loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

جليسة إبليس

breakLine


حنان النشمي/ كاتبة عراقية


في النفس البشرية هناك أشياء أقل غرابـة ولكنها أكثر خبثاً!!
في غضون الثلاث سنوات وهي تعيش معه بكل الحب والوئام أنجبت له طفلا صغيرًا يبلغ من العمرِشهرين.. بعد إكمال وجبة العشاء تأفف وفرك يديهِ وأخذ يسرح كيف يرتب الكلام، ليخبرها؟
صعقها الخبر حينما سمعتهُ يقول لها بأنهُ قد تزوجَ مرة أخرى.. في المرة الأولى ضحكت ظنت بأنهُ يمازحها ولكن هي تعرفهُ جيدًا حينما يكون جادًا في الكلام، حيث أنتهى قائلًا لها بأن تعيد ترتيب الغرفة في الطابق العلوي فقد حزم أمره واستقر رأيه على أن يجمعهما سوية في منزل واحد…
لطمت خدها ولعنت حظها، اتجهت دون وعي نحو غرفتها وسحبت الحقيبة الكبيرة من تحت السرير وأخذت تنثر ملابسها وسط الحقيبة، وأفرغت ما في الدرج من مجوهرات تمتلكها.. تتساقط الدموع من عينيها فوق مشاتل خدودها فتموت الأزهار من شدة الملوحة..
وصلت الباب فانتبهت لثيابها المبتلة، فكان ثديها يدَّر الحليب وصراخ طفلها يدوي من خلفها.. قفز شيطان من أمامها طالبًا منها العـودة حيث الأخير سيتكفل بالأمر.. إذ وسوس لعقلها باسترجاع زوجها بمكيدةٍ.. وإنها ستفعل.. حيث أنها لم تكن في وضع تفكر به في الإنسحاب وترك زوجها، فعادت لغرفتها ووضعت رضيعها وسط حضنها وغرست حلمتها وسط فمهِ ليخلصها من تحصرم الحليب في صدرها.. ليهدأ، وهي سارحة بأي خطة ستنتهي!!

ليس كل الأوقات جميلة دائما، هناك ما تحشر التعاسة نفسها وسط أيام الجميع.. وتزامنًا مع سعادتي وفرحتي لأني أصبحت أمًا.. إذ بالسعادة قد اكتفت منّي.
عند المساء فُتح الباب دخل الزوج مصطحبًا زوجته الاخرى (ابتهال)، فنادى عليها قائلًا: لا أطيق افتعال المشاكل ولا أريد أيّ منغصات في هذا المنزل.. هنا تجتمعان على الودّ والمحبة فيما بينكما..
ثم اقترب منها ليكمل قولهِ: أجمعي بعثرة ملامحك فأنا أحبكِ ولا أشكو تقصيرًا منكِ لكنهُ الدم والظرف كان اقوى، فابتهال ابنة عمي يتيمة الأبوين وهي تعاني الظلم والاضطهاد في ظل زوجات إخوتها.. هذا واجبي بأن أحميها، ولن ترَ أي واحدة منكن تقصيرًا من قبلي.
انبرى صوتها نادبًا حظها حيث بكت بمرارةٍ وغدت تفكر بسخرية الأخريات منها وهمسهن قائلات: قد تزوج عليها فلم تكن تكفيه..!!

   ( حين يوسوس الشيطان )

لم أعد كافية له ليأتي بأخرى.. انطفأت داخلي أضواء الحياة..
نعم، قد انطفأت فليس هناك سوى الحزن يتأبّطني.. حيث سادت ليالي الفتور.. تكاثفت أعشاب الحسرة وهي ترتوي من سيل أدمعي، وبعد مرور أيام قليلة لم اعتد على وجود ندٍ لي والشيطان يصبح ويمسي جليسي، ويحاول جاهدًا أن يغدقني بالأفكار وفي كل مرة يقترح فكرة اقول لهُ: لا، ليست ملائمة!!
حتى تسلل الصياح عبر الجدار وصراخ نساء الجيران صدم الجميع بوفاة الحاج ادريس أثر جلطة قلبية، إذ كان من وجهاء المنطقة ويقصده الناس من بعيد لحكمته ووجاهتهِ، فكان خبرًا مؤثرًا في النفوس، واحتشد الشارع بالناس الذين جاءوا لحضور الجنازة وانشغل زوجي معهم وهو يؤدي الواجب تجاه الجيران، أغلق محله واعلن حداده ووقف مع ابناء المرحوم… والشيطان هنا أخذ يقفز على أصابع يده وقدميه تتشقلب نحو الأعلى لشدة فرحهِ وعيني تراقبهُ بصمتٍ.. ليقتحم رأسي بعثوره على خطة واقناعي بها..
قتل رضيعي؟
نعم هكذا اقنعني بقتلهِ وإلقاء التهمة على ضرَّتي وبإمكاني بعد التخلص منها إنجاب غيره.. في البدء رفضت حبًا بولدي، لكن حب الزوج وعدم تقبل فكرة مشاركتهُ مع أخرى جعلتني اقتنع.
ذهبت نحو غرفة ضرَّتها فطرقت الباب ليفتح لها بوجه مصدوم من الزوجة الثانية فهي تعرف وجودها غير مرغوب فيه..
ابتسمت بمكرٍ وبقلبٍ خبيث ولسان قد تم تنقيعه وسط عسل سام، قائلة: ما حصل قد حصل وأنا لا أملك القرار وما عليّ سوى أن اتقبل الأمر وأتعايش معه.. إن شاركتني زوجي.. هلا عليكِ أن تشاركيني الإعتناء بصغيري؟ ريثما أعود من مجلس عزاء الجيران!! 
فقط عليكِ بعد مرور ساعتين المرورعليهِ لكي لا ينكفئ على وجههِ فيختنق وأعطيه الرضاعة عندما يستيقظ.. هلا أسديتِ لي هذه الخدمة؟

بعين دامعة تريد أن تقفز من محجرها فرحت بما سمعت ورحبت بذلك قائلة: نعم، سأعتني به.
في نفسها لم تكن تعلم بأنها ستتزوج من شخص لديه زوجة لولا حظها كان عاثرًا، جعلها تعاني من قبح أفعال زوجة أخيها، فما كان هناك من خيارٍ سوى القبول بالزواج من ابن عمها هروبًا من ضيق العيش وكدر الخاطر وتراشق الاهانات عليها، وبعضٍ من الركلات التي جعلت جسمها يزرق بسبب التسلط واستغلال الضعف لديها.. تهللت بشائر الفرح ولوحت فوق لسانها (لا تقلقي.. ابنكِ هو ابني!!
لم تعجب الجملة الاخيرة الزوجة الأولى همهمت في صدرها: ألا يكفيها أنها سرقت زوجي والآن ترغب أن تشاركني صغيري.. أحرم نفسي منه ولا أعطيه لكِ..
نزلت إلى غرفتها وأخذت تمسد بيدها ظهر رضيعها فتشمهُ من عنقهِ ومن خلف أُذنه ومرة تقبلهُ من فمهِ واخرى  فوق عينه.. قامت بإرضاعه الرضعة الأخيرة ودموعها تتراقص حزنًا وأخذت تولول بصوتٍ حنين (دللول يا لولد يمه دللول.. دللول يالولد يبني دللول). 
بفيض من الدموع ومرارة في اللسان وضعت الوسادة فوق وجههِ البريء وهي مستمرة تولول مغنية لهُ موالًا.. رفس بقدميهِ الصغيرتين وحرك يديه راجيًا الرحمة من أمه حتّى سكن نحيبه وتوقف عن الحركة فرفعت الوسادة لتجده مزرق الوجه أخذت تقلبه وتحركه.. لم يعد يتحرك (فقد قتلت طفلها).. همس الشيطان لها بأن تقوم بلف حبل القماط حول رقبته لتبدو حادثة قتل.. وقد فعلت.
قام بسحبها من يدها لكي تغادر وتكتمل الخطة حتى لا تذهب هذه التضحية هباءً.. أخذت بتقبيله للمرة الأخيرة ثم وضعته في مهده وغادرت المنزل متجهة نحو عزاء الجيران.. الكثير سألن: أين تركتِ صغيركِ؟
كانت تجيب تركته امانة عند زوجة أبيه!!
تتصافق الكفوف ببعضها وتتصادم العيون مندهشة (يا لها من طيبة القلب، كيف لها أن تترك صغيرها عند ضرَّتها، ألا تخاف عليه؟).
فترد إحداهن (كم إنها أصيلة فعلت هذا وجاءت لتشارك الجار عزاءه..).

جلست تبكي بحرقةٍ كلما صاحت إحدى قريبات الميت كأنها تعيش عزاءً لطفلها وليس كما تظن الأخريات.. حتى تتوالى صرخات وصيحات من منزلها وتسارعت بالركض مع الجميع لترى بأن الزوج قد جعل زوجته الجديدة ترفس بين يديه وسط دمها.. إذ بهِ يدخل ليرى القماط الملفوف حول رقبته يتدلى وهي تحملهُ بيديها.. جن جنونه. 
أخذت أم الطفل تصرخ صراخ الفاقد المفجوع وتقول: قتلت ابني.. تركتهُ أمانة عندها.. قتلتهُ الخبيثة….

رفع قبضته أراد أن ينهي حياتها.. تدخل الجيران وأنقذوا الزوجة الثانية من بين يديه وهي لا تتوقف عن قول (أقسم بالله لم أقتله..).
جاءت أم حازم القابلة غسلت الطفل وكفنته لكي يتم دفنه، والأم من خلفه تلطم على رأسها.. وتم أخذ الزوجة الثانية إلى بيت رجل حكيم كبير قومه، خوفا على حياتها بأن لا يقتلها الزوج حتى ينتهي دفن الصغير ومن بعدها معرفة ما حصل!!.

   ( مجلس حكيم )

الآن فهمت لماذا الشيطان دومًا يضع الفخاخ في طريقي.. رغم انزلاق ألسنة الجميع من حولي بشتيمة الربّ وسيل من الكفر، كان لساني لا يتوقف عن الحوقلة.. واسترجعت كيف أن قدميَّ لا تمس القاع بسبب الضرب المبرح، لم يؤذني بقدر ما هناك في صدري انشق وانسكب شيء ساخن أحرق جوفي وتصاعدت أبخرته لفمي ولساني يبصق مرارة الموقف.. لم أقتلهُ.
هكذا دعاني الشيخ في مجلسهِ قال: أخبرينا بماذا حصل؟
محرجة الوجه المليء بالكدمات والدموع تزخ من العين قالت: دخلت عليّ صرتي طالبة مني أن أراقب الصغير بين الحين والآخر لكي لا ينكفئ على وجههِ فيختنق.. بعد أن سمعت صوت الباب عرفت بأنها قد خرجت وأخذت حوالي العشر دقائق اقتربت من مقبض الباب لأدخل عليه لكن تذكرت الغداء كان على النار أردت اللحاق قبل أن يحترق وبعد ان مضت نصف ساعة رجعت لأرى الطفل، فهو منذ خروج أمه لم يصدر صوتًا، دخلت عليه وإذ رأيت القماط كحبل المشنقة حول عنقه فحملته بسرعة وبدأت أحركهُ وأحاول ضربه عسى أن يكون ما زال على قيد الحياة.. هكذا دخل زوجي ورأى ما رأيت وانهال بالضرب والركلات غير مصدقٍ كلامي.. 
في خضم الدهشة هناك أسئلة تطرح نفسها في ذهن الشيخ، هل يعقل الأم أن تقتل ولدها الوحيد بسبب ضرَّة؟ 
فأرسل خلف الزوجة الأولى وزوجها وسط مجلس فيه جمع من الرجال، أجلس الزوجتين أمام الجميع.. فقال: البريئة منكن تقوم وترفع ثوبها وتكشف عن جسدها أمام الحاضرين!!
لم تتحرك أيّ واحدة.. فقال ثانية: البريئة التي لم تقتل الطفل تقوم وترفع ثوبها وتكشف عن جسدها..
مرت دقيقتان وإذ إبليس يخفض رأسه لاقناع الأم بأن تقوم رافعة ثوبها كاشفة عن سيقانها أمام الرجال وسط المجلس (وقد فعلت).. فقال الشيخ من يوسوس لها إبليس بفعل المحارم فهي بإمكانها أن تقتل، وأنت القاتلة.