يعنى بالسرد القصصي والروائي
بولص آدم
كاتب وفنان سينمائي | عراقي
في صباحٍ غير اعتيادي، خفيف الظل ثقيل المعنى..
جلس "المُنَظّرالأول" على كرسيه في مقهى نصفه ظلال ونصفه أقنعة، يتصفّح صحيفة ميتافيزيقية غير مرخصة. عنوان الصفحة الأولى: "وفاة إلفريدا يلينيك...."
رفع حاجبه الأيسر ببطءٍ نقديّ، ثم ابتسم كما تفعل المجازات حين تُفلت من قبضة الشُرّاح. "يلينيك ماتت مجازياً؟ أم تحوّلت إلى نصّ يفضح موت اللغة؟" تمتم وهو يضيف قطرات خلّ على قهوته بدل السكر، كمن يتذكّر أن طعم الحقيقة دائمًا مرّ، وإن أُلبِست زينة النقد.
في المقابل، كان "المنظر الثاني" جالسًا على شاشة X، يضغط بإصبعه الطويل على زرّ "ريتويت"، مُرفقًا بـ «صدمة: وفاة يلينيك – التفاصيل داخل المقال». لم يفتح الرابط. كان الوقت ضيقًا، والسخرية جاهزة.
لكنّ يلينيك، في مكانٍ ما بين فيينا و"غوغل"، كانت تحيك ردّها بأصابع من ثلجٍ ساخر: "مرة ثانية أكون ميتة؟ يا للملل. لا جديد تحت قشرة الناقد."
في مكانٍ ثالث، لا منبر له إلا الهلوسة، اجتمع عدد من النقاد الأحياء والناشرين الأموات في حلقة مستديرة على شرفة تطلّ على هاوية من التعليقات الساخرة. تبادلوا أخبار الوفيات الأدبية:
–"مات الأدب."
–"بل مات القارئ."
–"أنتم كلكم موتى في صورة قراء غاضبين!" صرخ صوت مجهول من خلف الستارة.
ضحكوا. ثم كتب أحدهم على المناديل البيضاء: "النقد لا يقتل، لكنه يُقيم جنازات فخمة لِمن لا يموت."
وفي ختام اليوم، مرّت قصة "الوفاة المزيفة" من يد منظر إلى آخر. لم يتفحّصوها بحثًا عن الحقيقة، بل أهدوها لبعضهم كما تُهدى كتب الغموض في علبة فاخرة.
في صباحٍ يوم النقد العالمي، كانت الطيور تُغرّد على شجرة التنظير المتعدد. وهي شجرة اصطناعية في حديقة مركز إعادة التوصيفات المفاهيمية.
هناك، تلقّى الدكتور "منظور المصطلحاتي" طردًا غير متوقّع. كان مغلّفًا بكراسة مؤتمرٍ سابق، ومختومًا بشريطٍ لاصق طُبع عليه بخطّ مشبوه الترصيع: "إلى حضرة الناقد الذي اختلط عليه الأمر: إهداء خاص – خلاطة المصطلحات، نموذج أولي."
فتح الطرد بحذر أكاديمي مفرط. وجد بداخله خلاطة صغيرة، ذات شفرات حادة، وغطاء مزيّن بشعار مموّه: "الأدب يتحرّك... ولكن لا تعرف إلى أين."
كان على جانبها تحذير غريب: "تنبيه: الاستخدام غير المُصفى قد يؤدي إلى تكوين مفاهيم نقدية هُلامية لا يمكن العودة منها."
—هامش [1]: راجع كتاب "الكتابة بين المطار والحنين: الهوية في مفترق المكونات", تأليف: أ.ك.ف.ز.م، ط. 7، دار المفهوم العائم.
في مقهى "الهوية المُركّبة"، حيث تُقدّم القهوة بماء نظري مُعاد تدويره، انعقدت جلسة المقارنة. جلس د. منظور مع د. بنيوية، والناقد المتقاعد خميس شكّاك. وضعوا على الطاولة ستة كتب تنظيرية بجلدٍ ثقيل: "أدب المهجر: حنين بلغة مستعارة". "أدب المنفى: العزلة الوجودية كخطاب". "أدب الهجرة: سفرٌ بلا ضمان عودة". "ما بعد الهجرة: الاندماج بوصفه أزمة". "أدب اللاجئين: الكتابة ببطاقة تعريف مؤقتة". "أدب العودة: هوية في منتصف الطريق".
ثم قال منظور وهو يحمل أحد الكتب: "لنُجرّب مزج هذه التيارات. لعلّنا نصل إلى مفهوم شامل... أو على الأقل أكثر غموضًا."
أدخلوا كل الكتب داخل الخلاطة. ضغطوا الزر. ارتجّت الطاولة. انبعث صوت ميكانيكي مبحوح: "الهوية ليست ثابتة... بل تراوغ ذاتها في مرايا استقبال متحوّلة..."
—هامش [2]: راجع كتاب "إعادة تموضع المصطلح في ظل شتات المعنى", تأليف: م.س.ت.ك، ط. 5، دار الجذر.
بينما كانوا يشربون "قهوة التركيز"، وقبل أن يطرح شكّاك مداخلته الخامسة حول الكتابة باللاقرار، انفجرت الهوامش. تطايرت من فوهة الخلاطة أوراقٌ مشبّعة برطوبة المفاهيم القديمة، وعلقت في الهواء كلمات مثل: "اندماج"، "تأصيل"، "ترحيل الذات"، "المنفى الداخلي"، "الكتابة بقدم واحدة"، "أدب اللا أصل"...
في تلك اللحظة، تنابز الثلاثة بخبثٍ مغلف، وبدأت التلميحات..
قالت بنيوية، وهي تقلب ورقة مشتعلة نظريًا: "البعض هنا استخدم خلاطة مستوردة، ألم تفُح رائحة الميتا فكشن؟"
أضاف شكّاك بشكٍّ لزج: "بل هي خلطة ميتافكشن مع ميتا ليبسيس. لا تستغربوا إن خرج لنا عصير ميتافسبس..."
—هامش [3]: راجع الملحق الغامض في كتاب "الميتاهوية: الكتابة بضمير مختلط", د. م.ل.م.، دار مَوانع.
قرأ شكّاك إحدى الأوراق بصوتٍ مرتعش: "إنّ المنفى الهوياتي في أدب اللاهجرة يؤسّس للتماهي مع التفكك بوصفه وطنًا ثالثًا."
ثم تساءل وقد شحب لونه: "هل هذا يعني أنني كتبت في المنفى... دون أن أهاجر؟"
—هامش [4]: من مقدمة كتاب "المهاجر النصي: بين اللغة والمكان والباص 47", د. هوية حنا، طبعة دار المرايا المتقاطعة.
في لحظة صحو، هرباً من الديستوبيا، بعد دقائق من الارتجاجات والمفاهيم المخلوطة. صمتت الخلاطة فجأة. خرج منها دخان خفيف ورائحة أكاديمية. من بين الركام، ظهرت ورقة واحدة فقط.
قرأها د. منظور بصوتٍ واضح: "أدب ما بعد الهجرة ليس أدب رحيل، بل أدب بقاءٍ معطوب. ليس كتابة عن الحنين، بل عن إعادة التفاوض مع الذاكرة. إنه الأدب الذي يسائل المركز لا ليسكنه. يتذكّر، لا فقط يندمج. أدب لا يسافر، بل يعيد رسم الخرائط حيث هو."
—هامش [5]: لم يُنشر هذا المرجع بعد.
نظر الثلاثة لبعضهم. قالت بنيوية: "ربما كان علينا أن نقرأ بدل أن نخلط."
ردّ شكّاك، وقد بدأ يشكّ حتى في شكّه: "وربما الخلط أفضل من بعض الأوراق المنشورة."
ابتسم منظور أخيرًا، ثم أخذ زجاجة الحبر الأحمر من جيبه، وكتب على الخلاطة: "ممنوع الاستخدام قبل إعادة تعريف المصطلح." ووضعها في متحف "التيارات الضائعة"، في جناح خاص سُمّي لاحقًا: "ممرّ الأدب الذي لم يتفق عليه أحد."
وفي زاوية الصفحة الأخيرة من القصة، وُضع الإهداء:
تُهدى هذه القصة من منظرٍ إلى آخر، قبل أن تُحال أطروحاته إلى لجنة الطوارئ للمفاهيم المختلطة، بصفته حالةً نقديةً ملتبسة.