loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

جوع الحب

breakLine

 

 

 

رند قنب/ كاتبة سورية

 

في صباح اليوم التالي لحادثةِ تبادل إطلاق النار في الحيِّ الّذي أقطنه لم أقتنع أنها زفة عروس كما قيل فقررتُ أن أبقى مستيقظةً كي أستقصيّ وأعرف حقيقة الأمر. ولأنني أبحث عن الهدوء يوميًا لكتابةِ شيءٍ ما، جهزتُ طاولةً تخصُّ المراقبة والكتابة.  
مفكرتي السوداء، مسرحية ابسن الشهيرة على جانبي الأيسر من المكتب ومنظار صغير في يدي لمشاهدة الحدث المثير عن كثب. 
بدأت أسمع صدًى لأغنية فيروز "يسعد مساك" بوضوحٍ وقربٍ أكثر، قلتُ بنفسي: أيعقل بائع الفول؟ مستحيل! 
أمسكتُ المنظار مرهفة السمع لصدى الأغنية المنبعث من شرفة بيت فريدة، شهقت من صدمتي! 
بيت فريدة، جدرانه بيضاء، في أقصى شرفته شتلات لم تزرع لزهور الكالافيليا. قرّبتُ حدقة المنظار لوضوح المشهد. رأيتُ ركوة قهوة وكوبين، لمن يا ترى؟ 
قررتُ أن أدعم موقعي بكرسي آخر. 
وزعقت مندهشة: فريد! 
كان يقف بقامته الطويلة مرتديًا قميصًا أبيضًا ملطخًا بالفاكهة الرمان محاولًا تنظيفه بمناديل بوجه الرجولي المصبوغ بحفنة طفولة غريبة، ولحيةٍ سوداء قصيرة وشعرٍ معصوب إلى الخلف. وهنا رأيتُ العاشقة تحمل صينية القهوة، تتأبط يد عشيقها الملطخة بالرمان، بشعرها الطويل المتطاير وفستانها الأسود المنقط متجهين صوب المبنى الّذي أسكنه، ونستذكر بأنَّ فريد يملك غرفة مستقلة يقطنها وحده على سطح البناية. 
ولكن متى خرج من السجن؟ سارق حارتنا المحترف، هه! 
ضحكتُ بصمت، مجريةً حديثي الفلسفي مع نفسي: كل شيء مباح بسبيل من نحب.
كنت حين ذاك مرسالًا بينهما عندما اكتشف أبو فريدة أنَّ العاشقين يتلاقيان في السر، مستذكرةً كيف همست فريدة برسالتها الأخيرة حينئذٍ، داميةً باكيةً إثر ضربٍ مبرحٍ: والدي اغتصب حياتي! لم يبقَ إلّا الحبَّ لم يأخذه، وفريد يريد سرقة وقتل بائع الغاز في السوق السوداء وسرقته، امنعيه أرجوكِ! 
يومها، هربتُ مسرعةً حافية أتسلّق الأدراج خفيةً، بيد أنَّ حظها لم يحالفها، لأسمع مجددًا صوت ضربٍ شنيع، ويعلو صوت نشيجٍ قاتل وبكاء متقطع وبكلمات مختنقة: أحب.. ه ..  
ليخرج جميع الجيران يشاهدون كالأصنام على أبواب منازلهم، وما هي إلّا لحظات حتّى وصل صراخ أم فريدة (الحقوني بدو يدبحها).  
تخشّب الجميع مكانهم، لم يحركوا ساكنًا كأنّهم يشاهدون مشهدًا ختاميًا من فيلمٍ عتقي! لتفتح أم عبدو جبّارة بابها قائلةً: أنا سأتصرف. 
جبناء! يحبون الموت! 
واتصلتْ بالشرطة لتحجز الأب طوال تلك الليلة. وقتها قررنا السهر أنا وجارات الحي عند أم فريدة لنجفف دموعها ونضمد جراح الابنة. حاولنا قليلاً خلق جوًّا من المرح مستمتعين بنكت أم عبدو حتّى شروق الشمس. نمتُ حوالي ساعة لأستيقظ مذعورةً، ثمَّ ركضت شارعين باتجاه معتمد الغاز. وصلت متأخرة. رأيتُ فريد مكبلاً بالأغلال لاقترافه أوّل جريمة قتل! 
لم أنسَ يوم قابلته وأطلعني على مكان الاسطوانات رافضًا الاعتراف بسرقته، فهو قاتل بكلِّ الأحوال. 
حسنًا، كفى ذكريات بشعة. أعود إلى الواقع. ظهر صوت أغنية "يسعد مساك" من الأعلى كآية إلهية مُحدَثَةِ الوحي. 
لماذا رفعا صوت الموسيقى؟ هل يضاجعها؟! 
ووخزتُ نفسي من جديد بالدبوس المعلّق في خيالاتي الفاسقة والمجنونة، كم أحسد كل من يدافع عن حبه، بلده، قضيته، معتقداته. وكم تخنقني قوّة من يموت بسبيل حبه وقضيته! طوبى للمحاربين! طوبى كبيرة للعاشقين!
وهنا أسمع صوت أقدامٍ تهبط درج المبنى، كانا يدًا بيد. هي تضع زهرة كلافيلا في كلِّ صدغ، وهو فوقها يمسح صبغة رمان الّتي تزين نهديها. 
وزعقت متعثرةً على وشك السقوط: ضاجِعهَا! 
وازنت جسدي، ورميت حصوة فوق رأس فريدة مترنحة، فَعَرِفَتْ أنها أنا ولوّحت لي من بعيد دون أن تلتفت.  
دخلت إلى غرفتي كي ألبس ملابسي. وقفتُ أمام المرآة متأملةً جسدي المترهل من رأسي حتّى أخمص قدمي، مستذكرة متى آخر مرة قمت فيها علاقة حميمية بشغف.  
بدأت صورهما تزور خياليَ المحروم من لمسة الرغبة. أخذتني خيالاتي إلى أبعد من ذلك: كيف يضاجعها؟ هل من الخلف؟ هل من الأمام؟ 
بعد هنيهة دقت الساعة طاردة خيالاتي الفاسقة نحو أرشيف الذاكرة. خرجتُ مسرعةً إلى الجامعة من أجل أن أحاضر محاضرة الأدب الأوروبي، وأمام بوابة المبنى وجدتُ أم فريدة جالسةً على العتبة مُتَحَشرِجَةً، تخفي كدماتها بشالها الأحمر، حاملة بيديها فطائر السبانخ الشهية. باكيةً ومن خلفها تخرج أم عبدو قائلةً: المطلقات مدللات! 
تورب الباب متلصصة على حديثنا. خُيِّل لي للحظات، أنها تقرأ خيالاتي الجنسية التي كنت أفكر بها منذ برهة. فَأَحمَّرُ خجلًا.  
تقدّمت أم فريدة مترنحةً، تعضُّ على أصابعها المدبوغة بالدم الناشف: سيقتل ابنتي يا جارتي الكريمة هذه المرة، أن لم تعد خلال عشر دقائق. أمسكتُ ذراعها الأيمن بعد أن فقدت توازنها من الألم، لِأُصدَمَ بحرقٍ جديد من الدرجة المتوسطة يستقر في طرف ذراعها. تجمدتُ محاولةً أن استعيد وعيي، أنظر للأبواب حولي الّتي تحولت إلى عيون متلصصة في غضون ثانية. 
(هل خرجت يا جارتي الموقرة؟ لقد أَقسَمَ بقتلها!) وبدأت تئن وتنحب. 
• خرجت لمقابلة عشيقها رغم تهديداته.  
• أنتِ تعلمين يا جارتي كم هي جامحة، وكم تحبك وتحترم كلامك. 
• أين؟ 
• في الغرفة السطح مجددًا... 
دخلتُ مع أم فريدة لأُهدّئ من روعها قاطعةً وعدًا  بإنقاذ حياة ابنتها ،وعداً ندمت  عليه طوال حياتي  . اتّجهت إلى النافذة كاشفة الستار، وجدتهما يمشيان مجددًا باتجاه المبنى. كان فريد يزين شعرها بزهر الياسمين وقت ذاك، أمّا هي فكانت واضعة سماعة أذن تستمتع لموسيقى من إعداده، مرحةً، نزقةً كفراشةْ. 
ودّعتُ أم فريدة: كل شيء على ما يرام، لا تقلقي. 
• هددها بالسلاح البارحة. 
وهنا تأكدتُ بأنّها ليست زفة عروس كما أعتقد أهل الحي، فاصطنعتُ ابتسامةً على شفتيَّ المرتجفتين وركضتُ باتّجاه الدرج، مسرعة، متعثرة بين كل درجة. 
فتحت باب الحديد الموصد مُحَملِقَةً بالعاشقين أمامي. وقفت بلا حراك، فمشهد ممارسة الحب بالنسبة لامرأة هُجِرَت ومطلقة، غريب لدرجةٍ لا توصف. إنه حنينٌ للجسد وحنينٌ لشخص محبٍ وعطوف. كانت حاجة غريبة بالنسبة لي أن أرى الحب هكذا في أعمق درجاته. كانا يتبادلان القبلات بعنف، حاول توزيع لمساته على كلِّ طرف من جسدها الغض. يداها، شعرها، نهداها، يعشق ملامستهما كفاكهة الدرّاق. أمّا هي فكانت تتأمل عينيه الطفوليتين على حدِّ تعبيرها. 
وفي خِضَمِ هذه اللحظات، يُفتَحُ باب الغرفة السطح بعنف، يقف الأب مصوّبًا مسدسه نحو لحظة الحب الأخيرة. 
أطلق رصاصةً أصابت نهدي فريدة. تسقط العشيقة وسط بحرٍ من الدماء. وحتّى يهرب الأب المتغطرس من العقاب، كان قد خطط مسبقًا لحضور الشرطة بعد أن أخبرهم بخبث بأنَّ ابنته ماتت مقتولة على يد عشيقها لأنهم رفضوا تزوجيها إليه.
يزعق الأب ضاحكاً كمجنونٍ متنصر. أحاول التقاط هاتفي من الأرض لأهاتف الشرطة واشرح لهم حقيقة الأمر، ليزعق بصوت أجش: أيتها المعلونة المطلقة! لن أدعك تفسدين الأمر هذه مرة! 
يصوب مسدسه مطلقًا رصاصة تصيبني وفرَّ هاربًا.
هوى فريد أمام جثة حبه النضرة. مدَّ يده المهتزة كي يمسح بقع الرمان عند نهديها صارخًا بجنون: يا جارتنا أمسحي معي بقع رمان، إنه رمان فقط!
يكمل المسح منهارًا. يمسح زهور الياسمين الملونة بدماء الحب الأخيرة. يمسح يديه ويقلبهما منهارًا باكيًا. يندفع طابور من الجيران والشرطة يجرون فريد مُكَبَلًا.
 يشدُّ على يدي: أنه رمان نظيف أرجوك يا جارتنا امسحيه! 
لم أنسَ ذلك المشهد ما حييت، "لقد قَتَلَهم وقتلني جوع الحب" وهويت ساقطةً بدمائي بجانب الضحية.  
استيقظتُ بعد ثلاث أيام لأرى أم فريدة بجانبي تجس نبضي: وأخيرًا يا جارتي وأخيرًا فتحتِ عيناكِ! 
لأتلعثم بصوتٍ خافت: فري...ة! 
لتصدح أغنية "يسعد مساك" في الحي... 
تحشرجتُ باكية: ف ..  ف   ...  
مسدّت شعري بيدها المشوهة: "بياع الفول يسترزق يا جارتي، فريدة ماتت يا موقرتنا ولم تحمها بسبب جوعك للحب.