loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

حفيد الحروب

breakLine

 

 

 

 أياد القلعي
قاص | عراقي

 

بدأ الموت يتسلل بداخلي؛ والمدينة تلتحف برداء صامت، نهضتُ من مقعدي من على شاطئ قلعتي التي نبتت هنا، وغازَلَتْهُ وأغرَتْهُ بكل مفاتنها حتى نبت هنا نهراً يروي غابةَ أحلامِهاق لمتأمّليه بعيدا عن غيابات الضباعِ التي تروي وحشتنا القاتلة، وجماجمنا التي صُفَّتْ هناك لتضيف حكاية أخرى من حكايات جدتي الراحلة ومخيلتها العتيقة التي نبأتني بسنين عمري المحشوة بأكداس الرصاص..! كانت الساعة تقارب التاسعة والنصف، اتجهت نحو بيتي وقدماي لا تساعداني على المسير، شعرت أن الموتَ يلاحقني، أحسستُ برجفة باردة تسري في ظهري، تُرى أَضُرِبتُ ولم أشعر بِسَيل دمي الدافئ متدفقاً ببرودة القاتل، عبثتُ بملابسي ومددتُ يدي كالمجنون أتحسس بها ظهري مرتجفاً، ساحباً يدي أنظر إليها مستقرئاً ذلك المنفى المجهول والمستقبل الأصم , كأنَّ شيئا صامتاً يتبع مجريات أفكاري لِيخبرني أنني المجهول!..
أسمع صَفْقَ أقدامٍ خلفي دون أن أرى أحداً هناك،  تقدمتُ بحذرٍ، لكن تقدّمي أجفل فتاةٍ كانت قد خَرَجَت من منزلها للتو مع كلبها الذي هاجمني، فصرخت عليه، لِيرقد تحت أقدامها في الأزقة المعتمة أثناء عودتي، وحينما التفت خلفي لم أرَ أحداً..!
لكني رأيتُ أشباحاً مختلفةً تلاحقني، وتركض نحوي وتهتك ذاك الظلام المخيف بعد رحيل القمر، لأرى كلباً ينبح بصوتٍ منخفضٍ، تَحَرَّكَت أغصانُ الشجرة كأنها تتكسر تحت أقدام متسلقٍ خائفٍ، لم أكن أتوقع أحدا على الإطلاق، تقدمت نحو الشجرة بحذر شديد، فَـقَـفَـزَت قطةٌ من بين أقدامي فَجَمَدتُ وجَفَّ فـمي، ماتت قدماي، ولم أستطع الوقوف، فازدادت نبضات قلبي كحمامة مذبوحة..
تعبتُ فجلستُ للراحة قليلاً لأكمل مسيري فيما بعد، فكل شيء هنا شَملَهُ الخوف حتى نَسِيتُ مدينتي وتلاشت سنينُ عمري. لم أكن أتوقع أحدا بالمرة، ولم أعرف أنه سيلحق بي، رفعتُ رأسي فشاهدتُهُ يقفز بين الأشجار الممتدة مع طول الشارع، ومع إطلاق الخفراء لصافرات الإنذار التي تحظر التجوال ازدادت سرعتي وازداد خوفي. هل يمكن أن أموت هنا؟!.
فلربما أُقتل دونَ أن يدري أحدٌ... حتى أنا، فأخذني الوجل في تلك الليلة حتى شعرتُ بمطاردةٍ حقيقيةٍ وبقدري الحتمي الذي لا يقبل التأويل، فالتَفَتُّ إلى الخلفِ ثانيةً فَلَم أرَ شيئاً..
فعزوتُ ذلك إلى حالة شعورية ناجمة بفعل الإرهاق وتكلّفي فوق طاقتي  فَذَهَبتُ في فكري محاولاً أن أُقنع نفسي أني أتخيّلُ أشياءَ لا وجودَ لها على الإطلاق؛ وهذا ما شاطرني به جميع الأصدقاء، لكنّ إحساسي بوجود مَنْ يتعقبني ويتربص لخطاي.
يرعبني ويُدخِلُ في نفسي الهلع والجنون. مما ولّد لدي بأني سأقتل في أيّ لحظة وهذه الحقيقة هي التي تجول برأسي، ما زالَ الشيءُ نفسه يتكرر معي، والصورة ذاتها ترسم مرة أخرى، وفي ذات ليلة ارتسمت لي نفس الصورة الوحشية؛ فاتخذتُ موقفاً دفاعياً دون أن ينتابني شعورُ الخوفِ والخذلانِ كالمرات السابقة. بتُّ أشعر بمزيدٍ من القوة وأنا أواجه شبح الموت الذي راودني بتلك الوحشية كمن يختزن ركاماً من الغضب والجنون، فمددتُ يدي نحو آلة حديديةٍ بجانب الطريق، لكنَّ أحداً لم يكن هناك , فتصاعَدَت صيحةُ خوفٍ ورعبٍ من أعماق أعماقي!.. ازددتُ غضباً فوق غضبي فانطلقتُ بسرعةٍ نحو خصمي الذي تفاجأ بي على ما يبدو، ولم يفصل بيني وبين بندقيته التي توجهت نحو رأسي سوى إصبعه الذي لم يعانق الزناد حينها، لِيستديرَ هارباً لائذاً بالفرار من صخبي وجنوني في تلك العتمة التي لا تخلو من الأضواء الباهتة التي تتسلل من خلال شقوق أبواب الخشب القديمة المتآكلة، والخوف يدور بطول الزقاق، رأيتُ شيخاً كبيراً.
قلت له: لِمَ تتبعني.. تقدّم نحوي وهمس في أذني: لم ألحق بك يا ولدي، أَعِد ثِقَتَكَ لِمخيّلتك، لا أظنُّ أنّ أيَّ أذىً سيصيبك هنا، لكني أراكَ امتداداً لوجع السنين التي تلت عام 1980،فاختفى من بين عينيّ، فأنذرني شعورٌ أني سأفارق الحياة على يدِ مجهولٍ.
عدتُ مساءً كعادتي في طريقي إلى المنزل أجتاز وحشته وعتمته القاتلة ,وأنا أرتقبه بحذرٍ شديدٍ، وكل شيء يُقْلقُنِي ويُدخِلُ في قلبِي الهلع، حفيف الاشجار، ونباح الكلاب، وأشياء أخرى تنهش هدوءَ مشاعري وتجرُّ أحشائي وتمصُّ أوردتي، لعلّها أخيلة توهمني، أو تهيُّآت طارئة تعتريني لحظات التعب، فمنظر الأشجار لا يروق لي بعد أن تساقطت أوراقها وبدت شاحبةً مخيفةً، فالنخل مقطوع الرؤوس لكنه مازال واقفاً، وعصفورٌ متدلٍ بخيطٍ غادرٍ كان قد لتفَّ على عشّه قبل استشهاد النخلة، وهناك طفلٌ يبحث عن لقمةٍ يسدُّ بها جوعَهُ وسط القمامة، والمدينة جامدة تلفّها كآبة السنين لكن ثمة  أشياء تنبعث من البيوت، أصوات جميلة وأشياء أخرى توحي بالدفء والأمان والسكون، فجانبتُ أحد البيوت فسمعتُ صوتاً جميلاً، تأكدت من الوهلة الأولى أنها إحدى المقطوعات الموسيقية لبتهوفن، ولا أحد يخرج في مثل هذا الوقت الملغوم بالخوف والرعب وجميع الأبواب موصدة على أجساد أهلها المنطوية جسداً بجسد برتابة الحياة المنزلية، وجمال نسائها اللواتي تتمايلُ خصورهنّ في دفء الليل وعنفِ لظى شفاههنّ في موج الشتاءِ وثورة صدورهنّ على شفاه الرجال بأَسِرِّةِ الحنين المجانيّ البعيدِ عن رعب الشارع المفخخ بالموت، وقريباً من بيتنا سمعت صوتاً..! تُرى من؟!.. فثمة من يتعقب خطاي!.. فركضتُ بأقصى سرعتي نحو بيتي، فدخلتُ بابَ بيتنا دونَ وعيٍ، لِيسقطَ أخي بدفعةٍ مني، فوقفتُ مرتعداً خائفاً، طُرِقَ البابُ ثلاثَ طرقات خفيفة..
فتحتُ البابَ... فرأيتني أنا.