلول المدير الجديد.
ابتدأت الجولة الثانية من الرنين وقد أحْجم هو أيضًا عن الردّ لكنّه لم يُحجم عن التحدّث معي وفتح باب ود مؤقت، ليخرج منه كلٌّ منّا إلى مأربه بسلام، وقد يكون الأمر ليس من شأني الآن بحكم أنني خارج المنصب حتى لو ظللت حتى اللحظة داخل المكتب، ولا أستبعد أنها مكالمة له، تهنئة أو توصية أو أشياء كهذه، أو حتى مكالمة من أهل بيته يجرّبون صوت أبيهم كمدير للمرّة الأولى، بالتأكيد سيصير أقوى وأنقى.
وعند الثالثة ربما انتقلت إليه هواجسي عنه وعنّي، وقدّر نفس تقديري وعلى هذا فقد حاول الردّ، وللأسف أيضًا كانت محاولة دفاعية أخيرة مني، امتدت يدي بحكم العادة وحاولت الردّ على هاتف المدير –كمدير- للمرة الأخيرة، بينما وجدت يدًا قد اصطدمت بي في منتصف المسافة، ولكنّها سرعان ما تراجعت بتردد، فانهزم كلانا في الجولة الثالثة، فرفعت رايتي أنا البيضاء أو أوراقي البيضاء من على مكتبي، وحاولت ترتيبها استعدادًا لحمل ما أريده منها، وهو انغمس في مكانه وتسلّى مع حقيبته، وقد بدا عليه الارتباك، وكلانا مشفق على الآخر، هدأ الرنين لثوان لم تكن كافية ليطالع أحدنا وجه الآخر، ثم عاود الهاتف إلحاحه ولا أحد يقوى على الرد.
كنت أكمل إعداد القهوة للرجلين، ويخترق أذني صوت هاتف مكتب المدير الملحّ، أمعقول قد انسجما في الحديث لهذه الدرجة فغفلا عن كل ذلك الرنين المتواصل! أم أنهما قد اقتتلا دفاعًا عن الكرسيّ فور وصول المدير الجديد وأحدهما قُتل وهرب الثاني! اصطبرت ببعض الهواجس الساخرة والمقلقة معًا، فلم يكن الأمر طبيعيًا بالمرّة، هاتف المدير لا يدق إلا للضرورة، وأغلب من يطلبه يصل إليه عن طريق مكتب النائب ومن خلال السكرتير، لكن هاتف مكتبه الشخصي لا يستفيق من غفوته إلا لمامًا، حملت معي صينية القهوة والاحتمالات، وقطعت المسافة مسرعًا، وقد انتابتني الحيرة فجأة قبل أن أطرق الباب وأستأذن للدخول، هل أعيد الترحيب بالمدير الجديد أمام مديري القديم، وهل هكذا سيظنني عبد سيده وإن تبدّل، هل أضع كوب القهوة أمام القديم الراحل فأتهم بعدم رضاي عن مديري الجديد، أم أضعه للقادم أولًا احتفاء به ولو على سبيل الضيافة لا بحكم المنصب، وهذا قد يعرضني للوم وعتاب من الآخر؟ زادت كل تلك الهواجس فازداد طنين الهاتف في أذنيّ، طرقت الباب متوجّسًا ثمّ دخلت، وجدتهما في مكانيهما، يتظاهران بالانشغال في ترتيب أوراق والنظر في متعلقات، متجاهلين الهاتف عن عمد أو عن استغراق، لا أعلم، أعفاني استغراقهما هذا من حرجي من أين سأبدأ في وضع كوبيّ القهوة ولمن ستكون الرشفة الأولى، كان الأقرب إليّ حينما دخلت مديري الجديد، فوضعت كوبه قريبًا من متناول يده، ثم الآخر أسندته ناحية مديري القديم، وكلّ هذا وهما منشغلان بما يفتعلانه، والهاتف يصرخ للمرة الرابعة، فأخذت قرارًا فوريًا ومددت يدي ببطولة كأنني أستلّ سيفًا من مقبضه، التقطت سمّاعة الهاتف، وعيناي مركزتان على جسم الهاتف متجنّبًا ردّة فعلتيهما، قب أن أتكلم سمعت الصوت من الطرف الآخر يسأل عن شخصٍ ما في استعجال ويعاتب على عدم الرد من أول مرة، فأجبت بهدوء وثقة: الرقم خاطئ... مع السلامة
وأعدت السماعة مكانها، فوجدتهما ينظران إليّ، لم آبه كثيرًا لما قد تكون قد أوحت به تلك النظرات، أخرجت معي الصينية الفارغة وتركت المكتب مغلقًا الباب خلفي، وأنا منتشٍ ببطولتي في مكتب المدير.