يعنى بالسرد القصصي والروائي
الحسين بن خليل | كاتب عراقي
عنِ القصبِ
البرديّ وسعفِ النّخيلِ والعرجونِ القديمِ
تفتحُ عيونُ القريةِ ملائكتَها لترويَ
أو لتضمّدَ ضحكاتِ الضّواحي التي أذنَ بها الموتُ،
أو لتشحذَ الكحلَ من التّويجاتِ المحترقةِ على كتفِ السّاقيةِ.
عن ماذا تروي العيونُ الملائكةُ،
هذا الخجلُ
ينفخُ في فوهاتِ القصبِ،
علَّ عاداتِها تضعُ أوزارَها مرّةً أخرى وتضحكُ ( غناويك )
( يا سمر دربي حزن والتراب يفور )
كلّما نقلتُ قدمَيَّ خارجَ أسوارِ بيوتِ الطّينِ
أو مددتُ بصَري خارجَ ذكرياتِ الأكواخِ
يسعفُني الفيءُ،
هذهِ الجادةُ حفظَتْها مؤنُ الظّهيرةِ
وأنا أسيرُ وأتلطّفُ في البساتينِ حتّى يبلغَ قصدي محلَّهُ
( يا سمر )
للفواصلِ مغزىً لا نعرفُهُ،
نقلةٌ لا نعرفُها
إلا حينَ تكونينَ بينَ لحنَينِ، قرويٍّ وآخرَ من نوتاتِ المدنِ،
إلا حينَ تترامى رغباتُنا خارجَ الأسوارِ وتصيرُ مهجّنةً.
فواصلي كعقدِ القصبِ تشدُّني لبعضِي،
وفواصلُكِ كمفترقاتِ الطّرقِ تضعُ الخياراتِ أمامَ السّاعينَ.
كيفَ لي أن أهجرَ لغةَ الأشجارِ وهي تسبّحُ كالملائكةِ؟ متى ما هبَّ النسيمُ وهمسَ في آذانِها،
ونحنُ صبيانَ القريةِ تتهجدُ فوارزُنا منتصفَ الليلِ
تتورّمُ براعمُ رغباتِنا،
ثمّ نهيمُ في النهرِ علّه يواري الفائضَ من عروقِنا المتيبّسةِ.
النهرُ فاصلةٌ لا تواري مَن في خفاياهُ رحيلٌ،
وأنتِ تُسامرينَ رحيلَكِ في النّهرِ منذُ رعشتِكِ الأولى،
يخبرُنا غورُهُ
لكنَّ المبلّلينَ يمكنُهُم حزمُ الأمتعةِ والرحيلُ دون أن تأذنَ لهُم القنطرةُ حتّى يعبُروا ،
ثمّ تطلقُ صراخَها كأنها تلومُ الفتيةَ على غفلتِهِم ...
أيغفلُ قرويٌّ هائجٌ
أو يسهو،
أو يغضُّ بصراً عن ماءٍ يتسرّبُ إلى منحدرٍ ما...
يعلّمُنا الماءُ...
كيفَ الهجرةُ ممكنةٌ كلّما وضعَ أصابعَهُ ليتحسّسَ منخفضاً ويمضي،
يعلّمُنا الماءُ على عكسِ الدُّخانِ وهوَ يتصاعدُ...
أيضاً يغادرُ الدّخانُ
ولا عزاءَ للتّرابِ غيرُ من بقيَ في طينِهِ ملتصِقاً...
كحلُكِ الآنَ مدهونٌ بعرقِ الأيدي العاملةِ،
حمرتُكِ فيها لونٌ أبلهُ يبهتُ كلّما خرجَ من تحتِ الظّلِّ،
وجهُكِ لم يعدْ أسمرَ الآنَ،
فقد غرّبَ كثيراً أيّتها الرّيحُ...
أنا لا أثبتُ كما كانَ العرجونُ في قلبِ نخلتِهِ
حتّى يلفظَ أنفاسَه الأخيرةَ،
وأنتِ تفورينَ كميسمٍ لم يزُرْهُ رحيقٌ،
فلنهجُرِ الرّبوةَ الهادئةَ ونسلكُ طرقَنا بعيداً.