يعنى بالسرد القصصي والروائي
حسن رحيم || قاص عراقي
إن سلطان الإنسان ينتشر إلى الحد الذي يبلغه عقله.
كريستوفر مارلو
قبل بدء المحاضرة، نهض محمود من كرسيه، ليقف أمام الطلبة، ويعلن بصوت أجش:
- أيها الطلبة الأعزاء، من منكم يقرأ الروايات والقصص، فليتبعني إلى حديقة الكافتيريا، فلدي مشروع جهنمي، سأعلن عن تأسيسه، وسيكون نواة لمشروع عظيم، ربما حلم به أكثركم، لكن لم يعلن عنه، وها أنا سأعلن عن تنفيذه، ولما كان محمود بصوته الأجش وقامته المديدة ولامبالاته واندفاعه، يثير فضول الطلبة لمعرفة ما يروم عمله، خاصة أنه يخلط الجد بالهزل، فمنهم من لم يعر اهتماما لكلامه، ومنهم -بدافع الفضول- يريد أن يعرف ما ينوي عمله، وقسم آخر أبهرته عبارة (من منكم يقرأ الروايات والقصص) فظنوا هذه المرة أنه جاد في كلامه، وما أن أنتهى الدرس، خرج محمود، يتبعه بعض الطلبة وهو يتقدمهم إلى الحديقة وما أن وصلوا، وقف أمامهم وتنحنح، وأشار بيده أن يسمعوا ما يقوله، وكعادته ردد جملته الأثيرة لديه: "إذا كان الكلام من النحاس، فالصمت من ذهب" وأنا اعرف أنكم من الذهب الخالص أيها الأصدقاء الكسالى... ضحك الجميع، وهم بانتظار ما يقوله، صاح أحد الطلبة: قل ما عندك كي نرى البيضة الذهبية التي تخرج من فمك! وبعد أن تنحنح وفتح أزرار قميصه، قال بلهجة الواثق من كلام:
- أيها الأصدقاء، أنا أريد الخير لكم، وأعرف أن جميعكم يحب الأدب، وعلينا أن نعمل إلى تأسيس مجموعة من متذوقي الأدب ونؤسس تجمعاً لقراء الروايات والقصص، ونناقش في كل جلسة ما تروم إليه كل رواية سنقرأها، ونبين جماليات الكتابة وأسلوب الكاتب، وأقترح أن نسمي هذه المجموعة: (جوقة العابثين الأصلاء) ومهمة المنتمي لهذه الجوقة المحترمة، أن يقرأ رواية ويلخصها لنا، أو يقرأ أحدنا وأمام الجميع فصلا من رواية، ثم نذهب إلى ما يبثه الكاتب من أفكار، بعد ان نناقشها، وبهذا ينتهي اجتماعنا لهذا اليوم، وإلى اللقاء غدا لتسجيل أسمائكم، وأرجو ممن ينتمي إلى مجموعتنا أن يؤمن بأهدافها التي سنعلن عنها يوم غد...
**
انضم إلى (جوقة العابثين الأصلاء)، عشرة طلاب، يرأسهم محمود صاحب الفكرة، وهم يجلسون يوميا بشكل دائري في الحديقة، ليقرأ أحدهم فصلاً أو ملخصاً لرواية يختارونها، وتبدأ المناقشة بعد الانتهاء من القراءة. ثم يعقب محمود على الجميع... أنها فكرة رائعة وجهنمية، هكذا كان محمود يردد دائماً على مسامع الجوقة، وكان دوره الأخير في المجموعة ليفسح المجال للأعضاء لغرض تشجيعهم وليستفيدوا من تنظيراته التي تكون صائبة أحيانا، وفارغة في أحيان أخرى، وما أن بدأ دوره في القراءة، انبرى إلى قراءة فصل من رواية (كش وطن)، فبدأ بالاستهلال: (...قبل إعدامه أوصاهم أن يزيلوا النقاط الثلاث) فنشبت موجة هستيرية من الضحك المستمر، قاطعه صوت رباب بالهمس: (جاء الملاك)، نظر إلى الخلف، لم يجد أحداً، فترك الجوقة متجهاً إلى مكتب الاستنساخ المقابل لحديقة الكافتيريا، وما أن دخله حتى تفاجأ بوجود أستاذه.
-صباح الخير.
- أهلا وسهلا محمود.
ألتفت إلى أستاذه، وقال له: لقد قرأت كتابك (الذاكرة والمتخييل) واستمتعت بقراءته، فهلا أعرتني كتابك الثاني عن اللاهوت كما سمعت؟
لم يعر الأستاذ لما قاله محمود اهتماماً، ولم يرد على طلبه بالسلب أو الإيجاب، وبعد صمت دقيقتين، سأله الأستاذ:
- هل قرأت مسرحية (دكتور فاوستيس)؟
- نعم قرأتها، أنها مسرحية عظيمة.
- وماذا تعلمت منها؟
بدأ يسرد على مسامع أستاذه أهم ما جاء في المسرحية، مقارناً بينها وبين مسرحية (الثعلب الرمادي) لمارلو، ويقارن بينهما، وهنا قطع الأستاذ حديثه، ليقول له: لا بأس، لا بأس، ولكنك طلبت كتابي الثاني عن اللاهوت، وأنا أرى أنه من المبكر أن تقرأ هكذا كتاب، وعليك ان تفكك مصطلح المعرفة، كي تضع قدمك على أول السلم المعرفي، وتذكر على قدر سعيك تتسع الأرض.
خرج من مكتب الاستنساخ، تلفه سورة من الغضب الدفين، وكأن سحابة سوداء انقضت عليه، وضيقت بؤبؤي عينيه، فبدت أشجار الحديقة أمامه مجرد أشباح شاخصة تشير إلى المجهول، وهو يردد مع نفسه، ما بال هذا الأستاذ لا يريد ان أوسع مداركي وأغور في متاهات المعرفة، ففي لقاءات سابقة لي معه حذرني من كتب (نيتشة) و(شوبنهاور) والآن لا يريدني أن اطلع على كتابه!
***
قادته قدماه إلى الحديقة المقفرة، وتذكر ما قاله صديقه الذي كان يدعوه دائما (العبقري الأسمر الرمادي) أن المعرفة لا حدود لها، ولابد من السباحة في هذا البحر المتلاطم، أخرج من محفظته ورقة وقلما، وبدأ برسم تخطيط لكتاب ضخم وقد احترقت أطراف أوراقه، وبجانبه رسم قلما على هيأة رمح ينتصب في منتصف الكتاب، لقد كانت محاولة محمود انعكاساً لا شعورياً لغضبه من قول أستاذه: إنه يحتاج إلى سنين ضوئية كي يتمكن من قراءة كتابه الثاني.
كل شيء بدا أمام ناظري محمود معتما، وهو يردد مع نفسه وبسرعة متزايدة: علي أن أبدأ بكسر أقفال المعرفة والدخول إلى فضاءاتها، فبدت له اللوحة التي رسمها كقطعة هلامية بشكل غريب والدخان يتصاعد من القلم الذي رسمه على هيأة رمح متجسداً بشكل إهليلجي. فدب الرعب في جسده، أول وهلة، وتلعثم الكلام بين شفتيه، وبصعوبة بالغة، نطق، ما هذا!؟ ما هذا!؟
- أنا الذي تحالف مع فاوستيس.
- وماذا تريد مني؟
- حان الآن دورك.
- ماذا؟
- أن تحالفت معي ستحقق قوة ساحقة، وسأمكنك من السيطرة على هذه المدينة، وبعدها على البلد، ومن ثم على العالم، ونختم قوتنا بأكبر قوة في الكون، وسنكون سادة المعرفة في كل شيء ...
سيكون ذلك، سيكون ذلك، سيكون ذلك، سيكون ذلك .
وان رفضت فهذا يعني انك استعجلت مصيرك، وإن وافقت ستكون خليفة لوسيفر الذي لا يقهر. وسيكون جنود المعرفة رهن إشارتك.
وافق يا صديقي...
وافق...
وافق...
قل موافق، وسأريك نشوة الانتصار والسطوة التي دعا لها.
نيتشة، وقلوب البغايا اللائي كسرن قلب شبنهاور... كف عن الصمت، وقل: نعم.
***
سارا سوية، وقد غمرتهما نشوة عارمة، والآن انظر ماذا سأفعل، وقد لف الذهول محمود... قال له: سآخذك إلى مغارة الحقيقة، مشيا بخطوات متثاقلة، يصاحبهما الدخان الخارج من القلم الذي رسمه محمود على هيأة رمح، دخلا إلى المغارة، وقد هاله المنظر الذي رآه لجسد فصل عنه رأسه، قال له: انظر، سأعيد الرأس إلى الجسد. وهما على هذه الحال وقد كررها ثلاث مرات، ما بين فصل وإعادة، وقد أصاب محمود الذعر الخوف، وهو غير مصدق ما يراه، إلا ان صوتاً من أقصى أعماق المغارة، أزال عنه هذا الرعب، كان صوت مدوي يهز المكان وهو يردد: "رأس الحقيقة لا ينفصل عن جسدها، فكلاهما متلازمان"
غرقا في الصمت لدقائق، وابتدأ الرمح بالانفصال عن جسد الكتاب، خرجا بسرعة، وهما ينظران إلى اتجاه الرمح، حيث اخترق جدار المادة ليحط في دار أستاذه، ويخبره: إنك لم تتمكن من فصل رأس الحقيقة عن جسدها، ابدأ بنفسك... تلميذك لم يكن كفاوست، ولم يكن كلوسيفر... وخذ هذه اللوحة كي تتذكر دائما أننا نعيش في عالم من العبث.