loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

حتى القطط تعلّمت استغلال الحب!

breakLine

 

 

 

مجيدة الفلاحي
كاتبة | مغربية

 

قررت اليوم أن تكتم أنفاس الكلمات في داخلها، أن تُسكت الحرف قبل أن يولد. إنها في صراع دائم مع الكتابة التي تأخذ منها أكثر مما تعطيها، كأنها تهرب بها منها.. إليها. تبحر معها في عوالم لا نهائية، فتجد نفسها غارقة وسط تياراتها العميقة، تبحث عن ذاتها، عن معناها، وعن سر هذا العالم الذي يزداد غرابة وتناقضًا كل يوم.
قررت أن تكسر هذه الحلقة، أن تخصص هذا اليوم لنفسها ولمن تُحب. اتصلت بأصدقاء افتقدت أصواتهم، وأرسلت رسائل لآخرين، وردّت حتى على تلك التي كانت في الماضي تبدو بلا معنى، وحتى تلك التي كانت تحمل أمنيات  "جمعة مباركة".
كانت كمن يكتب وصيته الأخيرة.. متسامحة حدّ الدهشة مع كل رسالة، حتى تلك التي أبدى أصحابها إعجابهم بها بشكل مبالغ فيه. شعرت بتصالح داخلي غريب، كأنها تتهيأ لرحلة وداع لا عودة منها.
قررت أن تعيش حياة امرأة بسيطة وجميلة؛ تملأ بيتها بالدفء، ترتب الأطباق في المطبخ، تحضّر طعامًا تحبه أسرتها، تخبز الحلوى، تصلح الجوارب، وتعيد ترتيب الملابس التي نسيها الزمن على رفوف الخزائن.
خرجت إلى الحدائق والمنتزهات شاهدت فيلمًا رومانسيًا مع صديقاتها، مارست نميمة خفيفة تليق بمساء خالٍ من القلق، مع طعم الآيس كريم المفضل بنكهة الشوكولاتة والفانيليا…
لم تعد ترى فائدة من كتابة لا تساهم في تغيير العالم ولا تخفف من معاناة الناس، ما جدوى الكتابة التي لا توقف نزيف المحن والآلام؟ 
العالم منذ طفولتها لم يتغير، بل ازدادت حروبه شراسة وتنوعا، القوي يلتهم الضعيف بلا رحمة، ويفرض قانون الغاب تحت ضوء النهار، وأمام أعين الجميع، لا شيء تغير، بل تعقد أكثر.
ما زالت تذكر أيام الطفولة، حين كانت تلعب "الشرطي والحرامي"، وتصرّ دائمًا على أن تكون الشرطي، لأنها كانت تحب العدالة وتكره الظلم. أما اليوم، فالشاشات لا تعرض إلا صور "الحرامية" وهم ينهبون أرزاق الضعفاء ويسلبون أراضيهم، ولا شرطي يظهر.    
بينما هي تقف عاجزة لا حول لها في تغيير العالم او تعديله أو تبدليه…
واليوم ما زالت ترى المشاهد ذاتها، بل أكثر قسوة ووحشية.    
كل من يشعلون نيران الحرب، يقفون على رقعة الشطرنج، وكلهم على بعد خطوة واحدة من "كش ملك" مستعدون لإحراق العالم بمن فيه!
تتذكّر معلّمها حين تحدّث إليهم وهم صغار عن الديمقراطية، عن السياسة، عن حقوق الإنسان، عن القوة والعلم والمعرفة.. كي لا يكونوا مجرّد لقم سائغة في أفواه القوى الكبرى.
لكنها يومها لم تفهم شيئًا، واليوم ما زالت لا تدرك سر لعبة الكبار. ما زالت طفلة تتأمّل العالم بدهشة، وعجز، وأكفّ مرفوعة بالدعاء.
قررت أيضًا أن تتوقف عن مناقشاتها السياسية مع صديقها، إشفاقًا عليه، وهو الذي يتحول كل ليلة إلى قناة تحليلية مفتوحة، يحاول إرضاء نهمها لفهم هذا الجنون. لكنها تعبت.. تعبت من الأسئلة التي لا إجابات لها، ومن عالم ينهار ولا ينصت،
اليوم، قررت أن تتخلى عن الكتابة، وعن نشرات الأخبار، وعن السياسة.
فكلّها صارت متشابهة، لا طائل منها سوى مزيد من الإرهاق، والاكتئاب، وضعف البصر.
التفتت إلى حياتها، فإذا بابنها قد كبر فجأة، ولمعت في عينيه نظرة غامضة.
أمسكت يده، وفي عينيها سؤال يتردد بين نبضة وأخرى، وهمست بهدوء:
–أتحبها؟
ابتسم بدهشة طفولية:
–مَن؟
قالت:
–تلك التي تنام في عينيك، تستيقظ مع ارتعاشة صوتك، وتتسرّب من بين نبضاتك في صمتك الطويل…
أطرق رأسه خجلًا، كأن الحب فضيحة جميلة، كأن قلبه انكشف على حين غرة. ثم قال بصوت خافت:
–نعم، أحبّها.
احتضنته بعينيها وقلبها.. كبرتَ يا ولدي، وصار قلبك يعرف الهوى.
ما أسعد قلبي بك، وما أجمل هذا الحب في عينيك!
أما قطتها "ميرا"، فقد كبرت بدورها، وصارت أكثر عصبية وتمردًا، كأن الحب الذي تمنحه إياها لم يعد كافيًا.
أخذتها إلى الطبيب، فخيّرها بين تعقيمها وسلبها رغباتها الطبيعية، أو أن تفتح لها باب الحرية.
فاختارت لها الحياة، ورأت في عينيها امتنانًا عميقًا، وهي تغادر نحو العالم، تعانق حريتها.
لكنها اليوم عادت، وبرفقتها "Boyfreind" القط وقفا أمام الباب،  يموءان سويًّا: "مياو مياو مياو"…
يطالبانها بالسماح له بالدخول.
فكّرت:
هل تستسلم لمواء الحب هذا؟
هل تسمح لهذا القط، الذي يشبه بعض البشر، بأن يستغل الحب ليسكن مجانًا في قلبها وبيتها؟
أم تطرد هذا الذكر المتسلق الذي جاء يقتات على عاطفة بريئة، وتطرده شر طردة!!..
يا إلهي..
حتى القطط، يا سادة تعلّمت استغلال الحب!