loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

ثرثرة على حافة كأس

breakLine

يوسف محمدين محمّد/ كاتب تشادي


تقول صديقتي "الأربفونية" الجميلة، ذات الملامح الأبنوسية، تحمل الأشياء وتتباهى بها وهي تحشر السيجارة بين إصبعيها، إنها لا تدخن، تأملت التبغ المكفن جيداً 
وشرعت في الحديث وأحاديثها لا تُمل، وتفاصيلها تجر التفاصيل..
حين تتحدث فلا تتحدث بفمها فقط، ولكن كل ما فيها يتحدث
تتحدث الأشياء جميعها.. 
قالت:
كنت سأكتب لكَ مكتوبا عريضا
عن الشيطان وما يختزله العقل المتخلف، لكني في الحقيقة عدلت عن هذا 
عن الخمر المعتقة، وحتى هذه، لا 
عن التفسيرات والتأويلات البليدة للأشياء والدين، والناس والاقتصاد وإيمان المغتصب الذي أخجل شيخنا الجليل، وفتوى الشيخ في أمر بيع الوظيفة، والتي يسمونها رشوة مع أنها الآن ليست بالرشوة إنها في دائرة البيع والشراء، ولكني فضلت ألا أخوض هنا أيضاً..  
عن الحسناوات اللائي يرقصن بهستيرية وهن يهزن نهودهن الصغيرة، -ربما- 
عن الجميلات جميعهن- ربما- 
واحدة واحدة 
وعن تأثير ماء زمزم الرائق العذِب في القوارير البلاستيكية أو تلك التي في الزجاجات 
كل ذلك لم يحدث، لم أكتب عن تلك الأشياء، ولو أنها تستدعي الكتابة عنها وباستفاضة وشاعرية، وبأرق منسوج الحروف. 
تخليدهن في ذاكرة الأمة والأجيال، تخليد جمالي وفني لا كما يفعل أعداء الجمال، والفن والحُسن..
ولكني وجدتني أكتب عن حسناء واحدة استفردة بي وهي 
الداخلة تواً، التي اتخذت من الركن البعيد مجلساً، 
إنها لا تجيد الرقص، لاحظت ذلك وأنا الخبيرة والمستشارة في هاتيك الأمور 
واكتفت في زحمة الأشياء بأن تهز 
أردافها الجميلة المتكورة على الكرسي الخشبي 
وأن تهز صدرها الطري خلسة دون أن يستشعر 
الجالسون على المقاعد يعبثون باللاشيء، في محاولة لقتل اللاشيء ذاته
فقط وحدي لمحت تلك التفاحتين الناضجتين، التي تنادي وتستغيث 
إنها لا تجيد الرقص ولكنها تجيد الموسيقى والاستماع لها والتفاعل معها، 
إنها تجيد الإصغاء، ولكنها ليست حكاءة، تجيد قراءة الوجوه وما تحمله من دلالات،
تجيد جداً قراءة النظرات، وتلتقطها كعدسة كاميرات "الناشونال جغرافيك"
وتعرف جيداً كيف تتعامل مع هذه التضاريس الجسدية وفي عناية فائقة بها
في الأغراء، وفي المباهاة بها، عنيدة تجيد التجاهل وتتقن اللا مبالاة 
والمعالم الحغرافية تلك، لتغري السياح هناك، ليقعوا مقتنعين في شباكها، راضين بقضاء الله وقدره، لا مرد لأمر الله، وإن أمره كان مفعولا
وتتقن فن أن تُعري زيف القناعات التي يرتيدها الناس في الحارات والمساجد والمجالس الأسرية المليئة بالمثاليات، التي لا شيء في حضرة الحاضرات باقٍ
وهي تلاعب الأسفنج الحزين ...
وتناغم الزجاجات الفارغة 
والمعبأة بـ"الماء المقدس" 
تَعرف كيف تذهب بعقول المتدينين والملحدين، والمذبذبين معاً
والكاتب، والشاعر الخلاق، 
كل الشعراء الذين رأوها لأول مرة أوحت إليهم بقصيدة، كرم منها وجود 
ولا تبتغي من وراء وحيها لا جزاء ولا شكورا

هل هي هي نفسها الخجولة؟ 
التي لا ترفع عينيها حين يمر من جانبها الرجل؟
تساءل صديقي "الفركفوني" الجالس بقربي وقت ذاك
حين بدأت تدوين الخاطرة: 
هل حقا هي؟ أعاد السؤال لا ليستفهم ولكن لدهشة ألمت به
لم أعد أصدق، قال: وأردف في قوله
لولا أنها تحمل الملامح "الأربفونية" وبقايا حروف مخدرت معلقة على جبهتها ربما تعود تعود جذورها لكتاب للثقافة الدينية، أو شيء من كتاب التهذيب، هي الحروف التي تحاول في يأس أن تمسك الحجاب بألا يسقط، وسقط مرة وأخرى وألف مرة 
تعويذة صوفية، 
تقيها من "العين" و"الحسد" ومن شر حاسد إذا حسد 
ومن شر النفثات في العقد، 
تميمة تتدلى لتتكئ على الجانب العلوي من النفق المضيء المنحدر 
تحفظها أينما حلت، وارتحلت 
تعويذة معقودة 
ورثتها 
وهي الوريثة التي لا شريك لها
وكذا تقاسيم الشمال القبائلي، أضاف "الفرنكفوني" 
والسحنات التي عليها تعوِل الاشياء بالأشياء 
فقط 
هي لأنها هي 
ولا غيرها هي ...
عشقتها وأنا أنثى؛ يا ترى ماذا حل بالشاعر الذي قذف إليها بمطوية 
بها مطلع قصيدة صوفية
ورقم هاتفه الجوال، واقتباس غزلية فاحشة -ربما- للإغواء 
والسيد الذي يعبث بلحيته ويغمز لها في خجل...
سأرسل لك التدوينة.. قالت "الأربفونية'' 
صمتت "الأربفونية" للحظة وأعادت السجارة المحشوة بين إصبعيها الي العلبة وربتت عليها، ثم في صمتها المهيب أخذت جولة تحديقية حول الفراغ الذي يحوطنا 
في الوقت ذاته علا صوت المؤذن من المسجد 
منادياً حيا على الفلاح 
في ما يشبه الهمس قالت ربما الرب قد اشتاق لرؤيتكم 
هيا استعد لتذهب إليه 
ذَكّره في سجودك بي وقل له أنا في الإنتظار 
فالينظر إلي ملفاتي المتكومة على مكتبه 
بفرنسيتها الركيكة أضافت: "EN TOUT CAS BON VENDREDI"
وتلاشت في زحمة العدم الرهيب 
بلا وداع تلاشت كسحابة دخان سجائر رخيصة.